• عدد المراجعات :
  • 6828
  • 11/16/2008
  • تاريخ :

صحيفة المدينة
medina

تعاقد اجتماعي سياسي

تمهيد

صحيح أنّ قبيلتي الأوس والخزرج ، اللّتين كانتا تشكّلان العمود الفقري لمجتمع يثرب ، تنتميان إلى أب واحد هو حارثة بن ثعلبة العنقاء ، واُمّ واحدة قيلة بنت كاهل ، وكانوا يسمّونهما أبناء قيلة ، إلاّ أنّهما عاشتا معارك طاحنة ما إن تنتهي واحدة حتّى تبدأ اُخرى أشدّ منها ضراوةً ، وما إن تخبو واحدة حتّى تلتهب وتنفجر اُخرى ، فالدماء لم تجفّ بينهما ولم تتوقّف أبداً ، وأسبابها نعرات قبليّة وعصبيّة وثارات راحت أيدي الأعداء ـ وبالذات يهود المدينة ـ تذكّيها ، فما إن تضع معركة أوزارها أو يروا الهدوء قد استتبَ قليلاً حتّى يهيّئون الأسباب لغيرها ، لتكون أكثر شراسة من سابقتها ، وأعظم عنفاً وأشدّ ضراوة ، فأرواح تزهق ودماء تسيل وأرامل وأيتام وثكالى تفجع ، وما يستتبع هذا من قلق واضطراب وفقدان أمن وسلامة وخسارة في الأموال ، كلّها كانت ترضي اليهود وتشبع قلوبهم الحاقدة ونفوسهم المملوءة بالبغض والكراهية لما حولهم .

فكانت حرب سُمير التي التقى فيها الفريقان الأوس والخزرج مع كامل بطونهما في قتال مرير ، لم يتوقّف حتّى ترك وراءه جروحاً نازفة ، وأجساداً مقطّعة ، وأنفساً زاهقة ، ويتامى وأرامل واُمّهات ثكلى . . .

وتشبه حرب سُمير هذه حرب البسوس المعروفة ، والتي دارت رحاها بين قبيلتي بكر وتغلب ، شرارتها الاُولى ناقة قُتلت ، وصرخة امرأة تميميّة (البسوس) : آ«واذلاّهآ» ، فكان ذلك القتل وهذا الصراخ ولادة تعيسة لسيوف مشهورة ورماح مرفوعة ، ودماء وأجساد تتهاوى . . . دامت أربعين سنة .

ثمّ توالت بين قبائل المدينة معارك اُخرى ، كادت أن تفني الطرفين ، فالرحابة والسرارة والحصين والفارع والحسر والربيع والبقيع والفجار الأوّل ومعبِّس والفجار الثاني ، وفيه تحالفت الأوس وقبيلتان يهوديّتان هما بنو النضير وبنو قريظة ضدّ الخزرج ، وبعاث التي كادت أن تفنى فيها قبيلة الخزرج حتّى صاح صائح : يا معشر الأوس ، أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم ، فجوارهم خير من جوار الثعالب ، أي اليهود ، كلّها أيّام دم وحقد وضغائن ، واليهود من ورائها تشعل النار وتذكي الثارات ، وتحيي الأحقاد وتوغر القلوب .

هذه خلاصة للحالة التي كانت تعيشها يثرب وللواقع المرير الذي كانت عليه هذه المدينة ، التي راح جَمْعٌ ممّن بقي من عقلائها ينتظر من يُنقذهم ويخلّص البقيّة الباقية من دمار حقيقي ينتظرهم ، بعد أن يئست كلّ محاولاتهم لإنقاذ هذه البلاد التي صار همّها الشغال هو الخروج من حرب والدخول في اُخرى ، ومن حلف مع هذا أو ذاك للقضاء على الآخر من الأوس أو الخزرج .

تقول الرواية : لمّا قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكّة ومعه فتية من بني عبد الأشهل ، فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأتاهم جلس إليهم ، فقال لهم :

هل لكم في خير ممّا جئتم له ؟

فقالوا له : وما ذاك ؟

قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد ، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً ، وأنزل عليَّ الكتاب ، ثمّ ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن .

فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاماً حدثاً : أي قوم ، هذا والله خيرٌ ممّا جئتم له .

إلاّ أنّ هذا الموقف لإياس لم يعجب آخرين ممّن كانوا معه ، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنةً من تراب البطحاء ، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس ، وقام رسول الله عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج ، ثمّ لم يلبث إياس هذا أن هلك .

قال محمود بن لبيد : فأخبرني من حضره من قومه عند موته : أنّهم لم يزالوا يسمعونه يهلّل الله تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات ، فما كانوا يشكّون أن قد مات مسلماً ، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس ، حين سمع من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما سمع(1) .

ونظراً لكون رسول الله(صلى الله عليه وآله) داعيةً صبوراً وصاحب هدف سماويّ ، نراه لم يقنط ولم ييأس من دعوتهم ، فحالهم حال القبائل الاُخرى ، والأشخاص الآخرين الذين تمرّدوا ثمّ آمن فريقٌ منهم ، فلم يكفّ عن انتظارهم في مواسم الحجّ وعن دعوتهم إلى الإسلام ، وكيف لا يكون حريصاً على دعوتهم وإنقاذهم وهو على اطّلاع واسع ومعرفة تفصيليّة بما يدور بينهم من قتال ، وما يتآمر به عليهم

أعداؤهم داخل يثرب وخارجها ، وبما يبذله اليهود في المدينة من جهود حثيثة

لإدامة زخم العداء بين قبائلها ، وبما يأمله من أن تنتصر كفّة المخلصين من أهلها الذين ما فتئوا يترقّبون منقذاً ومخلّصاً لهم ممّا يعانون ; ولهذا فقد سُرَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)ورأى في لقائه بستّة من رجالهم ، وكانوا من الخزرج ، فرصةً كبيرة حينما رآهم يصغون إليه ويستمعون إليه بحرص وصدق ، وهو يحدّثهم حديثاً طيّباً عن أوضاعهم ، وعن ما يحمله من رسالة سماويّة منقذة لهم .

وما إن أتمّ رسول الله حديثه حتى بادر بعضهم إلى القول : آ«هذا والله النبيّ الذي تتوعّدكم به اليهودآ» ، وهو قول الله تعالى في كتابه الكريم :

وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ(البقرة : 89) .

فيما قال بعض آخر : آ«إنّ بين قومنا شرّاً ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، فإن اجتمعوا عليك ، فلا رجل أعزّ منكآ»(2) .

وبعد أن أعلنوا تصديقهم وإيمانهم به ، رجعوا إلى أهلهم يبشّرونهم ويحدّثونهم بما سمعوه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وراحوا يترقّبون مجيئه لهم ، وينتظرون بلهفة وشوق مَقْدَمه المبارك ، بعد بيعتهم له في العقبة الأولى والثانية .

***

الرسول(صلى الله عليه وآله) في المدينة

ما إن حلّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالمدينة ، بعد أن جاءها مهاجراً من مكّة المكرّمة في رحلة الهجرة النبويّة المعروفة ، حتّى بادر صلوات الله عليه ـ في وقت جمعت قريش جموعها وجنّدت صناديدها وعبّأت قوّاتها لملاحقته والتصدّي لمشروعه السماويّ ـ آ«إلى بناء أُسس دولته الفتيّة على أكتاف جموع من المؤمنين به وبرسالته

المباركة من المهاجرين والأنصار ، وكانت أولى مهامّه ومسؤولياته ـ وهو العالِم بأنّ

قريشاً لا تتركه وأنّها قادمة لا محالة ، وهو العارف أيضاً بتركيبة مجتمع يثرب وقبائلها وطوائفها المتعدّدة من اليهود والمتواجدة هنا وهناك داخل يثرب وأطرافها ، وما تقوم به من دور اجتماعيّاً واقتصاديّاً ، وما كانوا يقومون به من تغذية للخلافات بين قبائل هذه البلاد ـ أن يوادع هذه الطوائف وتلك القبائل ، متعهّداً باحترامها واحترام عقائدها ضامناً حريّة عباداتها وشعائرها ، وأن يعيشوا مطمئنين ويعملوا ـ كغيرهم من المسلمين ـ بأمن وسلام . . . ما داموا موادعين مسالمين لا يهجمون على مسلم ولا ينصرون عدوّاً للمسلمين ، ولا يعكّرون أمناً ولا يثيرون فتنةً ، ولا يسيئون إلى جوار . . . هذا من جهة رسول الله(صلى الله عليه وآله) .

وأمّا من جهة اليهود بطوائفهم الثلاث الرئيسيّة في يثرب ـ وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة ـ الذين اتّخذوا من أطراف المدينة مأوى لهم وسكناً وعملاً وتجارةً ، بعد أن طردهم من الشام وطاردهم نبوخذنصر وشتّت جموعهم ولاحقهم ، حتى لم يجدوا مكاناً يأوون إليه ويأمنون به ملاحقته وبطشه بهم إلاّ هذه المنطقة التي تسمّى (يثرب) وسمّيت فيما بعد بالمدينة ، فسكنوا فيها وصارت لهم أسواق عامرة وتجارة واسعة ، فقويت شوكتهم بما يملكونه من مال . . .(3) ، فقد راحوا يراقبون الدِّين الجديد وتطوّراته في مكّة والمدينة ، وتأتيهم أخباره ويطّلعون على أنشطته وتوسّعه وانتشاره ، وكانوا يعرفون جيّداً أهمّيته وخطورته ، وما قد يأتي به من مفاهيم وأحكام ومواقف قد تؤثّر على حياتهم الاقتصادية والسياسيّة . . . وقد أدركوا هذه كلّها ، وراح فريق منهم يفكّر فيما يفعله ، أو ماذا يجب عليهم فعله .

وما إن حلّ الدِّين بنبيّه وأتباعه في يثرب حتّى بادر زعماء هذه الطوائف : حي ابن أخطب زعيم بني النضير ، وكعب بن أسد زعيم بني قريظة ، ومخيريق زعيم بني قينقاع ، يدرسون الحالة الجديدة التي حدثت في يثرب ، وما يمكنهم فعله إزاءها ، فكان قرارهم أن يهادنوا هذه الدعوة .

تقول الرواية : آ« . . . وجاءته اليهود فقالوا : يا محمّد إلى ما تدعو ؟

فقالوا له : قد سمعنا ما تقول ، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة ، على أن لا نكون لك ولا عليك ، ولا نعين عليك أحداً ، ولا نتعرّض لأحد من أصحابك ، ولا تتعرّض لنا ، ولا لأحد من أصحابنا ، حتى ننظر إلى ما يصير أمرك ، وأمر قومك .

فأجابهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى ذلك ، وكتب بينهم كتاباً : ألاّ يعينوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ولا على أحد من أصحابه ، بلسان ولا يد ، ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية ، ولا بليل ولا نهار . الله بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول الله(صلى الله عليه وآله) في حلٍّ من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم ، وكتب لكلّ قبيلة منهم كتاباً على حدة . . .آ»(4 ).

وشكّل هذا المرحلة الأولى بين الطرفين في المدينة ، المسلمين واليهود ، وكانت هذه المرحلة قد مهّدت الطريق للمرحلة الأخرى ألا وهو كتابة الصحيفة المعروفة ، التي تعدّ أوّل عهد أو عقد أو ميثاق لبناء التعايش الاجتماعيّ والسياسيّ في مجتمع المدينة ، فقد دوّنه رسول الله(صلى الله عليه وآله) لبناء حالة اجتماعية تعاقديّة وتعارقيّة ، تحفظ التنوّع والانتماءات الدينيّة بين أبناء ذلك المجتمع الذي يضمّ الفئة المسلمة المهاجرين والأنصار ، واليهود الذين يعودون إلى طوائف شتّى .

وقد ظلّت هذه الصحيفة ـ على اختلاف تسمياتها بما تحمله من بنود ـ تشكّل

التمثيل الحيّ للميثاق الذي ارتضته الشريعة الإسلاميّة وأمضته في التعامل مع كلّ الفئات الاُخرى الدينيّة وغيرها ، التي لم تنضمّ للدِّين الجديد ولم تعلّق مواقفها عليه ، والذي حلّ بين ظهرانيها ، مراعياً حقوقهم جميعاً ومبيّناً واجباتهم وما عليهم الالتزام به .

فاليهود الذين كانوا الأبرز والأظهر وجوداً بما يمتلكونه من نشاط اقتصاديّ عريق ، قد يكونون عرضة للاعتداء ، إلاّ أنّ التاريخ لم يسجّل لنا أيّ حالة من حالات الاعتداء عليهم ، فبقيت نفوسهم وأموالهم وأعراضهم في أمن وسلام ، بعيدة عن أيّ شيء يعكّرها أو يقلقها ، ما داموا مسالمين غير عابثين بأمن الدولة وغير مخالفين لما ارتضوه من الصحيفة وبنودها ، التي لم تكن وحياً نازلاً عليهم من السماء ، بل كانت ثمرةً وحصيلةً لما دار من تفاوض حرّ نزيه بينهم وبين الرسول(صلى الله عليه وآله)ومعه المسلمون ، فكانت بنود هذه الصحيفة مبعث رضا الأطراف جميعاً ، واندرجت بعد ذلك ـ من خلال ما يترتّب عليها من الالتزام ـ تحت عنوان الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق .

إذن : تمخّض عن هذا الاتّفاق وضع اجتماعي متوازن بين المسلمين واليهود ، ولم نعثر على أيّ خلل فيما يسمّى بالنسيج الاجتماعي بالرغم ممّا كان يمارسه اليهود من أفعال لتنفيس أحقادهم على الدِّين الجديد ومنتسبيه ، وبالرغم من كلّ التحالفات السريّة التي أبرموها مع منافقي المدينة في الداخل وأعداء الإسلام في الخارج ، فكانت لهم علاقات مشبوهة وعهود تآمريّة مع مشركي قريش وزعمائها .

فيما لم يقم المسلمون بأيّ عمل مخلّ ببنود هذه الصحيفة ، بل راح رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ مع معرفته بنواياهم ومؤامراتهم وأعمالهم الخبيثة ـ يكثر من استقبالهم والاستماع إليهم ويحلّ مشاكلهم ، ويرجعهم إلى ما عندهم من أحكام

شرعيّة جاءت بها التوراة ، حذراً من أن يشعرهم بأنّه يريد أن يفرض عليهم حكماً إسلامياً ، ويجبرهم على قبوله ، بل أكثر من هذا راح وحي السماء يتدخّل مباشرة في دفع الظلم ودرء الحيف الذي كاد أن ينزل بيهوديّ بريء ، فهذه آيات تسع من سورة النساء ، جاءت لتثبت حقّ المظلوم وتنتصر له وإن كان يهوديّاً وترفض الظالم وإن كان مسلماً ، وهي سابقة عظيمة تركت آثارها على واقع الحياة الاجتماعيّة :

إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً .105.ƒ.وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً .106.ƒ. وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً .107.ƒ.يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً .108.ƒ.هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا .109.ƒ. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً .110.ƒ.وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً .111.ƒ. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً .112.ƒ. وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً{ (النساء : 105 ـ 113) .

فقد اتّفق جمعٌ من المفسّرين على أنّ أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق الذي سرق درعاً وخبّأها عند يهودي ، فوجدت عنده ، فرماه طعمة بها ،

وحلف أنّه ما سرقها . فسأل قومه النبيَّ أن يجادل ويخاصم عنه ويبرئّه ،

فنزلت الآيات . . .(5) .

هذا ، وأنّ من خصائص هذه الصحيفة ، أنّها تقبل الآخرين بغضّ النظر عن دينهم وانتمائهم وقوميّاتهم وألوانهم ، فكلّ هذه لا تشكّل في نظر الإسلام إلاّ دوائر صغيرة تذوب أو تندرج في دائرة أكمل وأشمل هي دائرة الاُمّة الواحدة ، كما يؤكّد على من يلتزم بهذه الدوائر وينتمي إليها أن لا يكون التزامه ذاك أو انتماؤه هذا طاغياً على التزامه وانتمائه للعقيدة السماوية ، فهي الأعمّ وهي الأفضل أجراً في الدُّنيا والآخرة .

وهذه الصحيفة ، أطلق عليها أسماء متعدّدة فهي الكتاب ، كما سمّاها ابن إسحاق حيث قال : وكتب رسول الله كتاباً ، فيما سمّاها غيره بالصحيفة لورودها سبع مرّات في بنود الصحيفة ، وبالوثيقة وبدستور المدينة وهو ما عليه بعض الكتّاب المعاصرين . ولا دليل على التسميتين الأخيرتين من بنودها أو من غيرها ، وتبقى التسميتان الأوليان هما الأنسب .

وبغضّ النظر عن تسمياتها ، فهي عبارة عن معاهدة دوّنها رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهو في المدينة المنوّرة بين المسلمين مهاجرين وأنصار والقبائل العربيّة في المدينة وكان عددها اثنتي عشرة قبيلة واليهود بقبائلهم العشر ، فخلدت هذه المعاهدة وصار لها شأن رفيع يذكر ، بوصفها أوّل دستور مكتوب يتضمّن عقداً قانونيّاً متميّزاً يرسّخ الإخاء الإسلامي وينشئ كياناً سياسيّاً فريداً وتنظيماً سياسيّاً

موحّداً ، مع بقاء الجماعات القبليّة التي ألزمت نفسها ببنود الصحيفة على حالها ،

وهي عبارة عن تحالف عسكري ، وهي بالتالي معاهدة وحّدت شعباً مختلفاً في اعتضاداته أو هو تنظيم سياسي موحّد ، حكومته المركزيّة بيد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، صلاحيّاتها إعلان الحرب أو تثبيت السلم ، ولها الحقّ في إصدار الأحكام القضائيّة ، وهي الراعية لبنود الاتفاقيّة المذكورة ، والجميع يعود إليها في فضّ المنازعات وإنهاء الاختلافات .

نصّ الصحيفة

قال ابن إسحاق ، المتوفى سنة 151 هجرية ، وهو أقدم من نقل كتابه(صلى الله عليه وآله) بين المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود :

وكتب (صلى الله عليه وآله) كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادعَ فيه اليهود وعاهدهم ، وأقرّهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم :

بسم الله الرحمن الرحيم

آ«هذا كتاب من محمّد(صلى الله عليه وآله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم ، إنّهم اُمّة واحدة من دون الناس .

المهاجرون من قريش على ربعتهم(6) ، يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم(7) بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم(8) الأولى ، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم

تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

وبنو النجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

وبنو عمرو بن عوف على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

وإنّ المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً(9) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عَقْل .

وأن لا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمن دونه ، وأنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة(10) ظلم ، أو إثم أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين ، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ، ولو كان وَلَد أحدهم ، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن ، وإنّ ذمّة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس .

وإنّ من تَبِعنا من يهود ، فإنّ له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم .

وإنّ سِلْم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله ، إلاّ على سواء وعدل بينهم ، وأنّ كلّ غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضاً ، وأنّ المؤمنين يبيء(11) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ، وأنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدى وأقومه ، وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ، ولا يحول دونه على مؤمن ، وأنّه من اعتبط(12) مؤمناً قتلا عن بيّنة فإنّه قود به إلاّ أن يرضى وليّ المقتول ، وأنّ المؤمنين عليه كافّة ، ولا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه ، وأنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر مُحدثاً ولا يؤويه ، وأنّه من نصره أو آواه ، فإنّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل ، وانّكم مهما اختلفتم فيه من شيء ، فإنّ مردّه إلى الله عزّوجلّ ، وإلى محمّد(صلى الله عليه وآله) .

وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، إلاّ من ظلم وأثم ، فإنّه لا يُوتِغ(13) إلاّ نفسه ، وأهل بيته ، وأنّ ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف ، وأنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ، وأنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف ، وأنّ ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف ، وأنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود

بني عوف ، وأنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلاّ من ظلم وأثم ، فإنّه لايُوتغ إلاّ نفسه وأهل بيته ، وأنّ جفنة بطن من ثعلبة

كأنفسهم ، وأنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، وأنّ البرّ دون الإثم ، وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم ، وأنّ بطانة يهود كأنفسهم ، وأنّه لا يخرج منهم أحد إلاّ بإذن محمّد(صلى الله عليه وآله) ، وأنّه لا ينحجز على ثأر جُرح ، وأنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته ، إلاّ من ظلم ، وأنّ الله على أبرّ هذا(14) ، وأنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأنّ بينهم النصح والنصيحة ، والبرّ دون الإثم ، وأنّه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وأنّ النصر للمظلوم ، وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وأنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، وأنّ الجار كالنفس غير مُضارّ ولا آثم ، وأنّه لا تُجار حُرمة إلاّ بإذن أهلها ، وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه ، فإنَّ مردّه إلى الله عزّوجلّ ، وإلى محمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وأنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه(15) ، وأنّه لا تُجار قريش ولا من نصرها ، وأنّ بينهم النصر على من دَهم يثرب ، وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنّهم يصالحونه ويلبسونه ، وأنّهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك ، فإنّه لهم على المؤمنين ، إلاّ من حارب في الدِّين على كلّ اُناس حصّتهم من جانبهم الذي قِبَلهم ، وأنّ يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفةآ» .

قال ابن هشام : ويقال : مع البرّ الُمحسن من أهل هذه الصحيفة .

قال ابن إسحاق : وأنّ البرّ دون الإثم ، لا يكسب كاسب إلاّ على نفسه ، وأنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه ، وأنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظلم وإثم ، وأنّه من خرج آمنٌ ، ومن قعد آمن بالمدينة ، إلاّ من ظلم أو أثم ، وأنّ الله جار لمن برّ واتّقى ، ومحمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله)(17) .

وقفة مع بنود الصحيفة

نكتفي هنا بشرح مختصر لبنود الصحيفة مبتدئين بمقدّمتها وهي ـ بعد البسملة ـ :

* هذا كتاب من محمّد النبيّ

فقد حدّد هذا أنّ مبعث هذه الصحيفة ومبدعها هو رسول الله(صلى الله عليه وآله) دون غيره .

* بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم .

يبيّن هذا أنّه(صلى الله عليه وآله) سنّها ووضعها بين جمع من الناس وهم المؤمنون والمسلمون ، وهو تعبير يشمل من كان من قريش من المهاجرين ، حيث إنّ قريشاً تضمّ أو تتألّف من ثلاث وعشرين قبيلة ، ويشمل من كان من أهل يثرب وهي التسمية

القديمة للمدينة ، وهم الأنصار الأوس والخزرج الذين آووا ونصروا ، وتشمل من تبعهم أي تبع هؤلاء (المؤمنون والمسلمون) ولحق بهم من الأقوام الاُخرى ، وتحمّل ما يتحمّلون من بذل وعطاء سواء أكان بالأنفس أم الأموال ، وقد اندرج هذا تحت كلمة (وجاهد معهم) .

* إنّهم اُمّة واحدة من دون الناس

وقد وصفت الصحيفة أو الكتاب هذا التجمّع بأنّه اُمّة واحدة متميّزة من دون الناس ، الذين لم يدخلوا في بنود الصحيفة ، وكلّ من لم يكن فيها ، وقد يكون هؤلاء من سكّان المدينة أيضاً ، فالصحيفة لم تقتصر على من سكن المدينة ، بل شملت كلّ من ارتضى بنودها ووافق عليها والتزم بها بغضّ النظر عن سكنه أو عقيدته أو مذهبه أو عرقه أو لونه أو قبيلته ، فمن ارتضاها فقد دخل في هذه الاُمّة وكان واحداً منها ، ومن لم يرتض بنودها أو قاومها فقد خرج منها وصار اُمّةً اُخرى مقابل الأولى .

* المهاجرون من قريش على ربعتهم ، يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين .

ثمّ في هذا البند راحت الصحيفة تفصّل أوضاعهم ، وأنّهم على الحالة التي تواجدوا عليها والوضع الذي هم عليه ، والأمر الذي يتبنّونه ، بدءاً بالمهاجرين ، وهم من قريش وقبائلها المتعدّدة ، وكلمة المهاجرين يُراد بها أولئك النفر الذين هاجروا بعدما آمنوا ثمّ ظلموا من قبل مشركي مكّة فأذن لهم رسول الله بالهجرة وصار يطلق عليهم لفظ المهاجرين دون أن تذكر أسماء قبائلهم ; إمّا لعدم وجود تمايز يُذكر بين قبائل قريش ، وإمّا لأنّه لم تكن قد آمنت من هذه القبائل إلاّ أعداد قليلة ، فاكتفى النصّ بذكرهم تحت اسم المهاجرين .

وكلمة على ربعتهم : أي على الحالة التي كانوا عليها ، أو على أمرهم الذي

عاشوا وتآلفوا وتفاهموا عليه قبل مجيء الإسلام ، بشرط أن لا يكون هناك تشريع سماويّ يلغي أو يغيّر حكماً من أحكامهم أو حقّاً أو التزاماً أو عادةً . . . وعندئذ يكون اتّباع التشريع السماويّ هو الأوجب بالاتّباع .

يتعاقلون بينهم :

عَقَلَ : عقل عنه ، أدّى ما كان لزمه من دِيَة ، وعقل له دم فلان : ترك القود للدية . . . واعتقل من دم فلان أو من دم عائلته : أخذ العقل أي الدِّية .

فهم على ما تعارفوا عليه من ديات تخصّ القتل أو الجرح أو ما شابه ذلك ، فهي على حالها ما لم يأتِ تشريع أو حكم إسلاميّ يلغيها أو يغيّرها .

وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين : الفداء :  . . . افتدى به وافتدى منه بكذا : استنقذه بماله . . وهو من الفدية التي تدفع لفكّ الأسير وإطلاق سراحه من الأسر .

وكلمة بالمعروف ، إن اختصّت بفداء الأسير ، فهي تعني عدم المغالاة في طلب الفدية من قبل الآسر ، وتعني من جانب آخر عدم البخل وعدم الشحّ ممّن يدفعها أو من قبل أولياء ذلك الأسير .

وإن قلنا : إنّ (بالمعروف والقسط بين المؤمنين) تشمل كلّ ما ورد في العبارة أو البند المذكور ، وهي بالتالي قيد وضعه الشرع أو ميزان انبثق من الشريعة السماويّة التي جاءت لتهذّب ما عندهم من أعراف وعادات وتقاليد إن لم تلغها وتقتلعها من جذورها أو تقيّدها بكونهم اُمّةً واحدةً ما داموا ملتزمين ببنود هذه الصحيفة ، وما يترتّب على كونهم اُمّة واحدة من تآزر وتعاون وتآلف . وفي هذا إقرار واضح من الشريعة الإسلاميّة بالقبائل التي راحت تعدّدها في البنود الآتية وتقرّها على ما عندها ، فحفظت لها كيانها ونظامها حتى وإن هذّبت ما عندها أو جعلت قيوداً تحدّده وتضيّق دائرته . . .

وهكذا الكلام نفسه في البنود 3 ـ 10 التي تخصّ القبائل التي عدّدتها الصحيفة.

ـ وأنّ المؤمنين لا يتركون مفرجاً بينهم ، وأن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل .

الفرج أو المفرج : هو الشخص الذي أثقلته الديون والعيال . . .

الفرق بين هذا البند والبند السابق له ، وهما يدعوان كلاهما إلى التضامن والتكافل بين الأفراد أو المجتمعات ، الفرق هو أنّ صفة الإيمان هنا هي الصفة المطلوبة ، وقد يكون المقصود به الإيمان المصطلح أو الإيمان ببنود هذه الصحيفة وأنّهم اُمّة واحدة بغضّ النظر عن التزاماتهم العقائدية ، والصحيح كما يبدو لي هو الثاني .

فهؤلاء المؤمنون بهذه الصحيفة ، لا يتخلّون عمّن وقع في ضيق من العيش بسبب ديونه أو عياله بأن يقدّموا له ما ينقذه من الأسر أو من القتل ، وبالتالي فهو عاقلته التي يعود عليها وإن لم ينتسب أو يرتبط بهم بنسب ودم . . . فهؤلاء المؤمنون هم اُمّته أو عشيرته التي يعود إليها ، وهي التي تحميه وتذبّ عنه .

ـ وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه .

كانت في المدينة توازنات وتحالفات وضعت قبل هذه الصحيفة . توازنات بين قبيلتي الأوس والخزرج ، وتحالفات بين كلّ منهما ويهود المدينة ، فجاء هذا البند ليمنع أيّ تحالفات اُخرى بين هؤلاء بعد إبرام هذه الصحيفة ، فالتحالفات السابقة أقرّتها الصحيفة ، وفي الوقت نفسه منعت قيام تحالفات جديدة ; لأنّها تخلّ بالحالة التي أمضتها الصحيفة ، وتخلق خللاً أمنياً داخل مجتمع الصحيفة .

* وأنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم .

في هذا النصّ توضيح لما قد يقع من شرور على الجماعة المسلمة ، وأنّ هذه

الجماعة عليها مسؤوليّة درء مثل هذه المفاسد وحفظ نفسها منها ، وهذه الجماعة تتمثّل بالمؤمنين المتّقين ، الذين يجب ـ بوصفهم اُمّةً واحدةً ـ أن يكونوا يداً واحدةً

وصفّاً مرصوصاً لمواجهة وقمع مؤامرات تحاك في داخل ساحتهم أو تأتيهم من خارجها ، حتّى وإن كانت هذه المؤامرات من قبل أقرب شخص لهم ألا وهو ولد أحدهم ، لأنّهم اُمّة واحدة متلاحمة متضامنة حقوقاً وواجبات وأهدافاً وطموحات . .

* ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن .

نظراً لتعدّد الولاءات والتحالفات ، وسعي الإسلام للحدِّ منها ، انطلق هذا البند كوسيلة من الوسائل التي ارتآها الإسلام لسعيه الحثيث دون استمرار تحالفات الجاهليّة سواء أكانت بين أشخاص أو جماعات أو قبائل . . . وبالتالي تكون الصحيفة هي البديل لتلك التحالفات ، وإلاّ فما هو الغرض من كتابتها وجعل الموقّعين عليها والذين ارتضوا بنودها اُمّةً واحدةً ؟!

ـ وأنّ ذمّة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وأنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس .

في هذا البند اُمور :

1) إنّ ذمّة الله ، أي عهد الأمان وميثاقه وضمان النفس والمال وحرمتهما ، واحدة ، وقد اكتسبت قدسيّتها وحرمتها ومنزلتها من إضافتها إلى الله تعالى .

2) سائر النصّ ما تعارف عليه ذلك المجتمع من تصنيف أفراده إلى أدنى وأعلى ، تمهيداً لعلاج هذه الحالة السيّئة ، وإلاّ ليس في عرف الإسلام أدنى وأعلى ، فالكلّ متساوون ، ولا فضل لأحد على آخر إلاّ بالتقوى و}إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ{(18) ، وأنّ الناس من آدم وآدم من تراب .

3) عالج هذا البند هذه الحالة بأن صرّح أنّ ذمّة الله واحدة أوّلاً ، وأنّ من كان في درجة أدنى كما تسمّونه في مجتمعكم له الحقّ أن يجير الآخر المشرك ويعطيه الأمان مهما كان عددهم ، وإن قيّده بعض الفقهاء بما لا يزيد على عشرة من المشركين ، وعلى المجتمع أن يحترم إجارته وأمانه ، ما دام هذا الشخص قادراً على ذلك ، وبالتالي ليس هناك أدنى أو أعلى وإنّما يبقى الاعتبار هو الإيمان لا غير .

ثمّ راح يبيّن هذا البند أمراً آخر وهو أنّ للمؤمنين منزلةً خاصّة بهم ، وهو أنّهم أولياء بعضهم ببعض وموالي بعضهم لبعض ، }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض{(19) .

ـ وأنّ من تبعنا من يهود ، فإنّ له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم .

يصرّح هذا البند بأنّ من تبع المسلمين من يهود ترتّب على ذلك الاتباع حقوق لهم ، كنصرهم إذا ما تعرّضوا للاعتداء ، فدماؤهم مصانة وأموالهم مضمونة وأعراضهم محميّة ، وليس هذا فقط ، وإنّما ينصرون أيضاً إذا خاضوا نزاعاً أو معركة بشرط كونهم محقّين فيه غير معتدين أو متجاوزين أو ظالمين لأحد .

ـ وأنّ سلم المؤمنين واحدة ، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم .

الظاهر لنا من هذا النصّ أنّ مسألة السلم ليست مسألة فرديّة متروكة لكلّ فرد ، ممّا يسبّب خللاً واضطراباً في الساحة ، وإنّما هي مسألة تخصّ الاُمّة وتتعلّق

بالجماعة المسلمة وهي شأن من شؤونها ، فإذا تشاورت وتداولت أمرها بينها فلها أن تتّخذ قرارها عندئذ بالسلم على سواء وعدل .

* وأنّ كل غازية معنا يعقب بعضها بعضاً .

الغازية : تأنيث الغازي ، وكلمة آ«معناآ» هنا تدلّ على أنّ هذه الغازية هي من غير المسلمين ، فمعنا أي معنا نحن المسلمون .

وكلمة يعقب بعضها بعضاً ، أي إذا ما تقدّمت مجموعة منهم وأنهت مهمّتها تأتي بعدها مجموعة اُخرى ، أي هناك تعاقب أو تناوب بين مجموعات كلّ غازية تغزو مع المسلمين .

* وأنّ المؤمنين يَبيءُ بعضهم على بعض بما نال دماءَهم في سبيل الله .

يبيء : أبأت فلاناً بفلان ، إذا قتلته به قصاصاً .

يبدو لي أنّ هذه الفقرة تستند إلى الآية }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض{(20) .

فمسؤوليّة القتل إن وقعت في عمل جهاديّ فمن يقتل من المؤمنين يتحمّلها المؤمنون أنفسهم فهم العاقلة إن صحّ التعبير ، يتعاقلون بينهم كما سبق ، ولا مكان هنا للثارات .

ثمّ نختم هذا البند بـ : وأنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدىً وأقومه .

* وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن .

طالما استمرّت حالة الحرب بين المسلمين وقريش ، فليس لأحد من المشركين ، سواء أكان ممّن ارتضى الصحيفة أم لا ، أن يجير مالاً لقريش ولا نفساً ، وليس من حقّه أن يمنع مؤمناً إذا أراد أن يُصادر مالاً لقريشيّ أو يقتله أو يأسره .

* وأنّه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بيّنة ، فإنّه قَودٌ به ، إلاّ أن يرضى وليّ المقتول ، وأنّ المؤمنين عليه كافّة ، وأنّه لا يحلّ لهم الاقتتال عليه .

إنّه القصاصوَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الاَْلْبَابِ{(21) ، أي من قتل مؤمناً ظلماً بلا جناية توجب قتله ، قتل بعد حصول البيّنة ، وأنّ كلمة قتلاً الواردة في البند خطأ والصحيح قتل ، إلاّ أن يرضى وليّ المقتول ، فالأمر له ، وهذا البند منطلق من : }وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً{(22) ، }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُْنثَى بِالاُْنثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان(23) .

أن يعفو وليّ الدم ، أو يطلب الدية . . وقد منع البند طلب الثأر وما يؤدّي إليه من اقتتال بين أهل القاتل والمقتول ، بأن أرجع الأمر إلى الاُمّة التي يمثّلها القضاء الشرعي ، وطلب من المؤمنين أن يشجبوا ما فعله القاتل ويستنكرونه ويقفوا ضدّه ، حتّى لا تتكرّر هذه الجريمة في المجتمع ، وتترك آثارها السيّئة عليه .

* وأنّه لا يحلّ لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ، ولا يؤويه ، وأنّ من نصره وآواه فإنّ عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل .

والمحدث : هو من يخلق اضطرابات داخل الجماعة المسلمة أو يكون سبباً في الإخلال بالأمن العام ، وإيجاد أجواء مملوءة بالقلق وعدم الاستقرار ، فعلى الجماعة المسلمة أن لا تنصر مثل هذا الشخص ولا تهيىء له المأوى ولا تدافع عنه ، ومن يفعل هذا فعليه لعنة الله وغضبه . . .

هذا وأنّ الاختلاف إن وقع فعلى المختلفين من أهل هذه الصحيفة إعادته إلى الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله) بوصفه المسؤول الأوّل في هذه الاُمّة .

وهذا ما بيّنه البند بقوله : آ«وإنّكم مهما اختلفتم في شيء ، فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمّد(صلى الله عليه وآله)آ» .

وهذا البند يبيّن مسؤوليّة اليهود بوصفهم طرفاً في هذه الصحيفة ، فعليهم التزامات مالية .

آ«وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربينآ» .

ثمّ راحت البنود التالية لهذا البند تعترف بأنّ يهود بني عوف ، وهكذا بقيّة القبائل اليهودية الاُخرى ، اُمّة مع المؤمنين ، وأنّ لهم دينهم . . .

آ«وإنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين : لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، ومواليهم وأنفسهم ، إلاّ من ظلم أو أثم ، فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه وأهل بيتهآ» .

وهي بالتالي بنود جاءت وكان غرضها تنظيم علاقات كلّ واحدة منها مع بعضها ومع من حولها من المسلمين ، محذّرةً من الاعتداء على الوضع الذي أنشأته الصحيفة والنظام السائد وأمنه وسلامته معترفةً بالتنوّع الموجود داخل الساحة بقولها : لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، ولكنّ هذا لا يعني قيام دول صغيرة تتنافى صلاحيّاتها مع وجود الدولة الاُمّ ، بل هي اُمّة واحدة تحكمها دولة واحدة ذات تنوّع داخلي محفو0، ترعاه السلطة العليا وتحافظ عليه ما دام ملتزماً ببنود الصحيفة غير متجاوز عليها .

* وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم ، وأنّ بطانة يهود كأنفسهم ، وأنّه لا يخرج أحد منهم إلاّ بإذن محمّد ، وأنّه لا يتحجّر على ثأر جرح ، وأنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته ، إلاّ من ظلم ، وأنّ الله على أبر هذا ، وأنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأنّ بينهم

النصح والنصيحة ، البرّ دون الإثم ، وأنّه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وأنّ النصر للمظلوم ، وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وهذه الجملة تكرار لبند سابق .

هذا النصّ بطوله يتناول بنوداً ـ إضافة إلى ما مرّ ـ متعدّدة ، كلّها تقريباً تتناول

وضع اليهود وما لهم من دور في الحياة ، وعلاقاتهم بالمسلمين ووظائفهم وما يجب عليهم هم ومواليهم وبطانتهم وحلفاؤهم ، وما لهم من حقوق .

فحكم موالي اليهود وبطانتهم حكم اليهود أنفسهم ما داموا مواظبين على الالتزام بالصحيفة ، فلا يدخلون في حرب ضدّ المسلمين ولا يتآمرون عليهم .

وقد منع البند الآخر أن يخرج أحدهم إلاّ بإذن من رسول الله(صلى الله عليه وآله) بوصفه رئيس الدولة ، سواء أكان الخروج من المدينة إلى مكان آخر حفظاً لهم أو تحفّظاً منهم ، أم كان المقصود بالخروج المذكور هو الخروج عن تحالفاتهم رعايةً للتوازنات في مجتمع الصحيفة .

وقد رفض البند التالي مسألة الثأر ، وليس لصاحب الدم أو لوليه وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً أن يأخذ حقّه عبر الثأر ، بل عليه أن يعيد الأمر إلى السلطة القضائيّة لتقتصّ من الجاني ، وأن لا تتعدّى الجناية ومسؤوليّتها إلى غير الجاني انطلاقاً من الآية وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى24) .

وفي البند الأخير من حزمة البنود المذكورة ، اعتراف واضح باستقلاليّة أموال كلّ من اليهود والمسلمين ، ولكنّ الطرفين يتحمّلان النفقات العسكريّة والدفاعيّة . وعليهم يقع النصح والنصر ضدّ الأعداء ، فهو تعاون وتآلف على البرّ دون العدوان .

وممّا يلفت النظر أنّ ذيل هذا البند يشير إلى أنّ الحليف والموالي إذا ارتكب

جريمةً فهو بذاته يتحمّل المسؤوليّة دون القبيلة التي تحالف معها ، على عكس ما

كان دارجاً ، وهو أنّ القبيلة مسؤولة عمّا يرتكبه حليفها ، ويبقى المبدأ الفاعل ـ وهو النصر للمظلوم ـ قائماً حيّاً يعمل به ، وأكّدته الصحيفة والتزمت به ، سواء أكان المظلوم مسلماً أم يهوديّاً ، وهو ما ذكرناه في سبب نزول الآيات 105 ـ 113 من سورة النساء .

وبما أنّ المدينة هي عاصمة الدولة الإسلاميّة ، والأعداء يحيطون بها ، والمنافقون مازالت مؤامراتهم مستمرّة في داخل المدينة ، فالوضع الأمني يفرض على الدولة اتّخاذ ما تراه مناسباً ، ولهذا حرّمت كلّ نشاط أو تحرّك يتمّ بعيداً عن أنظارها ، أو يخترق سلطتها أو سيادتها أو أمنها ، ولهذا ورد البند (وأنّ يثرب حرام) .

ثمّ راحت الصحيفة تقرّ مبدءاً من مبادئ التكافل والتضامن الاجتماعي وهو مبدأ الجوار ، فجعلت الجار كالنفس ، فكما أنّ الإنسان يدافع عن نفسه ومن يلوذ به عليه أن يدافع عن جاره ويحفظه شريطة عدم التجاوز على العدالة والقانون ، فقالت : (وأنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم) .

* وأنّه لا تُجار حرمة إلاّ بإذن أهلها .

ذهب بعضهم إلى أنّ مرجع الضمير هو يثرب ، والذي أراه أنّ مرجع الضمير هو أهل الصحيفة ، لأنّ أي حرمة إن اُجيرت بدون إذن أهل الصحيفة فهو اعتداء واضح على بنود الصحيفة وأهدافها ومشروعيّتها ، وفسح المجال للآخرين ممّن هم خارج اُمّة الصحيفة للتآمر على أبناء الصحيفة .

وإذا قلنا : بأنّ مرجع الضمير هو يثرب ، فأهل يثرب بعضهم لم يوافق على الصحيفة ، بل بعضهم مدّ جسوراً مع أعداء الاُمّة الجديدة التي أنشأتها الصحيفة ، وبعضهم نقض بنود الصحيفة بعد أن وافق عليها .

كلّ هذا يمنع من عودة الضمير إلى يثرب دون تخصيصه بأهل الصحيفة سواء أكانوا من أهل يثرب أو خارجها ، ويبدو أنّ لهذا البند علاقة ببند سابق وهو (وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن) ، كما وله علاقة ببند قادم (وأنّه لا تجار قريش ولا من نصرها) .

لما يتركه هذا الفعل من آثار سلبية وظواهر سيّئة على وضع أهل الصحيفة وأمنهم .

* وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإنّ مردّه إلى الله عزّوجلّ ، وإلى محمّد رسول الله ، وأنّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه .

يؤكّد هذا البند على أن تردّ المنازعات إلى الله عزّوجلّ وإلى محمّد رسول الله ، وهذا لا يعني أنّ كلّ خلاف أو شجار يُعاد إلى الله ورسوله ، وإنّما الخلاف الذي قد يترك آثاراً سيّئة كبيرة على أمن البلد وأبنائه ، ولهذا قال البند : يخاف فساده ،

وهي منازعات واختلافات سياسيّة وأمنيّة تهدّد البنيان العام والوضع العام للدولة ومؤسّساتها .

ويبيّن هذا البند ـ وبشكل لا لبس فيه ولا غموض ـ الدور الكبير

والمرجعيّ لرسول الله(صلى الله عليه وآله) في حسم المنازعات وما تتعرّض له البلاد من مخاطر وأحداق جسيمة .

* وأنّه لا تُجَار قريش ولا من نصرها .

يتعلّق هذا البند ببند سابق (وأنّه لا تجار حرمة إلاّ بإذن أهلها) أي إذن أهل الصحيفة كما بيّناه ، وببند أسبق (وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن) .

فمشركو قريش لا تُجَار حرمتهم ، ولا تجار حرمة من تحالف معهم وقدّم لهم

النصر ، لما يشكّله ذاك التحالف وهذا النصر من خطورة على الموقف الإسلاميّ العام وموقف أهل الصحيفة بشكل خاصّ ، فلا حرمة ولا إجارة لمحارب .

* وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب .

هذا البند له علاقة أيضاً بـ (وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة) إلاّ أنّ البند المذكور أعلاه يبيّن أنّ التناصر لابدّ أن يكون بين أهل الصحيفة بوصفهم اُمّةً واحدةً على من داهم هذه البلدة (يثرب) ، فيما كان البند السابق يصرّح بأن تتعاون جهودهم وتتظافر ضدّ كلّ من يحارب هذه الصحيفة .

والظاهر أنّ كلا البندين يحملان همّاً واحداً وهو الدفاع عن وجودهم سواء أكان متمثّلاً بأهل الصحيفة أو بيثرب وطنهم ، فالدفاع عن الوطن دفاع عن الاُمّة ، والدفاع عن الاُمّة دفاع عن الوطن وترابه وكيانه . .

* وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ، فإنّهم يصالحونه ويلبسونه ، وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين ، إلاّ من حارب في الدِّين ، وعلى كلّ اُناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم .

هذا المقطع من الصحيفة يشمل كلاًّ من اليهود والمسلمين طرفي هذه الصحيفة.

* وإنّ يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم ، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة ، أو مع البرّ المحسن أو مع البرّ الحسن .

هناك يهود لهم تحالفات مع كلّ من الأوس والخزرج ، وقد تحدّثت عنهم وعن تنظيم علاقاتهم التحالفيّة مع من يحالفون من قبائل المدينة ، بنودٌ سابقة بدءاً بـ : وأنّ يهود بني عوف اُمّة مع المؤمنين . . . وراحت تعدّد بقيّة قبائل اليهود .

ثمّ بيّن هذا البند أمراً مهمّاً ضمّنته وأقرّت به الصحيفة حيث جعلت البرّ يرفرف على جميع أهل الصحيفة ويتمثّل فيما لهم من حقوق مقابل ما يترتّب

عليهم من واجبات ، ومنها صون هذه الصحيفة وبنودها وعدم الكيد لها ولأهلها

* لا يكسب كاسب إلاّ على نفسه ، وأنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه ، وأنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم .

واضح أنّ هذا يقرّر المسؤوليّة الشخصيّة للإنسان عن أيّ عمل يقوم به ، وكما يؤكّد هذا البند حقوقاً لأهل هذه الصحيفة ، يؤكّد ما عليهم من واجبات ، وقد يكون هناك ظالم أو آثم ، وبالتالي فالصحيفة ـ بما هي صحيفة ـ ليست لها القدرة على أن تحول وتمنع ظلماً أو إثماً ، ظالماً أو آثماً ، وإنّما تكتسب قدرتها وقابليّتها وقوّة الردع عن وقوع المآثم والمظالم من خلال أطرافها ، وبقدر التمسّك بفقراتها تكون قدرتها الرادعة المانعة للإثم والعدوان .

* الفقرة الأخيرة في هذا الكتاب أو الصحيفة ، تقول : وأنّه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم وأثم ، وأنّ الله جار لمن برّ واتّقى ، ومحمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله) .

الخروج هنا قد يفسّر خروجاً عن الصحيفة ، فمع خروجه هو آمن من كلّ اعتداء ما دام غير ظالم ولا آثم ولا معتد .

ومن قعد عن نصرتها هو آمن أيضاً ما لم يكن ظالماً آثماً معتدياً . .

قد يفسّر الخروج والقعود بهذا .

وقد يفسّر بالخروج والدخول من وإلى المدينة .

وهذا أيضاً يتّصف بالأمان في الحالتين شريطة أن يكون بإذن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ; فهما ـ أي الدخول والخروج ـ مقيّدان بما ورد في بند سابق : وأنّه لا يخرج أحد منهم إلاّ بإذن محمّد .

 

الهوامش:

(1) اُنظر السيرة النبوية لابن هشام 2 : 427 ـ 428 .

(2) السيرة النبوية لابن هشام 2 : 427 ـ 428 .

(3) اُنظر العدد 16 من مجلّة ميقات الحج ص176 .

(4) بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي 19 : 110 ـ 111 .

(5) اُنظر التفسير الكبير للرازي ومجمع البيان وغيرهما عند تفسير الآيات المذكورة . . .

(6) الربعة : الحال التي جاء الإسلام وهم عليها .

(7) العاني: الأسير .

(8) المعاقل : الديات ، الواحدة : معقلة .

(9) ويروى آ«مفرجاًآ» وهو بمعنى المفرح بالحاء المهملة .

قال ابن هشام : المُفْرَح : المثقل بالدَّين والكثير العيال .

قال الشاعر :

إذاأنت لم تبرح تؤدّى أمانةً *** وتحملُ أخرى، أفرحتك الودائع *** هذا البيت من شعر لبيهس العذري .

(10) الدسيعة : العظيمة ، وهي في الأصل : ما يخرج من حلق البعير إذا رغا . وأراد بها هاهنا : ما ينال عنهم من ظلم .

(11) يبي : أبأت فلاناً بفلان ، إذا قتله به قصاصاً .

(12) اعتبطه : أي قتله بلا جناية منه توجب قتله .

(13) يُوتغ : يهلك ويفسد .

(14) على أبرّ هذا ; أي على الرضا به .

(15) أي أنّ الله وحزبه المؤمنين على الرضا به .

(16) يقال : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كتب هذا الكتاب قبل أن تفرض الجزية ، وإذ كان الإسلام ضعيفاً ، وكان لليهود إذ ذاك نصيب في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين ، كما شرط عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب .

راجع الروض الأنف .

وهذا النصّ مأخوذ من السيرة النبوية لابن هشام 2 : 501 ـ 504 ، ولهذه الصحيفة مصادر تاريخيّة اُخرى .

(17) هذه نظرة مختصرة ، ومَن أراد المزيد فعليه بالرجوع إلى كتاب : مكاتيب الرسول ، للشيخ الأحمدي ، فقد ذكر شرحاً وافياً للصحيفة مع مصادرها . في الاجتماع السياسي الإسلامي ، للشيخ محمّد مهدي شمس الدِّين ، الملحق الثالث 259 ـ 299 فقد عالج هذه الصحيفة شرحاً لبنودها ودراسة لسندها ومصادرها . . .

18) الحجرات : 13 .

(19) التوبة : 71 .

(20) التوبة : 71 .

(21) البقرة : 179 .

(22) الإسراء : 33 .

(23) البقرة : 178 .

(24) الأنعام : 164 .

مصادر :

فهناك مصادر تاريخيّة نقلتها كتأريخ الطبري ، طبعة أوربا ، 1359ـ 1367 .

والبداية والنهاية لابن كثير 3 : 224 .

وإمتاع الأسماع للمقريزي 1 : 49 و104 و107 .

وهناك مصادر حديثيّة :

صحيح مسلم 4 : 216 .

مسند أحمد 1 : 271 و2 : 204 و3 : 242 .

وكنز العمّال للمتقّي الهندي 5 : 251 .

والسنن الكبرى للبيهقي 8 : 106 .

والتهذيب للشيخ الطوسي 2 : 47 .

وبحار الأنوار للمجلسي 19 : 167 ـ 168 .

والكافي للكليني (الفروع) : 336 .

والكافي (الاُصول) 2 : 666 .

هذه مقالة مختصرة جدّاً ، تناولت شرح بنود وفقرات صحيفة المدينة أو كتابها كما يسمّيها ابن إسحاق أو دستور المدينة كما رأيت عدداً من الكتّاب المعاصرين يذهب إلى تسميتها بهذا .


البَيت العَتيق... خَواطر وأشجان

الحج في الشعر الإسلامي في عصر النبوّة والراشدين

نبذة تاريخيّة عن القبلة في المسجد النّبويّ الشّريف

أسماء مكّة

من كان متمكناً من اكتساب المال في الطريق

تهيئة مقدمات الحج

تحصيل الزاد ببيع ما يحتاج إليه

إيجا النفس للخدمة في طريق الحج

أسواق مكّة والمدينة

الإخلاص في الحج

أضواء، من أسرار الحج

عظمة الحج  و منافعه

الحجُّ عبادة وحركة وسياسة

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)