تحليل الملاكين في ضوء القرآن الكريم
اذا كان الملاك في توصيف المعاد بالجسماني والروحاني هو كون المحشور الجسم الحي وحده أوالروح وحدها … فالقرآن الكريم يصدّق الأول وينكر الثاني، وذلك أنّ من أمعن النظر في الآيات الواردة حو ل المعاد يقف على أنّ المعاد الّذي يصر عليه القرآن هو عود البدن الذي كان الإنسان يعيش به في هذه الدنيا، ولا يصدّق عود الروح وحدها فقط. ويظهر ذلك من ملاحظة أصناف الآيات الواردة حول المعاد، ونحن نأتي فيما يلي بلفيف منها:
إن القرآن الكريم يصدّق كلا المعادين بهذا الملاك حيث يثبت اللذات والآلام الجسمانية والروحانية، ولا يخص الثواب والعقاب بما يعرض للنفس عن طريق البدن، وبواسطته.
1ـ ما ورد في قصة إبراهيم وبقرة بني إسرائيل وإحياء عزير، وأُمّة من بني إسرائيل وأصحاب الكهف.
2ـ الآيات التي تصرح بأنّ الإنسان خلق من الأرض وإليها يعاد، ومنها يخرج.
يقول سبحانه: "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى"(طه:55).
ويقول سبحانه:"ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا"(نوح:18).
ويقول سبحانه: "ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ"(الروم:25).
ويقول سبحانه "قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ"(الأعراف:25).
3ـ الآيات التي تدل على أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث والقبور، مثل قوله سبحانه: "فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ"(يس:51).
وقوله تعالى: "يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ"(القمر:7).
وقوله تعالى: "يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُب يُوفِضُونَ"(المعارج:43).
وقوله تعالى: "أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور"(الحج:7).
وقوله تعالى: "وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ"(الإنفطار:4).
وقوله تعالى: "أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ"(العاديات:9).
4- ما يدل على شهادة الأعضاء. قال سبحانه: "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(النور:24).
وقال تعالى: "وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"(يس:65).
وقال تعالى: "حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ"(فصلت:41).
5- ما يدل على تبديل الجلود بعد نضجها وتقطّع الأمعاء. قال سبحانه: "ركُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَر"(النساء:56).
وقال سبحانه: "وَسُقُوا مَاءً حَمِيًما فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ"(محمد:15).
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في مواقف القيامة، ومشاهدها، ونعيم الجنة وعذاب الجحيم، التّي لا تدع لمريب ريباً في أنّ الإنسان سوف يبعث بهذا البدن العنصري الذي تكون له الحياة بالنحو الذي كانت له في الدنيا، وهذا مما لا نشك فيه.
هذا كله حول الملاك الأوّل، وإليك البحث في الملاك الثاني الذي حاصله أنّ اتصاف المعاد بالجسماني أو الروحاني، يرجع إلى كون الثواب والعقاب جسمانيين فقط، وأنّ هناك لذات وآلام روحية تلتذ بها النفس أو تتألّم، ولادخالة للجسم في حصول اللّذة والألم.
إن القرآن الكريم يصدّق كلا المعادين بهذا الملاك حيث يثبت اللذات والآلام الجسمانية والروحانية، ولا يخص الثواب والعقاب بما يعرض للنفس عن طريق البدن، وبواسطته. وإليك ما يدل على ذلك:
أما ما يدل على الثواب والعقاب الجسمانيين، فحدّث عنه ولا حرج، فالجنة والنار وما فيهما من النعم والنقم يرجعان إلى اللذات والآلام الجسمانية. وإنما الكلام فيما يدل من الآيات على اللذات والآلام الروحية فقط، وفيما يلي نذكر بعضاً منها:
1ـ لذة رضاء المعبود
يقول سبحانه: "وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم"(التوبة:72).
فترى أنهّ سبحانه يجعل رضوان الله في مقابل سائر اللّذات الجسمانية، ويصفه بكونه أكبر من الأولى، وأنّه هو الفوز العظيم.
ومن المعلوم أنّ هذا النوع من اللذّة لا يرجع إلى الجسم، بل هي لذّة تدرك بالعقل، والروح في درجتها القصوى.
وهنا كلمة مروية عن الإمام الطاهر علي بن الحسين قال: إذا صار أهل الجنة، ودخل ولىّ الله إلى جنانه ومساكنه، واتكأ كل مؤمن منهم على أريكته، حفته خدّامه وتهدلت عليه الثمار، وتفجرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار، وبسطت له الزرابي، وصففت له النمارق، وأتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك، قال :ويخرجون عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ماشاء الله.
ثم إنّ الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري، هل أنبئكم بخير ممّا أنتم فيه، فيقولون ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه، نحن فيما اشتهت أنفسنا، ولذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم، قال فيعود عليهم بالقول، فيقولوا: ربّنا نعم، فائتنا بخير ممّا نحن فيه، فيقول لهم تبارك وتعالى: رضائي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه، قال: فيقولون نعم يا ربنا، رضاك عنا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين هذه الآية: "وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" 1.
2- ألم الابتعاد عن رحمة الله
إذا كان إدراك رضوان المعبود أعظم اللذات العقلية، فادراك الابتعاد عن رحمة الله التي وسعت كلّ شيء، من أعظم الآلام العقلية. ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يوعد المنافقين والكفار بالنّار، ويعقبه بلعنهم. فكأنّ هناك ألمينْ: جسمي هو التعذيب بالنار، وعقلي، وهو إدراكهم ألم الابتعاد عن رحمته.
يقول سبحانه: "وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ"(التوبة:68).
ويظهر عظم هذا الألم، بوقوع هذه الآية قبل آية الرضوان فكأنّ الآيتين تُعْربان عن اللذات والآلام العقلية التّي تدركها الروح بلا حاجة إلى الجسم والبدن.
3- الحسرة يوم القيامة
يقول سبحانه: "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاَْسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَات عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ"(البقرة:166-167).
إن أصحاب الجحيم عندما يقفون على درجات الجنة ومقامات أصحابها، وما حلّ بهم من السعادة والكرامة والراحة والاستظلال برحمة اللّه تبارك وتعالى، وتفرغهم عن كل همّ وحزن، ثم ينظرون إلى ما حلّ بهم من عذاب أليم، وطعام من غسلين2وضريع3وشراب من حميم4 يتحسرون على ما ضيّعوا من الفرص، ويندمون على ما فوّتوا في الدنيا وفرطوا في حياتهم، ولكنها الحسرة في وقت لا تنفع فيه.
وهذا النوع من العذاب "أعني: الحسرة" أشد على النفس مما يحل بها من عذاب البدن، ولأجل ذلك يسمى يوم القيامة بيوم الحسرة، قال سبحانه: "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَة وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ"(مريم:39).
روى أبو سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النارَ: قيل يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، وقيل يا أهل النار،، فيشرئبون وينظرون، فيجاء بالموت، كأنّه كبش أمْلَح، فيقال لهم: تعرفون الموت، فيقولون: "هذا، هذا" وكلّ قد عرفه، قال: فيقدم فيُذبَح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. قال: وذلك قوله: "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ".
ورُوي هذا الحديث عن الإمامين الصادقين عليهما السَّلام، بزيادة: "فيفْرحُ أهل الجنة فرحاً، لو كان أحد يومئذ ميتاً، لماتوا فرحاً، ويشهق أهل النار شهقة، لو كان أحد ميّتاً، لماتوا"5.
الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
--------------------------------------------------------
الهوامش:
1- بحار الأنوار، ج 8، ص 140، كتاب العدل والمعاد، الحديث 57.
2- ا لحاقة:36.
3- الغاشية:6.
4- الأنعام:70.
5- مجمع البيان، ج 3، ص 515
الخروج من القبر - صفة أرض المحشر
الإشكالات المثارة حول الشفاعة
عوامل الإحباط وأسبابه
النارفي کلام أمير المؤمنين
أسماء أخرى للنفخ في الصور
أدلة مُثْبتي الإحباط