المثل السادس عشر: العالم المنحرف
يقول الله تعالى في الآيات 175 و 176 و 177 من سورة الأعراف في مثله السادس عشر: ( واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ ) .
تصوير البحث
الحديث في الآيات الثلاث عن العالم الذي كان في الطريق الصواب والصحيح وبلغ في هذا الطريق مقامات رفيعة، إلاّ أنّه تدريجياً انحرف وطُرد من الساحة الربانية، فيشبّه الله هذا العالم بالكلب ليعتبر الآخرين منه.
شأن نزول الآية
هناك بحث وخلاف بين المفسرين حول المراد من هذا العالم الذي تحدثت عنه الآية. وأكثر المفسرين يعتقد أنَّه (بلعم بن باعورا) فهو من علماء بني اسرائيل وقد نال بعبادته مقامات عليا إلى مستوى انه حصل على اسم الله الأعظم، وأصبح مستجاب الدعوة. وعندما بعث موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) نبيّاً ونال هذا المقام الشامخ، كانت بعثته قد اثارت حسد بلعم، وقد كان الحسد يزداد كل يوم، ويأكل حسناته شيئاً فشيئاً، كما أنَّ هذا الحسد من جهة، وحب الدنيا من جهة اخرى بلغا به إلى مستوى أن لجأ إلى فرعون وبلاطه ليصبح من وعّاظ السلاطين. ففقد بذلك كل افتخاراته وكانت عاقبته السوء. فبيّن القرآن قصة هذا العالم المنحرف ليكون عبرة للآخرين.
يعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم في الآيات هو (أمية بن الصلت) فهو من الشعراء المعروفين في عهد الجاهلية، أسلم في البداية، لكنه بعد ذلك شاكس وخالف; حسداً للرسول ومقام نبوّته.
ويعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم هنا هو (أبو عامر النصراني) فقد كان راهباً مسيحياً أسلم ثم التحق بركب المنافقين، ثم سافر إلى الروم للتحالف مع سلطانه، ثمّ رجع إلى المدينة والتحقق بدينه بعض المنافقين، وبنى مسجد (ضرار) المعروف.
إنَّ القول الأوّل هو أصح الثلاثة، والآخران مستبعدان من حيث أنَّ صدر الآية ( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الّذي... ) قرينة على حكاية قصة تتعلق بالأقوام السالفة.(1)
الشرح والتفسير
( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الَّذي آتَينَاهُ آياتِنَا ) يطلب الله من الرسول أن يحكي للأصحاب قصة ذاك العالم.
المراد من الآيات هو أحكام التوراة ومواعظها، فإنَّ هذا العالم كان عالماً باحكام التوراة ومواعظها، كما كان عاملا بها. ويعتقد البعض أنَّ المراد من الآيات هو الاسم الأعظم، ولهذا كان بلعم بن باعورا مستجاب الدعوة وكان صاحب نفوذ وجاه رفيع في المجتمع.
( فانْسَلَخَ مِنْهَا فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِيْنَ) إنَّ مادة السلخ تعني نزع جلد الحيوان، ولذلك قيل لمن ينزع جلد الخروف سلاّخاً. إلاّ أنَّ كلمة (فاتبعه) لها معنيان:
الف - تعني تبع ولحق، أي أنَّ الشيطان جعل العالم تبعاً له.
باء - أنَّ الفعل استخدم هنا بمعناه لو كان ثلاثياً مجرداً بحيث يكون المعنى أنّ الشيطان اتّبع هذا العالم، بعبارة اخرى: أنّه سبق الشيطان في الضلالة، وتجاوزه مهارة في هذا المجال. مثله مثل ذلك الشخص الذي كان يفعل عملا قبيحاً جداً بطريقة جديدة وكان يلعن الشيطان دائماً على فعله هذا، فظهر له الشيطان وقال: اللعن عليك لا عليَّ، لأني رغم مهارتي في الشيطنة ما كنت أعلم بهذه الطريقة، بل انت الذي علمتني إياها.
وعلى هذا، فالآية تعني أنّ بلعم بن باعورا خُلِّي من آيات الله، وانسلخت هذه الآيات عنه رغم أنَّه كان يحيط بها جميعاً، لكنها انسلخت واتّبع الشيطان، أو أنَّ الشيطان اتّبعه، وكانت عاقبته الشر والشقاء فكان في عداد الاشقياء والضالين.
( وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاهُ ) أي أنا لو أردنا إجباره على البقاء على الحق لفعلنا لكنّا تركناه لنرى ما يفعل باختياره وإرادته، وذلك لأنَّ في الإسلام الاختيار لا الاجبار، ( إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًاً وإمَّا كَفُورَاً )(2) فالله يستطيع أن يجعل جميع الاعمال من قبيل الحج والصوم والصلاة جزءاً من غرائز الإنسان، كما جعل الأكل والشرب، لكنّه لم يفعل ذلك، بل خلق الإنسان حراً ومختاراً ليكون هناك هداية وتكامل وتقدّم واختبار وثواب وعقاب و... ولكي لا تفقد هذه المفاهيم معانيها.
وفي النهاية يكون معنى الآية هو: أنّا تركنا بلعم بن باعورا إلى نفسه، إلاّ أنَّ هذا العالم المنحرف - الذي سبق وأن كان مبلغاً قوياً لموسى(عليه السلام) - تبع الهوى والهوس حباً للدنيا وحسداً من موسى(عليه السلام) وانجذاباً بوعود فرعون، وكان عاقبته الطرد من الساحة الربانية. وعلى هذا، فإنَّ شيئين كانا سبباً لسقوط بلعم بن باعورا هما: أوّلا: حبّ الدنيا والميل إلى فرعون. وثانياً: الهوى واتباع الشيطان.
( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ )، إنَّ الكلاب عادة ذات منفعة متعارفة يفيد منها الإنسان ولذلك يصح اجراء معاملة عليها في الفقه الإسلامي، إلاّ أنَّ بعض الكلاب تكون مسعورة دائماً إثر ابتلائها بداء الكَلَب، وهو مرض يجعلها تلهث دائماً وتصيح، وتفرز سماً، وإذا عضت الإنسان يمكن أن تؤدي هذه العضة إلى موته أو ابتلاءه بالجنون. والكلاب تُعد حينئذ فاقدة للقيمة لا تُجرى معاملة عليها; لأنَّها تفقد الفائدة اضافة إلى ما فيها من مضايقة للآخرين. علائم هذا المرض في الكلاب هو أنَّها تفتح فمها وتحرك لسانها دائماً; وذلك لتخفِّف من الحرارة الداخلية التي تشعر بها، وحركة اللسان عندها بمثابة المروحة التي تدفع بالهواء لتبرّد الجسم. ومن علائمه أيضاً العطش الدائم... وعلى كل حال يكون هذا الكلب مهاجماً.
والقرآن بمثله الجميل هذا يشبِّه العالم المنحرف بالكلب الذي يفقد القيمة ويحمل أخطاراً كثيرة... فحب الدنيا والهوى والهوس يُحرف العالم ويفقده البصر والبصيرة بحيث يصبح لا يميز صديقه عن عدوّه.
( ذَلك مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )، (3) أي أنَّ هذا مثل المجتمعات التي كذّبت بآيات الله فاقصص - أيها النبيّ - على الناس وبخاصة اليهود والنصارى هذه القصص ليعتبروا منها، ولكي يعلموا أنَّهم إذا كذّبوا بايات الله فإنَّ مصيرهم سيكون كمصير بلعم بن باعورا.
خطابات الآية
خطر العلماء المنحرفين
لقد سقط بلعم بن باعورا من مقامه الرفيع من جراء حبه للدنيا وتبعيته للشيطان، وقد كان سقوطه بدرجه أن شبّهه القرآن بالكلب المتوحش الذي لا يرحم شخصاً وكأنّه مجنون. إنّ حب الدنيا والهوى والتبعية للشيطان أجنّت عالماً كان قد حصل على الاسم الأعظم، وكان جنونه بشكل يبدو عطشاناً للدنيا دائماً ولا يبدو مرتوياً منها أبداً، إنَّ عالماً مثل هذا يحمل معه
أخطاراً جمّة نشير إلى بعض منها هنا:
الف - أنَّ عالماً كهذا يكون في خدمة الظلمة، كما هو الحال بالنسبة إلى وعّاظ السلاطين الذين كانوا في خدمة أهل الجور من الحكام والملوك. ومن الواضح أنَّ خطر علماء كهذا لا يقل عن خطر الظلمة ذاتهم.
أراد سلطان في العصور الماضية أن ينفذ مشروعاً خاصاً، فطلب أحد علماء البلاد يسأله عن رأي الشارع في المشروع، فأجابه العالم: (إن رأي الشارع متسع، والأمر يتوقف على إرادة السلطان) أي يمكنه أن يجعل مخرجاً شرعياً لكل ما يريد السلطان.
نعم، انَّ علماء كهذا يمكنهم أن يبرروا ظلم السلاطين الظلمة!
هؤلاء هم الذين يحكّمون أسس الظلم، ويصرفون الناس عن أي رد فعل تجاه الظلم. إن علماء كهؤلاء، استطاعوا فترة حكومة بني امية وبني العباس أن يزوّروا أحاديث الرسول(صلى الله عليه وآله)والأئمة(عليهم السلام) ويمتدحوا في بعضها سلاطين ظلمة من سلسلة بني العباس وبني امية!
باء - أنّ علماء كهذا يمكنهم أن يزلزوا الأسس الاعتقادية للناس; فإنَّ الناس العوام، عندما يشاهدون عالماً غير عامل، يتزلزل اعتقادهم في الدين، بل قد يترددون في حقائق من قبيل الجنة والنار ويوم الحساب والقيامة فيقولون لأنفسهم: (إذا كانت هناك قيامة فالآمرين بالدين والتدين أولى بأن يعملوا لذلك اليوم).
وعلى هذا، فالسلاطين إذا أظلموا على الناس دنياهم، فالعلماء المنحرفون يُظلمون على الناس أُخراهم.
جيم - العالم المنحرف يجرُّ الناس نحو الذنب. إنَّ الدول المخالفة للإسلام أسسوا في القرن الأخير - لأجل مواجهة الإسلام - فرقة ضالة، ولأجل تقوية هذه الفرقة ربُّوا في أحضانهم عالماً منحرفاً استطاع تأليف كتاب أيّد فيه الفرقة واستفاد في تأييده للفرقة من الآيات، وكان كتابه بدرجة من الضلالة بحيث عدّت خدمته للفرقة أكثر من خدمة مؤسسها لها.
من هنا على متعلمي المعارف الإلهية أن يعلموا أن سبب هكذا انحراف هو عدم الإخلاص، فإنَّ بعض الطلاب يبغي العلوم لا لوجه الله تعالى بل لأغراض دنيوية مثل الهوى والهوس وحب الدنيا، وبهذه الأغراض تتهدم آخرته لتصبح جحيماً.
الإنسان مهما بلغ من مقام، عليه أن لا يرى نفسه في أمان من وساوس الشيطان، فإنَّ هذا الاحساس هو بداية الانحراف والسقوط، بل على الإنسان أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، الخوف من الهوى والهوس والوساوس الشيطانية، والرجاء والأمل برحمة الله ولطفه، فهو أرحم الراحمين.
عالم الدين من وجهة نظر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)
ينقل الفقيه الشيخ الأعظم الأنصاري - رضوان الله عليه - في كتابه القيّم (فرائد الأصول) حديثاً جميلا من التفسير الجليل المنسوب للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) نأتي به هنا:
(ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري(عليه السلام) في قوله تعالى: ( وِمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ... ) الآية من أنَّه قال رجل للصادق(عليه السلام): فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون، ومن علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلدون علمائهم؟ فإنْ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.
فقال(عليه السلام):«بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة. أمّا من حيث استووا فإنَّ الله تعالى ذمَّ عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم. واما من حيث افترقوا فلا».
قال: بيّن لي يا بن
رسول الله!قال: «إن عوام اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الاحكام عن وجهها... فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بها بما يؤديه إليهم عمّن لا يشاهدوه. ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله)... وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة... فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم. فأمّا من ركب من القبائح... وآخرون يتعمدون الكذب علينا... فضلوا أو أضلوا اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد (لعنة الله عليه) على الحسين بن علي(عليه السلام)».(4)
سؤال: لماذا كان العلماء المنحرفون أسوأ حالا من جنود يزيد؟
الجواب: إنَّ جند يزيد أعلنوا بصراحة عدائهم، إلاَّ أنَّ علماء السوء بمثابة الذئاب الذين تقمصوا قمصان الرعاة وهم يكيدون بالدين باسم الدين. وواضح أنَّ خطر هؤلاء أشدّ من خطر من أعلن عدائه بصراحة.
إنَّ ما يفتخر به الشيعة هو أنّهم خلال العصور الماضية كانوا تبعاً للمراجع والعلماء الذين اجتمعت فيهم شرائط الزعامة حسب ما أراده الأئمّة(عليهم السلام)، وأنَّهم كانوا ولا زالوا تحت مضلّة وألطاف هؤلاء العظماء.
ولا شكّ أن تقليد علماء زهّاد ذوي بصيرة لا أنّه غير مذموم فحسب بل واجب حسب ما نستشفه من آيات القرآن وروايات
أهل البيت(عليهم السلام).--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
1. مما لا شك فيه أنّ الآية تعني كل شخص يحمل نفس المواصفات المذكورة في الآية، وشأنها شأن باقي الآيات حيث نزلت في مورد خاص لكن شأنها يعم... وبخاصة بالنسبة للآيات هذه فإنَّ هناك حديثاً للإمام يقول فيه: ((إنَّ الآية تعم جميع أهل القبلة)). للمزيد راجع الأمثل ج5 ذيل الآية 175.
2. الإنسان: 3.
3. إنّ هذا الجزء من الآية يدل على حكايتها للعصور السالفة لا عصر النبيّ، لذا كانت الآية تدل على بلعم بن باعورا لا غيره.
4. فرائد الاصول: 58، طبعة المجلد الواحد، رغم أنَّ هناك بحثاً في سند الرواية، لكنها - كما قال الشيخ الأعظم - من حيث النص بدرجة من الاستحكام والجمال حيث تجعلنا نطمئن بمصدرها، كما هو الحال بالنسبة لمضمون نهج البلاغة والصحيفة السجادية، فان مضامينها تكشف عن صحة مصادرها.