الرفق في العبادة
معلوم أمر العبادة أنها على نمطين اثنين : واجبة ومستحبة .
فالاُولى : فرض يلزم الاتيان بها بحدودها وكيفياتها وتوقيفاتها..
والثانية : لك فيها الخيار في إثباتها وعدمه ، إلاّ أنّ الاتيان فيه ثواب مضاعف وأجر جزيل ومردودات ايجابية على شخصيتك وبناءها التكاملي .
وما قد فرضه الله الحكيم سبحانه هو على قدر طاقة الانسان فلم يكلفه مالا يقدر عليه :
( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسَاً إلاّ مَا آتيـها :الطلاق 7).
( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسَاً إلاّ وُسعَها :البقرة286).
( فَمَنْ كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيامٍ اُخَر وَعلى الَّذينَ يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِينٍ :البقرة184).
( وَللهِ على النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطاعَ إليهِ سَبِيلاً: آل عمران97).
( وَإذا ضَرَبتُم في الاَرض فَلَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أن تَقصرُوا مِنَ الصَّلاةِ :النساء101)
( وَلا عَلى المرِيض حَرَجٌ :النور61).
( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ :البقرة185).
( وَمَا جَعلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ :الحج 78).
هذهِ الآيات المباركات وغيرها تخص العبادات الواجبات وليس المستحبات ، وكلّها تتحدث عن مراعاة الله ، فيها طاقة الاِنسان ومقدوره وترفعه عن الاصر ولا تثقل عليه بما يشق عليه وبما يسبب له حرجاً أو
عسراً في أمر من الامور العبادية ، وتفصيل ذلك والوقوف عند كل آية لايتسع لها هذا البحث .
فالله جلَّ جلاله يرفق بهذا العبد ويلزمه بالتكاليف الممكنة والسهلة ويرضى منه باليسير اذا ما جاء وفق الضوابط الشرعية .
ويؤكد هذا ما جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحارث الهمداني « خادع نفسك في العبادة ، وارفق بها ولا تقهرها ، وخذ عفوها ونشاطها ، إلاّ ما كان مكتوباً عليك من الفريضة ، فإنّه لابدّ من قضائها وتعاهدها عند محلها»(1).
المخاطب بالتكاليف والوعظ والنصح هو الاِنسان ، والاِنسان إنسان بعقله إذ لا يحاسب إلاّ على قدر ذلك العقل الذي آتاه الله .
ولهذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام قد خاطب في كتابه الشريف العقلَ وحمّله مسؤولية مخادعة النفس وعدم تفويت الفرصة على مخادعتها والمكر بها قبل أن تمكر هي به ، فخداع العقل ومكره يعني التخطيط السليم للهدف السليم ، وخداع النفس ومكرها هو على العكس من ذلك ، فمن أراد كبح جماح نفسه وتحرير إرادته وعقله من أسر هواها ، فما عليه إلاّ أن يجعل المبادرة بيد عقله حتى يسجّل في ميدان الصراع سبقاً وغلبة على نفسه الاَمّارة بالسوء .
ولما كانت النفس تميل إلى التحلل من التكاليف ومنها العبادة ، فما على العقل إلاّ أن يمكر بها ويخدعها بخطة خفية يبرمج فيها أوقات هذه النفس على ما ليس فيه الملل من العبادة التي لابدّ من الالتزام بها لاِسعاف وجودها العاقل حتى تنمو وتسمو وتتقدم في مدارج الكمال .
والرفق بها في هذا المجال يعني عدم تحميلها ما لا تطيق من المسنونات المستحبة ككل ما جاء من الاوراد والاذكار والادعية والصلوات ، إذ إن قهرها على ذلك يولّد ردة فعل معاكسة ـ والعياذ بالله ـ تسأم فيه الاِسلام كله ، فلابدّ إذن من الرفق بها وأخذها بالتدريج وبما تتسع له حركتها ونشاطها ، بل وعدم أخذها بما يوقف حركتها أو يحدّ من نشاطها وينفّرها من المستحبات ، بل عليه أن يقهرها في الواجبات على وفق الشروط والحدود والاَوقات ، لاَنها تكاليف من الحكيم الرحيم على قدر الطاقة والسعة . وما تَعلّلُ النفس وتسويفها إزاء تلك الواجبات إلاّ طغيان منها يجب قمعه من أجل إصلاحها .
والنفسُ كالطفل إن تُهمله شبّ * على حبّ الرضاعِ، وإن تفطمه ينفطمِ
فالرفق بالنفس وترويضها على العبادة المستحبة التي تطيقها هو السبيل الاَمثل في منهجية التكامل ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « خذوا من العبادة ما تطيقون ، فإنّ الله لا يسأم حتى تسأموا » (2).
وعن حفيده الاِمام الصادق عليه السلام :« لا تُكرِّهوا إلى أنفسكم العبادة » (3).
فمن أكره نفسه على العبادات المستحبة بما تملّ منه فقد كرّه العبادة إلى نفسه .
اعداد وتقديم : سيد مرتضى محمدي
القسم العربي – تبيان
المصدر:
(1) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المعتزلي 18 : 42 كتاب 69 .
(2) كنز العمال : خبر 5301 .
(3) الكافي 2 : 86 | 2 باب الاقتصاد في العبادة .
الإحسان سبيل السمو
فرق التربية عن الأخلاق
التربية البدنية من وجهة نظر الإسلام