بُرهان النّظم ( 2 )
وعلى ضوء هذه القاعدة يقف العقل على الخصوصيات الحافة بالعلة، ويستكشف الوضع السائد عليها، ويقضي بوضوح بأَنَّ الأَعمال التي تمتاز بالنظام والمحاسبة الدقيقة، لا بد أَنْ تكون حصيلة فاعل عاقل، إستطاع بدقته أن يوجد أثره وعمله، هذا.
كما يقضي بأنَّ الأَعمال التي لا تُراعَى فيها الدّقة اللازمة والنظام الصحيح، تكون ناشئة عن عمل عامل غير عاقل، وفاعل بلا شعور ولا تفكير، فهذا ما يصل إليه العقل السليم بدرايته.
ولتوضيح الحال نأتي بالمثالين التاليين
المثال الأول: لنفترض أَنَّ هنا مخزناً حاوياً لأطنان عدة من مواد البناء بما فيها الحجر والحديد والإِسمنت والجص والخشب والزجاج والأَسلاك والأنابيب وغيرها من لوازم البناء، ثم وضع نصف ما في هذا المخزن تحت تصرف أَحد المهندسين أَو المعماريين، لينشئ به عمارة ذات طوابق متعددة على أَرض منبسطة.
وبعد فترة من الزمن جاء سيل جارف وجرف ما تبقى في المخزن من مواد الإِنشاء وتركها على شكل تل على وجه الأرض.
إِنَّ العمل الأَول (العمارة) قد نتج عن عمل وإِرادة مهندس عالم.
أَمَّا الثَّاني (التل) فقد حدث بالفعل الطبيعي للسيل من دون إِرادة وشعور.
فالعقلاء بمختلف مراتبهم وقومياتهم وعصورهم يحكمون بعقلانية صانع العمارة، ومدى قوة إِبداعه في البناء، من وضعه الأعمدة في أَماكنها المناسبة وإِكسائه الجدران بالمرمر، ونصبه الأَبواب في مواضعها الخاصة، ومدّه الأَسلاك وأَنابيب المياه الحارة والباردة ووصلها بالحمامات والمغاسل، وغير ذلك مما يتبع هندسة خاصة ودقيقة.
ولكن عندما نخرج إلى الصحراء كي نشاهد ما صنعه السيل، فغاية ما نراه هو انعدام النَّظام والترتيب فالحجر والمرمر قد اندثر تحت الطين والتراب، والقضبان الحديدية قد طرحت إلى جانب، والأَسلاك تراها مقطعة بين قطعات الآجرّ، والأَبواب مرمية هنا وهناك، وغير ذلك من معالم الفوضى والتبعثر. وبشكل عام، إِنَّ المعدوم من هذا الحشد هو النظام والمحاسبة، إِذ لا هندسة ولا تدبّر.
فالذي يُستنتج أنَّ المؤسس للبناء ذو عقل وحكمة، والمُحْدِث للتل فاقد لهما، فالمهندس ذو إِرادة والسيل فاقد لها، والأَول نتاج عقل وعلم، والثاني نتاج تدفق الماء وحركته العمياء.
المثال الثاني: لنفترض أنَّنا دخلنا إلى غرفة فيها شخصان كل منهما جالس أمام آلة طابعة يريدان تحرير قصيدة لأحد الشعراء فالأول يحسن القراءة والكتابة، ويعرف مواضع الحروف من الآلة والآخر أمّي لا يجيد سوى الضغط بأصابعه على الأزرار، فيشرعان بعملهما في لحظة واحدة. الذي نلاحظه أنَّ الأول دقيق في عمله يضرب بأصابعه حسب الحروف الواردة في القصيدة دون أن يسقط حرفاً أو كلمة منها.
وأَمَّا الآخر، الأُمي البصير، فيضرب على الآلة دون علم أَو هدىً ولا يستطيع أَنْ يميز العين من الغين، والسين من الشين: ونتيجة عمله ليست إِلاّ الهباء وإِتلاف الأَوراق، ولا يأتي بشيء مما أَردناه:
فنتاج الأول محصول كاتب متعلّم، ونتاج الثاني محصول جاهل لا علم له ولا خبرة ولو أُعطي المجال للألوف ممن كف بصرهم وحرموا لذة العلم والتعلم أَنْ يحرروا نسخة صحيحة من ملايين النسخ التي يحررونها لاستحال ذلك، لأَنهم يفقدون ما هو العمدة والأَساس.
ولعلَّنا نشاهد في كل جزء من هذا الكون مثل تلك الصفحة التي حررت فيها قصيدة الشاعر وترانا ملزمين بالإعتراف بعلم ومعرفة وحسن أُسلوب كاتبها ونجزم بأَنه بصير لم يكن فاقداً للعلم، ولم يكن فعله مشابهاً لفعل صبي رأى نفسه في غرفة خالية، فطرق في خياله أَنْ يلهو ويلعب على آلة طابعة كي ينتج تلك الصفحة من قصيدة الشاعر.
وبعد ذكر الأَمثلة المتقدّمة يتَّضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إِرادة وتدبّر، والتي تحدث عن طريق الصدفة، إِذ لا إرادة فيها ولا تدبر.
وهذه القاعدة التي يدركها العقل (لا بفضل التجربة بل في ضل التفكر والتعقل) هي روح برهان النَّظم الذي هو من أَوضح براهين الإِلهيين في إِثبات الصانع ورفض الإِلحاد والمادية، واشملها لجميع الطبقات. وملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدمة على العالم، هو أَنَّ العلم لم يزل يتقدم ويكشف عن الرموز والسنن الموجودة في عالم المادة والطبيعة والعلوم كلها بشتى أَقسامها وأَصنافها وتشعبها وتفرعها تهدف إلى أمر واحد وهو أَنَّ العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أَدق الأَنظمة والضوابط، فما هي تلك العِلَّة؟ أقول: إنها تتردد بين شيئين لا غير.
الأول: إنَّ هناك موجوداً خارجاً عن إطار المادة عالماً قادراً واجداً للكمال والجمال، قام بإيجاد المادة وتصويرها بأدق السنن، وتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته اللامتناهية، أوجد العالم وأجرى فيه القوانين، وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهداً في كشفها، ومستغرقاً في تدوينها، وهذا المؤثر الجميل ذو العِلم والقدرة هو الله سبحانه.
الثاني: إِنَّ المادة الصَّماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، وليست مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإِجراء القوانين الدقيقة، وأَضفت على نفسها السُّنن القويمة في ظل إِنفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت على مر القرون والأَجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أَدهش العقول وأبهر العيون.
إِذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمة الرابعة لبرهان النظم، وهي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما، فلا شك أنها ستدعم أُولاهما وتبطل ثانيتهما لما عرفت من أنَّ الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأَثر، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلّة، فالسّنن والنُّظم تكشف عن المحاسبة والدقة، وهي تلازم العِلْم والشعور في العلَّة، فكيف تكون المادة العمياء الصمَّاء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السُّنن والنُّظم؟.
وعلى ضوء ذلك فالسُّنن والنُّظم، التي لم يتوفق العلم إِلا لكشف أَقل القليل منها، تثبت النظرية الأولى وهي احتضان العلَّة واكتنافها للشعور والعِلْم وما يناسبهما، وتبطل النظرية الثانية وهي قيام المادة الصَّماء العمياء بإِضفاء السُّنن على نفسهابلا محاسبة ودقة بتخيل أَنَّ انفعالات كثيرة، حادثة في صميم المادة، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان "الصدفة" أو غيرها من الصراعات الداخلية التي تلوكها أَلسنة الماركسيين.
وعلى ذلك فكل علم من العلوم الكونية، التي تبحث عن المادة وخصوصياتها وتكشف عن سننها وقوانينها، كعملة واحدة لها وجهان، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصياتها، ومن جانب آخر يعرّف موجدها وصانعها. فالعالم الطبيعي ينظر إلى واحد من الوجهين كما أَنَّ العارف ينظر إلى الجهة الأخرى والعالم الربّاني ينظر إلى كلتا الجهتين ويجعل الأُولى ذريعة للثانية. وبهذا نستنتج أنَّ العلوم الطبيعية كلها في رحاب إثبات المقدمة الرَّابعة لبرهان النظم، وأَنَّ اكتمال العلوم يعين ذلك البرهان بأوضح الوجوه وأدقّ الطرق، وأَنَّ الإِعتقاد بالصانع العالم القادر يصاحب العِلْم في جميع العصور والأَزمان.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني. ج 1.ص33-42.
الفطرة والعادة
أمثلة من نظام الخلق الدالة على وجود الله
الطّرق إلى معرفة الله
ما هي جذور الدين في الفطرة الانسانية؟
برهان الإِمكان ( 1 )
بُرهان النّظم ( 1 )
التوحيد الذاتي