حديقة الأسماء
من ثوابت العلاقة بين الأب و الابن ، أن يحسن الأول اختيار اسم وليده ، لأن الاسم له مداليل كثيرة ، و له تأثيرات نفسية تؤثر على مسيرة حامله ، و لذلك نجد بعضاً يأنس لاسمه و بعضاً ، يحمله على مضض ، و البعض الآخر يتوارى من الناس من سوء ما سمّيَ به ، و لذلك نجد أن الرسول محمد (ص) غيّر أسماء عدد من الصحابة ، عندما وجدها لاتتناسب و حال الرجل ، أو تتعارض مع الطبيعة الإنسانية بل و العقائدية ، فعبد العزى تحول إلى عبد الله ، و حزن إلى يسر ، و حرب إلى سلم ، و عاصية إلى جميلة ، فكما يقرأ الكتاب من عنوانه ، يقرأ المرء من اسمه ، على إن هذه التلازم ليس بقاعدة ، فالكثير ممن يحمل اسم القوة و العزيمة و الشدة ، كأسد و ضرغام و حمزة و عباس ، هو أجبن من الجبان إذا حمي الوطيس ، و اشتد الضراب ، و هو لايقوى إلا على الأضعف منه ، و الكثير ممن يحمل اسم الكرم و البذل ككريم و معطي ، هو أشد قبضاً لكفه من كف الوليد في ساعاته الأولى .
و من يقرأ رجالات النهضة الحسينية ، يكتشف حرص أهل البيت (ع) على استذكار رجالات الإسلام ، من خلال التقيد بإطلاق أسماء محمد و جعفر و حمزة و عبد الله على الأبناء وا لأحفاد ، و إن تعددوا في محيط الأسرة الواحدة ، وقد حلوا إشكالية تعدد الأبناء بعلي الأكبر و علي الأصغر ، أو بمحمد الأكبر و محمد الأصغر ، أو بجعفر الأكبر و جعفر الأصغر ، أو بعبد الله الأكبر و عبد الله الأصغر و عبيد الله ، و هلم جرا .
و هذه إشارة بضرورة إحياء ذكرى رجالات الأمة من خلال إطلاق أسمائهم على الأبناء ، و مع تقدم الحضارة الإنسانية ، و اتساع المدينة صارت أسماء الرجال ، تطلق على الشوارع و الأزقة و المؤسسات الرسمية و الأهلية ، كواحدة من علامات العرفان بالجميل لهذه الشخصيات ، و جهودها المضنية في تحريك عجلة التطور و النمو و الإعمار بأشكالها كافة ، و بهذا يكون أهل البيت (ع) ، الذين هم قدوة البشرية في الخير ، قد ارسوا مثل هذه الخصلة الحضارية.
و لاأعتقد أن تداول الأسماء داخل الأسرة العلوية ، كون حمزة بن عبد المطلب هو عم الرسول (ص)، أو لأن جعفر بن أبي طالب هو ابن عم الرسول (ص) ، و إلا فان للرسول أعماماً آخرين ، و إنما لخصوصية في حمزة و جعفر و فاطمة الزهراء (ع) و غيرهم ، و دورهم الفاعل في تثبيت أركان الحضارة الإسلامية و أوتادها ، هذه الخصوصية هي التي حملت أهل البيت (ع) على استذكار رجالاتها من ذكور و إناث ، و لم يقتصر التكريم على أهل البيت (ع) فقط ، و إنما امتد إلى المسلمين كافة ، فعلى سبيل المثال ، فان جعفر الطيار ، الذي استشهد في معركة مؤتة عام 8هـ ، كان يكنى بأبي عبد الله ، ولهذا صار كنية كل من تسمى جعفراً ( أبو عبد الله ) ، و حسب المصنف : ( و قد درجت تكنية جعفر بأبي عبد الله لمكانة جعفر الطيار عند المسلمين )،
كما صارت كنية محمد ( أبو قاسم ) ، والمحرفة لدى العراقيين ( أبو جاسم ) لمكانة النبي محمد (ص) و ابنه القاسم ، و كنية علي ( أبو حسين ) و كنية حسين ( أبو علي ) لمكانة الأئمة علي (ع) و ابنه الحسين (ع) و حفيده علي (ع) لدى المسلمين.
على أن التسمية و عدمها ، ليست بالضرورة أن تحمل إلينا رسالة ، يؤخذ لها أو عليها كما يقول الفقيه الكرباسي ، فأهل البيت (ع) كان عندهم من الأبناء من اسمه أبو بكر و عمر و عثمان إلى جانب عبد الله و محمد و علي و جعفر و حمزة و مسلم و غير ذلك ، و إنما التسمية كما يضيف : ( كانت و لازالت من المساحة ، التي أخذ الناس فيها حريتهم ، فهناك الكثير من الشيعة ، ممن سموا أبناءهم بزياد و عمر و معاوية و أبي بكر و يزيد و سعد و عثمان و أمثالهم ، كما أن هناك الكثير من السنة ، ممن يسمون أبناءهم بأسماء أئمة أهل البيت (ع) ، و بأسماء آلهم ) .
و إذا امتنع البعض عن تسمية وليده بهذا الاسم أو ذاك فهو عائد لمشاعر ذاتية ، فالكثير يرفض إطلاق اسم ( يزيد ) على ابنه ، لأن مشاعره تنطقه برفض التشاكل مع يزيد بن معاوية المتوفى عام 64هـ ، الذي أقدم على قتل سيد الشباب الحسين بن علي (ع) ، مع إن الإسم سبق حمله غير إبن معاوية ، بل أن البعض ممن يحب أهل البيت (ع) يرفض إطلاق اسم ( زينب ) على ابنته دفعا للتشاكل مع السيدة زينب بنت علي (ع) ، التي لاقت من المصاعب أثناء ، و بعد استشهاد أخيها الإمام الحسين (ع) ما تعجز عن حملها الجبال الرواسي حتى لقبت بأم المصائب ، فهو يظن أنه بذلك يدفع عن وليدته الأذى في شبابها و كهولتها ، مع إن السيدة زينب (ع) المتوفاة عام 62هـ لها مكانة سامقة في الإسلام..
فاختيار الإسم مسألة نفسية ، قد تخضع في جانب منها لخلفيات عقائدية و ولائية أو أن تكون خاضعة لاعتبارات تراثية ، وقد تكون تخليداً لولي أو عظيم أو حبيب أو نسيب ، أو قد تكون اعتباطية لاتميل إلى هذه الشأنية أو تلك ، ولكنها في محصلتها النهائية عملية ذوقية ، تكشف عن مديات الحس المرهف لدى مطلق التسمية ، و لذلك : ( قل لي ما اسمك أقل لك من سمّاك ) ، من حيث أن التسمية كاشفة عن وزن عقل مطلق التسمية و ميزان ذوقه.