نبذة تاريخيّة عن القبلة في المسجد النّبويّ الشّريف
من وظائف المسلمين معرفة القبلة، وهي الكعبة المعظمة في مكة المكرمة، في الحجاز، من شبه الجزيرة العربية، فالتوجه إليها شرط في صحة صلواتهم، والتوجيه إليها شرط في حلّية ذبائحهم. وحسب اختلاف المناطق طولاً وعرضاً وشمالاً وجنوباً تختلف القبلة اختلافاً كبيراً، وتتوقف معرفته على علم الهيئة والفلك والجغرافية.
قبلة المسجد النبوي الشريف
ومن المعلوم في تاريخ الاسلام أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذ هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة الطيبة كان يصلي إلى المسجد الأقصى في مدينة ايليا = القدس الشريف في فلسطين من أراضي الشام، واستمر على ذلك حتى منتصف السنة الثانية بعد هجرته، حيث نزل أمين الوحي جبرئيل(عليه السلام) فحوّل الرسول في منتصف الصلاة الوسطى (الزوال) من المسجد الأقصى إلى الكعبة المعظمة في المسجد الحرام، فحوّل الرسول قبلة مسجده كذلك إلى نقطة الجنوب تماماً، من دون أي انحراف عنها.
فساد الهيئة البطلميوسية
وفي أوائل عهد الخلافة العباسية، حيث تُرجمت كتب العلوم اليونانية إلى العربية ومنها كتب الهيئة البطلميوسية، فسادت هذه الهيئة بين الأمة الاسلامية، وكانت نقطة البدء في تعيين خطوط طول البلاد في تلك الهيئة «جزيرة فرو» من «الجُزر الخالدات». وعليها كانوا يرون طول مكة المكرمة 77 درجة و10 دقائق، وعرضها 21 درجة و40 دقيقة. وطول المدينة 75 درجة و20 دقيقة وعرضها 25 درجة فقط. وعليه فطول المدينة أقل من طول مكة المكرمة بدرجتين و10 دقائق، بينما يزيد عرض المدينة على عرض مكة المكرمة بثلاث درجات و40 دقيقة.
و حيث أن قانون الهيئة يقتضي أن أي مدينة كان طولها أقل من مكة وعرضها أكثر منها مثل المدينة المنورة، فلا تحصل مواجهة القبلة من تلك المدينة إلاّ إذا انحرفنا فيها عن نقطة الجنوب إلى جهة المشرق بازاء كل درجة من الطول 10 إلى 12 درجة بحسب اختلاف الأفق في المناطق، لهذا كانوا يحكمون بأن قبلة المدينة المنورة تنحرف عن نقطة الجنوب إلى جهة المشرق 27 درجة. هذا في حين أنّ المحراب المبارك في المسجد النبويّ الشريف كان ولا يزال مواجهاً لنقطة الجنوب تماماً من دون أي انحراف.
فالمحراب الذي عيّنه الرسول المعصوم(صلى الله عليه وآله) وشيّد تحت اشرافه، كان أمارة شرعية، وعلامة معتبرة لتعيين القبلة، دون أن يتصور فيها أي شبهة أوإشكال. وعلى هذا فكيف يمكن لأصحاب الهيئة (البطلميوسية) من المسلمين أن يذعنوا بانحراف قبلة المسجد النبوي؟ أللّهم إلاّ أن يتخلوا عن عقيدتهم بعصمة الرسول الكريم!
تحقيق المحدث المجلسي في ذلك
كانت هذه المشكلة عويصة كبرى في العصور السالفة بين علماء المسلمين، حتى إن المحدث المحقق المجلسي(رحمه الله) كان مما فرض على نفسه التحقيق في هذه المسألة : أي انحراف قبلة المدينة المنورة ومسجدها؟ ، وبعد تشرّفه بها عمل كل ما بوسعه من التحقيق والدراسة حول الموضوف ولكنه لم يصل إلى أي نتيجة، فلم يتمكن من أن يوفق أويلائم فيما بين قبلة المسجد النبوي الشريف وبين قواعد الهيئة القديمة، التي كانوا يظنونها طِلسماً لا ينكسر! وبالتالي فإنه احتمل قوياً ـ ومضطراً ـ أن تكون يد متعمدة أومخطئة قد عملت في العمارات المتعاقبة على المسجد في زمن الخلفاء العباسيين، فحرفت القبلة عن الموضع الأصلي على عهد النبي إلى ما هي عليه اليوم ويومئذ، من دون أن يتصور أويحتمل الخطأ في قواعد الهيئة والجغرافية القديمة!
الخطأ المكتشف
في حين أنّ هذا ـ أي خطأ الهيئة القديمة ـ هو الواقع والحقيقة، وقد نشأ خطأ القدماء في هذا الحكم من حيث إنهم زعموا أنّ طول المدينة أقل من طول مكة المكرمة، وقد أخطأوا في زعمهم هذا لأنهم لم تكن لديهم مقاييس وأدوات دقيقة لتعيين طول البلدان وعرضها، بينما علماء الهيئة والجغرافيا اليوم قد حددوا أطوال البلدان وعرضها بمقايس دقيقة حتى المتر ونصفه بل السانتيم والملّيم، فعشروا ضمن ذلك على حقيقة تساوي البلدين مكة والمدينة تقريباً في خط الطول، وكان مبدأ الطول لدى القدماء «جزيرة فرو» من «الجزر الخالدات» كما مرّ ، بينما هو لدى المتأخرين مرصد آ«غرينويشآ» في لندن ، وقد حاسبوا ذلك على التقديرين، فكان طول البلدين متساوياً تقريباً كما يلي :
طولهما على مبدإ جزيرة فرو : 57 درجة و57 دقيقة و5 ثواني.
وطولهما على مرصد غرينويش : 39 درجة و50 دقيقة فقط.
فعلى أيّ تقدير يكون طول البلدين متساوياً تقريباً، وحسب قواعد الهيئة تكون القبلة كما هي عليه في المسجد النبوي الشريف ومحرابه فيه. وبهذا عُلم أن رأي القدماء بانحراف قبلة المسجد ومحرابه كان خطأً ووهماً! بل إنّ وجود هذا المسجد والمحراب أثر قيّم وشاهد كبير لاثبات علم المعصوم بالهيئة و الفلك والجغرافيا والنجوم .
أسواق مكّة و المدينة
أسماء مكّة
الحجّ الإبراهيمي والحجّ الجاهلي