أضواء، من أسرار الحج
إن جميع الأنبياء قد بعثوا لمحاربة الشرك و عبادة الأصنام و لفهم هذا الأمر بشكل واضح يكفينا نظر في هذه الآية الشريفة: «
و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه انه لا اله إلا أنا فاعبدون ».
إن هذه الآية المباركة توضح و بشكل جلي بان من أهم واجبات الأنبياء إزالة مظاهر الشرك بأنواعه كافة في كل زمان و مكان. من هنا و من خلال اخذ هذا الأصل ينضد الاعتبار فان بعض الأعمال في ظاهر الحال و كأنها لا تتلائم مع مبدا التوحيد من قبيل: التوجه نحو الكعبة اثناء الصلاة و ما هي سوي أحجار و طين أو لمس الحجر الأسود باليد الذي لا يعدو كونه جمادا ليس إلا، أو السعي بين جبلي «الصفا» و «المروة» و غيرها من الأعمال. و عليه يفرض هذا التساؤل نفسه، ما هو السر الكائن في هذه الأعمال والواجبات؟ و ما هو وجه الاختلاف بينها و بين أعمال المشركين؟
و قبل البدء في بيان أسرار هذه الأعمال، نشير إلى ان هذا التساؤل سبق ان طرح قديما. ففي عصر
الإمام جعفر الصادق «ع» حضر ابن أبي العوجاء– رئيس الماديين آنذاك– مع جماعة من أصحابه عند الإمام الصادق «ع» و توجه له بالسؤال التالي: «يا أبا عبد الله! ان المجالس امانات، ولابد لكل من به سعال من ان يسعل أتأذن لي في الكلام؟
فقال: تكلم، فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، و تلوذون بهذا الحجر، و تعبدون هذا البيت المعمور بالطوب والمدر، و تهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، ان من فكر في هذا وقدر علم ان هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر. فقل فانك راس هذا الأمر و سنامه و أبوك أسسه وتمامه فقال أبو عبد الله «ع»: إن من أضله الله و اعمي قلبه استوخم الحق، و لم يستعذبه، وصار الشيطان وليه و ربه و قرينه، يورده مناهل تهلكة ثم لا يصدره. و هذا بيت استعبد الله به خلقه، ليختبر طاعتهم في اتيانه، فحثهم علي تعظيمه وزيارته، و جعله محل أنبيائه، و قبلة للمصلين اليه، فهو شعبة من رضوانه، و طريق يودي إلى غفرانه، منصوب علي استواء الكمال، و مجمع العظمة و الجلال، خلقه الله قبل دحوا الأرض بألفي عام فالحق من أطيع فيه أمر، وانتهي عما نهي عنه وزجر الله المنشي للأرواح و الصور».
فمن خلال المنطق القويم و الحديث الحكيم، كشف الإمام الصادق «ع» النقاب عن بعض أسرار الحج. حيث سنقل نفحات و رشحات من حديثه المبارك و سائر أئمة الهدي، الوارد في الإجابة عن هذا السؤال: و الهدف المتوخي من وراء هذا النقل، الإشارة إلى قدم هذا السؤال، ليفضح لنا بان هؤلاء التساؤلات، كان لها حضور في أذهان الناس.
سر التوجه إزاء الكعبة اثناء الصلاة
علي العكس مما كان يجول في ذهن ابن أبي العوجاء المادي المعروف في عصر الإمام جعفر الصادق «ع» فان الهدف من التوجه نحو الكعبة اثناء الصلاة، لا يعني عبادة الكعبة أو حجرها وطينها. فان جميع المصلين يعبدون الله تعالي، وحال توجههم نحو الكعبة، فان الجميع يخاطب الله الواحد الأحد بقوله: «إياك نعبد و إياك نستعين» و العلة في توجهنا نحو الكعبة حال الصلاة، تكمن في ان الكعبة تعد اقدم معبد و بيت للتوحيد، بني بأيدي أنبياء الله العظام للموحدين من أهل الأرض، ولا يسبقه في هذا القدم أي معبد آخر، كما يقول القرآن الكريم: «
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدي للعالمين».
إن الشريعة الإسلامية المقدسة، و من اجل إيجاد الوحدة بين المصلين، و توحيد صفوف المتوسلين، أوجبت علي الجميع أداء الصلاة بلغه واحده، والتوجه إلى اقدم المعابد حال الصلاة، لتحفظ من خلال هذا السبيل وحدتهم حال العبادة والتعبد، أي ان يتفوه ملايين البشر في آن واحد بكلام واحد، و يتجهون نحو نقطه واحده. و ان يعلنوا وحدتهم واتحادهم بشكل واضح وعلني. و بناء علي ذلك، فان التوجه نحو هذا المعبد ليس بمعني عبادته، بل بمعني جعله رمزا لوحدتهم و اتحادهم حال العبادة.
لقد كان المسلمون في صدر الإسلام، يقيمون الصلوات جماعة، و صلاة الجماعة من المستحبات المؤكدة في الإسلام. فلو أراد جمع أداء فريضة ما معا، عليهم ان يتوجهوا جميعا إلى وجهة واحدة، و بغير هذه الصورة لا يمكن أداء الفريضة.
ان نبي الإسلام و المسلمين جميعا، ظلوا يصلون لفترة من الزمن متجهين في صلاتهم تلك نحو «المسجد الأقصى» الا انه و بعد سبعه عشر شهرا من تاريخ الهجرة، جاء الأمر بان يتجه المسلمون نحو المسجد الحرام والكعبة حيثما كانوا، لاسباب و علل ذكرت في محلها قال الله– عز و جل -: «…
فولوا و وجوهكم شطره….»
لقد ذكر الإمام الصادق «ع» هذا المعترض المادي في عصره بواحدة من أسرار التوجه نحو الكعبة حال الصلاة و قال: «و هذا البيت استعبد الله به خلقه، ليختبر طاعتهم في اتيانهؤ فحثهم علي تعظيمه و زيارته، و جعله محل انبيائه، و قبلة للمصلين إليه. فهو شعبه من رضوانه، و طريق يودي إلى غفرانه».
لماذا نستلم الحجر الأسود باليد
يستفاد من الأحاديث الإسلامية، آن بناء الكعبة كان موجودا، قبل عصر سيدنا إبراهيم «ع» و آن جداره تهدم علي اثر طوفان نوح «ع». و بعد آن أمر
النبي إبراهيم بإعادة بناء الكعبة، وضع «الحجر الأسود» و هو جزء من جبل «أبو قبيس»، وضعه بأمر الله تعالي في جدارها. وألان يطرح هذا السؤال: لماذا نستلم هذا الحجر بأيدينا؟ و ما هو الهدف من هذا العمل؟
و جواب ذلك: ان استلام الحجر و وضع اليد عليه، يعد نوعا من العهد والبيعة مع سيدنا إبراهيم، لمحاربة مظاهر الشرك و عبادة الأوثان بأنواعها كافة، أسوه ببطل التوحيد، و ان لا ننحرف عن الحنفية، و لا نخرج عن جادة التوحيد في مظاهر الحياة كافة.
و تتم البيعة مع الفرد أحيانا، بمصافح يده و غمزها، أو بمسك طرف الثوب، و أحيانا أخري تتم بشكل أو باخر. ونقرا في التاريخ عندما نزلت الآية المباركة «يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك علي ان لا يشركن بالله شيئا…» فان النبي «ص» أمر بإحضار إناء فيه ماء، ووضع يده المباركة فيه، ثم أخرجها من الماء و قال: من أرادت منكن ان تبايعني ، فلتضع يدها في الماء، و تبايعني علي ما في هذه الآية. و من هنا فان مبايعة رسول الله تمت عن طريق وضع اليد في شيء وضع هو يده فيه. و مسالة استلام «الحجر الأسود» من هذا القبيل أيضا.
فالهدف إذن ، ان نبايع بطل التوحيد و نبينا الأكرم «ص» علي صيانة التوحيد. لذا يقول الإمام الصادق «ع»: و قل عند استلامك الحجر: «أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالمؤافاة».
يقول ابن عباس: «واستلامه اليوم (أي الحجر) بيعه لمن لم يدرك بيعة
رسول الله «ص».و بناء علي ذلك فان الهدف من تقبيل الحجر و استلامه، تجسيد لميثاق قلبي مركزه روح الإنسان. و حقيقة الأمر، فان زائري بيت الله بعملهم هذا، يجسدون ذلك الميثاق القلبي علي هيئه أمر ملموس و محسوس.
و في الكثير من بلدان العالم، يقدس الجنود اعلام بلدانهم، و يفقهون امامها بإجلال و إكبار مجددين العهد باليمين. و من المسلم به، ان العلم بضعة أمتار من القماش ليس إلا. الا انه يمثل رمز استقلال البلد، و عنوان ارادته الوطنية و الشعبية. و في هذه الحالة، فان الجندي بدلا من مصافحة أيدي الناس أو القادة و غمزها، فانه يشير إلى العلم و يؤدي اليمين و العهد. و ستقرا في الجزء الآخر من الجواب، بان الهدف من بعض مراسم الحج، هو تجسيد نوع من الحقائق ، التي جسدت نفسها عن طريق أعمال الحج.
ما الهدف من السعي بين الصفا و المروة
ان حجاج بيت الله، و من خلال السعي بين الصفا و المروة، يجسدون حاله السيدة هاجر أم إسماعيل «ع». و بشهادة التاريخ، فإنها– و من دون ان تيأس من رحمة الله تعالي– سعت في تلك الصحراء العارية من الزرع و الماء، سبع مرات بين ذينك الجبلين بحثا عن الماء، و في نهاية المطاف شملها لطف الله تعالي، و نالت مقصدها وبعد أن فار الماء تحت أقدام إسماعيل «ع» نجت هي و ابنها من العطش.
و يستفاد من بعض الاحاديث، بان الشيطان قد تجسد لسيدنا إبراهيم «ع» في هذا المكان، و اخذ يعقبه في سعيه، ليبعده عن حرم بيت الله. و بأدائنا لهذا العمل، إنما نجسد ذلك العمل المعنوي.
و بذبح القرابين في صحراء مني، فإننا نحيي ذكري فداء سيدنا إبراهيم «ع» الذي ضحي بكل شي في سبيل الله حتى ولده.
ما الهدف من رمي الجمرات
إن حجاج بيت الله الحرام يرجمون في أيام العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر، أعمده معينة في ارض مني (قرب مكة) بالحجر. و بهذا العمل فانهم يرمون في الظاهر نقطة معينة بالحجر، الا انهم يرجمون الشيطان في باطنهم.
و الأحاديث الإسلامية بينت ماهية هذا العمل بقولها: ان الشيطان قد تجسد لسيدنا إبراهيم «ع» في الأماكن الثلاثة هذه، و رجمة إبراهيم بالحجر ليظهر تنفره منه. و بقي عمل إبراهيم هذا سنة إلهية في أعمال الحج.
ان حجاج بيت التوحيد، و إظهارا لنفرتهم من الشيطان و الشياطين، يرجمون تلك النقطة بالحجر تعبيرا عن إبراهيم(ع). و بهذا الشكل فانهم يعبرون عن غضبهم من كل موجود شرير خبيث و نجس. و ان النفرة من النجاسة و هي أمر معنوي و قلبي، يعبرون عنها بهذه الطريقة بشكل ملموس و محسوس.
واليوم فان الشعوب المستضعفة التي تعالي من الظلم والجور، تقوم بإحراق اعلام الدول المستكبرة السلطوية، و العلم ليس اكثر من بضعة أمتار من القماش الملون. الا ان الشعوب– و من اجل إظهار غضبها اعتراضا بالإفساد و الجرائم التي تركبها القوي العظمي– تقوم بإحراق رموزهم، و كأنهم قاموا بإحراقهم و ابادتهم و القضاء عليهم، و علي الأقل فان هذا العمل يبين انزعاجهم الشديد من أولئك الظلمة.
و خلاصة القول: فان الذي يتأمل في تاريخ فرائض الحج، يتلمس الحقيقة التالية: و هي ان الكثير من هذه الأعمال، الغرض منها تجسيد طائفة من الذكريات، فبناءه من حياة و سيرة سيدنا إبراهيم «ع»، و مجموعة من الأمور المعنوية و الأخلاقية، التي تؤدي بسلسلة من الأعمال بشكل نموذجي و منظم، و ليس الغرض منها عبادة الحجر والطين والجبل مطلقا.
أرقام و إحصاءات حول الحج