المرونة في اكتساب الأفكار وترويجها
يكتسب الانسان الافكار نتيجة ممارسته الحياة بالدرجة الاساس وهي الافكار الواقعية التي تظهر من خلال التجربة والعمل سواء كان ناجحا ام فاشلا لكنه في محصلته النهائية يعد درسا بليغا يستفاد منه للتجارب اللاحقة وتطويرها نحو الافضل وبما يعود عليه بالنفع والنجاح.
كذلك يستفاد من تجارب الآخرين بحدود معينة كمحصلات تعضد يومه القادم.
هذا في نطاق البيئة اما في النطاق الاوسع والاشمل فان الافكار التي يعدها الآخرون كمجموعات بشرية من بيئات بعيدة فان الامر يتخذ جوانب معقدة سواء على مستوى الافكار او التوجهات الفلسفية والنمط السياسي القائم لدى الطرفين فان ثمة تعارضات قوية تحول دون الاستفادة الفكرية او الفلسفية وبالتالي يتضاءل التطوير وعدم تفعيل التجارب الانسانية تحت مسوغات دينية يراد بها الجانب السياسي وليس الديني.
واذا كان هناك ميل واضح للتاثير الديني فهو الديني المتطرف الذي يلغي كل شئ ولا يسمع لأحد ولا يتعظ بالتجارب ولا بالافكار ولا حتى بالآليات العملية، فكل شئ يعني الكفر والالحاد يستحق التصفية والحرب.
ومعلوم ان الدين نظام شمولي إلا انه في العصر الحديث قد اعتمد الديمقراطية لأسباب استراتيجية وهذه الاستراتيجية انما المراد منها ان تمهد سياسيا وفكريا وعقائديا وعملا في الناس حتى يروا واقعيا بان الدين هو النظام الاكفأ والافضل على المستوى الحياتي والمستوى الآخروي، وبالتالي فانه كنظام سياسي لن تخدمه القطيعة مع الجانب السياسي ولن يقنع احد بانه فعلا مؤهلا لإدارة الحكومات ولا يغنيه كثرة التنظيرات والكتب فان تجربة صغيرة على الميدان الواقعي تستطيع بفعلها ان تجند آلاف المناصرين والمعضدين.
وبهذه الانعطافة الايجابية انما دلل على مرونة فائقة في التعامل مع واقع الحياة وخطط للمستقبل دون ان يفقد اصالة الدين ودون ان يقف موقف السلب والتقوقع في دائرة مغلقة على اساس( اكون او لا اكون).
وهذا الدور الحساس الجديد في منتهى الخطورة ان لم يلعبه السياسي الديني لأنه قد يرتد الى جسد الدين ويتحول من كونه دعائيا الى مؤلبا ضد الفكرة الدينية الاصيلة نفسها ويجعل الناس يكفرون بالوجه السياسي تحت ضغط الانطباعات السلبية التي تتخذ الافراد القائمون في الوجه السياسي الديني كأنموذج او كمثال للتقوى وبياض اليد وكون المثال مرصود.
العربي بوجه العموم لايمتلك المرونة الكافية للامتداد في الحياة والتطوير وانما ينزع الى التقوقع على الافكار البيئية التي نشأ عليها ولذا فان القرآن الكريم كان يحض في اغلب آياته على العقل والمرونة الذهنية .. لعلهم يعقلون .. يأولي الالباب .. لعلهم يتفكرون .. ولم يتغيروا العرب إلا ان شهدت بيئاتهم تغيرا بدرجة ما باتجاه الدين ولعل هذا الاتجاه قد جرى اعادة انتاجه، أي انتاج الدين من قبل تلك البيئات بالصورة التي تتوافق مع الذاكرة الجمعية المختزنة من البداوة الجاهلية.
فنشأت فرق شتى رغم ان الدين واحد وهذا النشوء انما هو صراع بيئي لم يستطع ان يذوب بالمفهوم الاسلامي كجامع فكري وعقائدي وجرى الشك في اهل الدين وحدد بشخص النبي والقرآن وكلا المصدرين قابلين للتاويل المتعدد، وكما قال الامام علي بن ابي طالب: ان القرآن حمال اوجه.
والسنّة النبوية قابلة وبشكل كبير الى الوضع والتزوير بتعاقب القوى السلطوية، ورغم ان له من اختص به من اهله الا ان التصلب في العقلية وعدم وجود المرونة الذهنية وضع في غير اهله عنادا وتحيزا للبيئات الاجتماعية والسياسية.
ونجد شكلا آخر للبيئات الاجتماعية التي فعلت فعلها في الجانب الديني أي التي اعادة انتاج الدين بما يلائمها وتتمثل تلك البيئات بالعشائر وطقوسها وعاداتها وهي قطعا رؤية الشيوخ أي الاقطاع او ملاك الاراضي الزراعية حتى ان السواني ( مشتق من سنّة..من سن سنّة)التي يعتمد عليها هي في الاصل ما افتى به الشيوخ أي ملاك الاراضي الزراعية في المسائل العارضة كجرائم القتل والاعتداء وعن كيفية قيامهم بحلها.
أي ان الاقطاع كان موازيا للوجه الديني، فالديوان المضيف موازيا للمسجد من جانب القداسة والاحترام.
سيرة الشيوخ موازية لسيرة الصالحين.. معرفة العشائر والانساب موازية للسير الكريمة النورانية... التقاليد الرسمية المعتمدة ربما اقوى من الاهمال في الانساق الدينية!.
واذن فان العقلية لا تستطيع ان تهضم بسهولة أي تطوير باتجاه الافضل الا ان تكون البيئة هي الفاعلة وبالحدود التي تبقي القميص القديم على الجلد مهما كان وسخا ومتهرئا.
ولنا ان نتساءل أي حجم من النضال والتضحية ونكران الذات واي الم ومعاناة قد بذلت في ايام الاسلام الاولى وهي تتصدى لهذه العقلية وتغيرها باتجاه الجديد من المفاهيم والافكار والسلوك؟.
لكنه وبرغم هذا التساؤل فلا زال الكثير امام اهل النور ان يضحوا من اجله وان يصبروا كثيرا ويتحملوا المآسي في عصر ازدادت فيه غربة الدين وغربة الحق.
ولا زال المزيد من المرونة مطلوبا باضعاف مضاعفة حتى نيل السعادة بيد المحرومين منها.