يا ضامن الغزالة!(آهو)۵
يا ضامن الغزالة!(آهو)١
يا ضامن الغزالة!(هو)٢
يا ضامن الغزالة!(هو)٣ يا ضامن الغزالة!(هو)٤ طفَح صبرُ الصياد، وبَدا عابِس الوجه.. لا يَكُفّ عن التَّمتَمَة:
« أدري أنّ الغزالة لا تعود! ». أوصاه أبو الحسن الرضا بالصبر. وأبو الحسن الرضا يعلم أنّ الغزالة في الطريق وأنّها ستأتي وأطفالُها معها. كان أصحابه قد يَئِسوا من عودة الغزالة. وكان الصياد يلوم نفسَه على أنّه قد تَساهَل فجعل الغزالة تُفلِت من يده! قال يخاطب نفسه: « أرأيتَ كيف صِرتَ أُضحُوكة للناس ؟! ».
فجأةً.. صاح أحدُ أصحاب أبي الحسن الرضا، وهو ينظر إلى الأُفُق واضِعاً كفّه على جبهته يُظلّل لعَينَيه من الشمس، صاح:
ـ انظروا.. الغزالة.. الغزالة!
التَفَت آخَر إلى حيثُ أشار الأوّل، وقال:
ـ نعم.. ها هي الغزالة آتية!
ونظر جميع أصحابه إلى تلك الجهة، وتَطلّع الصياد إلى هناك، فقال مُندَهِشاً:
ـ ليست وحدَها! يَتبَعُها عدد من الخُشوف!
قال أبو الحسن الرضا للصياد بابتسامة:
ـ حتّى الغزلان تلتزم الوفاءَ بالعهد.
هزّ الصياد رأسَه كَمَن يستيقظ من نوم ثقيل, وهو يُعايِن هذه الحادثة العجيبة، قال:
ـ هذه الغزالة.. هذه الغزالة علّمتني درساً.
وأضاف:
ـ فَتَحَت عيني على حقيقة ما كنتُ أراها، يا أبا الحسن.
قال أبو الحسن الرضا:
ـ الحياة بدون الفضائل والأخلاق تُمسي شاقّة مَشقّةً يتمنّى معها الإنسانُ الموت.
وصلت الغزالة لاهِثةَ الأنفاس من طُول الطريق، ووصل معها صغارها. دُهِش الجميع، ثمّ التَفُّوا حولها وحول صغارها بإعجاب وترحيب.
رَفَعت الغزالة رأسَها أمام الرجل الهاشمي البهي تَتطَلّع من عُمق كيانها إليه. تَشَرّبت روحُها بعطرِ حُضُور أبي الحسن الرۆوف. ومرّةً أُخرى عاوَدَها الإحساس الغريب الذي جَرَّبَته عندما التَقَت لأوّل مرّة بالرجل الرۆوف. وشعرت بالأمن والنَّشوَة في هذا العطر الذي يَعبَق من مَحضَرِه. وفي لحظة انتبهت الغزالة إلى شيء كانت غافلة عنه! شعرت أنّ هذا الرجل الهاشمي الوَدُود كأنّما هو يَعرِفُها ويُداريها منذ آلاف السنين، وأنّها هي أيضاً تعرفه.. كأنّما صميمُ وجودِها مرتبط به! ترى.. لماذا كانت غافلة عنه كلّ هذه الغفلة ؟!
وبهُدوء.. انحنى الرضا صلوات الله عليه وأحاط فمَ الغزالة الرَّطيب بكَفَّيه، وأخذ ينظر إلى عين الغزالة الوفيّة المُشرِقَة الجمال. كانت عيناها تَلمَعان تحت الشمس مِثلَ فِصَّي عقيقٍ أزرق.
قال لها الرضا الرۆوف:
ـ ما في عَينَيك غير النَّجابة أيّتها الغزالة الوفيّة. ما كنتِ مضطرّة أن تأتي إلى هنا وتُلقي بنفسك إلى التَّهلُكة.
تَرَقَرقَت الدموع في عيون أصحاب الرجل الرۆوف، وقلوبُهم تَخفِق من هذا الذي رأوه. اقترب الصغار من الرجل الطيّب، وأحَسُّوا بعطرِ وجودِه العَذب يَمُوج في الهواء. اختَفَى من داخلهم الخوف الذي كان يُعذِّبهم، وأمِنَت قلوبُهم الصغيرة رغم وجود الصياد قريباً منهم.
لاطَفَهُم أبو الحسن الرۆوف واحداً واحداً. وخَطَر في قلوب الصغار: « ما أعذَبَ الحنان في هذه اليد، وما أكثَرَه! ». نظرت عيونهم إلى عينَي أبي الحسن الرۆوف.. فامتلأوا رحمةً ورأفة.
تَقَدّم الصياد ـ وقد تَبدَّلت نفسيّته ـ وقال لأبي الحسن الرضا باحترامٍ ظاهر:
ـ يا ضامنَ غزلان المرج! يا مأوى الغزلان الحائرة! يا كهفَ الأمن والأمان.. مَن أنتَ لتكون لك كلّ هذه الكرامة ؟! رأفَتُك تُغري الغزلان الهاربة أن تعود باختيارها إلى الأسر! فَضلُك يَجري في القلوب مثل ينبوع النور. أنت الكمالُ بعضٌ منك أيّها الهاشمي البهي يا واهب الرحمة. جَمالُك هذا المُحَيِّر.. أين منه جَمال يوسف الصدّيق ؟! جمالُك يُلَيّن القلوب الحجريّة، ويجعلها طَيّعةً كالشمع. أسَرَتني هذه المعجزة التي رأيتُها منك، وجَعَلَتني طَوعَ يديك. بقلبي أراك الآن أيّها الرجل الإلهي.. يا مَظهَر النَّجابة والإنسانيّة والإيمان. مُرْني يا سيّدي بما تُريد، فأنا في خدمتك.
أضاف الصياد بمَوَدّة وخضوع:
ـ من أجل عَينَيك سأُطلِق سَراح الغزالة، وسأتخلّى منذ اليوم عن قوس الصيد وسِهامه لتعيش الغزلان في أمان. سأجِدُ مِهنة أخرى أكسِب منها الرزق. أترُك الصيد والقَنْص لكي لا تُسفَك دماء الغزلان الرقيقة البريئة.
جَثا على رْكبَتَيه تأدُّباً. وضع القوسَ والسهمَ والجَعبَة على الأرض، وقَبّل طرفَ عباءة الرجل الهاشمي الكريم، ثمّ قام واقفاً وحَنى رأسَه بخشوع.
مَدّ أبو الحسن الرۆوف يديه، فاحتضن الصياد ضاغطاً على صدره بصدره. أحسّ الصياد بعُذوبة مُدهِشة تَسري في كلّ ذرات وجوده، ووجد نفسه خفيفاً يكاد يطير.. كأنّه ليس من لحم ودم! كأنّ قلبه في عالَم شفّاف ليس من عالَم الأرض. طَبَع قُبلة على كتف مولاه الرضا، وهو يَوَدّ أن لا يرفع رأسه عن هذه الكتف الحَنُون، وكأنّه طفل صغير يريد أن يغفو على كتف أبيه الشفيق.
أخيراً.. رفع الصياد رأسه، وابتسم له الرضا مرّةً أُخرى، ثمّ عَوَّضه عن ثمن الغزالة باكثرَ مِمّا يَتَوقّعُه. وتَقبّلَها الصياد هديّة ثمينة من يد الرجل الإلهي المُبارك السَّخي.
هَبّتَ نَسائم الريح رَخِيّةً لَيّنة.. فعَبَق في الفضاء عطرُ الأزهار والرَّياحين. خَفَضَت الأزهار رۆوسها، وأطلَقَت الطيورُ مَناقيرَها بأجمل التَّغريد. كأنّ معزوفة ربيعيّة كبيرة تَعزِف الآن في مِهرَجان الحُبّ والرأفة والوفاء.
المرج ـ طِيلَة عُمره المَديد ـ لم يَرَ مثلَ هذا المنظر المُحَبَّب الجميل. وهو لا يذكر إطلاقاً أنّ صياداً قد ألقى عُدّة القَنْص على الأرض ليَهجُر صيدَ الغزلان إلى الأبد. الأمن والحرية يَمُدّان ظِلالَهما الفسيحة على المرج، وقطيعُ الغزلان العَطشى يتجمّع حول النبع، والنسيم يَقُصّ بحرارةٍ قصّة الغزالة التي تَفَضّل عليها بالحرية الرجلُ الهاشمي الطاهر.
هَمَس أبو الحسن الرضا في أُذُن الغزالة:
ـ أنتِ طليقة.. أنتِ حُرّة لللأبد. يمكنكِ أن تذهبي مع صغارك إلى حيث تشائين
.لا تدري الغزالة كيف تَذكّرَت فَجأةً الحكاية. أشرَقَت ذاكرتُها وهي تَستَعيد بسرعةٍ خاطفة حكاية الغزالة القديمة. سَمِعَتها هي من أُمِّها.. يَتَناقلُونها بافتخار جِيلاً بعد جيل. غزالة من أجدادِهِم وَقَعَت يوماً في أسر صياد من الأعراب.. تماماً كما وقعت هي أسيرة هذا الصياد. في ذلك اليوم كان النبي يمرّ من هناك. استجارت به الغزالة مُتوَسِّلَة به أن تذهب فتُرضِع وَلَدَيها وتعود. ضَمِنَها النبي.. فرَضَعَت طفليها ورجعت. وكما حدث لها هي.. أطلَقَ النبي تلك الغزالة الوفيّة. ويذكرون أنّها عاهَدَت النبي في ذلك اليوم على محبّة الغزلان له ولأهل بيته. إنّ النبي الذي حَرّر تلك الغزالة هو جَدُّ هذا الرجل الهاشمي الحبيب الذي أجارَها وأهدى لها الحرية. قالت في قلبها: « إنّي عاجزة عن شُكرِه ». ثمّ نظرت إليه بابتسامة كلّها اعتراف بالجميل.
حَطّت فَراشاتٌ مُلَوّنة زاهية على كتف الرجل الطاهر الوَدُود. وألقَت الغزالة نظرةً أخيرة على ضامنها العزيز. وبعد لحظات من التأمُّل خَفَضَت رأسَها أمامه، ثمّ التَفَتَت إلى حيثُ النبع.. وسارت يَتبَعُها أطفالُها الصغار، وهم يتراكضون فَرَحاً ومَرَحاً، وفي وِجدانهم انطبعت إلى الأبد صورة الرجل الهاشمي الرۆوف.
أطلَقَت الطيور أغاريدَها العذبة، وتراقصت أغصان الشجر بِهَبّةٍ هادئة من النسيم، فاهتَزّت الأعشاش كالمَهد. وكانت الشمس في سمائها العريضة تُهدي لأهل الأرض أنوارَها الجميلة.. وعادت الحياة إلى أرجاء المرج الأخضر الوسيع.
كانت الغزلان بانتظار وصول الغزالة المُحرَّرة لاستقبالها بحرارة، وللاحتفال معها بهذا النصر.. والعصافيرُ تُزَقرِق بين الغصون، وتُنشِد معاً أُنشُودة الصداقة والمحبّة.
وصلت الغزالة إلى النبع، ووجدت نفسَها وسط نظرات الغزلان الناطقة بالمدح والثَّناء. الجميعُ يَرَون أنّ هذه الغزالة قد باركَتها رأفةُ الرجل الطاهر الذي أنقذها وأكرمها بالحرية تُحفةً لا تُقَدَّر بثمن.
تأليف:حسين زاهدي
المصدر: شبکة الامام الرضا عليه السلام