الرجوع عن البذل في الحج
مسألة 64 ـ هل يجوز للباذل الرجوع عن بذله، أم لا ؟
الكلام في المسألة يقع في جهات :
- الجهة الاُولى: فيما إذا رجع عنه قبل أن يحرم المبذول له، والظاهر أنه يجوز له ذلك، لقاعدة السلطنة، ولأن مجرد البذل وإباحة التصرف للمبذول له لا يوجب عدم جواز الرجوع إليه .
نعم ، إن كان ذلك بالهبة والتمليك وقلنا بحصول العرض ووجوب القبول إذا كانت بشرط صرف المال الموهوب في الحج فالمسألة تدخل في مسائل الهبة ، فإن رجع الباذل قبل القبول أو بعده وقبل القبض أو بعد القبض وكان المال موجوداً وكانت الهبة لغير ذي رحم فالرجوع جائز، وإلا إذا كان الرجوع بعد القبض وتصرف المتهب في المال أو قبل التصرف وكان المتهب ذي رحم لا يجوز الرجوع . وهذه الفروع تجري كلها في الجهة الثانية إن قلنا فيها بجواز الرجوع إلى البذل وكان البذل بالهبة .
- الجهة الثانية: فيما إذا رجع عن بذله بعد دخول المبذول له في الإحرام ، قال السيد (قدس سره) في العروة : ( وفي جواز رجوعه بعده وجهان ) . والذي ينبغي أن يقال : إن مقتضى قاعدة السلطنة جواز الرجوع إليه; لأنّ المال لم يخرج عن ملكه بالإباحة والإذن في التصرف، وجواز تصرف المبذول له يدور مدار بقاء الإذن وعدم رجوع المالك عن إذنه كسائر الموارد .
ولو كان البذل بالهبة فحكمه ما ذكرناه في الجهة الاُولى. وبالجملة: لا وجه لالتزام الاذن والمبيح بالبقاء على إذنه وإباحته ومنعه من إعمال سلطنته في ماله، فعلى هذا عدم جواز الرجوع محتاج إلى الدليل .
والذي يمكن أن يقال أو قيل في وجه عدم الجواز اُمور :
- الأول : أنّه لايجوز الرجوع لوجوب إتمام الحج على المبذول له، ومعه لا يجوز للباذل الرجوع إلى بذله; لأنه موجب لتفويت تمكن المبذول له وعدم قدرته من إتمام العمل الواجب عليه بتسبيب الباذل، كما ليس لمن أذن لغيره في الصلاة في ملكه أن يرجع عنه بعد شروع المأذون له في الصلاة; لاستلزامه فعل الحرام وهو قطع الصلاة .
وفيه أولا: أنّا نمنع أن يكون الأمر في المقيس عليه كذلك; لأن ماهو الحرام قطع الصلاة اختياراً، وهذا غير انقطاعه برجوع الآذن من إذنه وحصول غصبية المكان .
وبعبارة اُخرى : دليل حرمة قطع الصلاة وإبطالها الإجماع، والقدر المتيقن منه الإبطال والقطع الاختياري ، وبطلانها وانقطاعها ببعض الأسباب خارج عن ذلك، بل لا يمكن أن يشمله الإجماع، بل ولا قوله تعالى: ( لا تبطلوا أعمالكم ) إن قلنا بأن المراد منه قطع الأعمال وإبطالها بالاختيار فإن الإنبطال غير الإبطال وخارج عن موضوع الإجماع والدليل .
- و ثانياً : أنّ قياس البذل والحج بالإذن للصلاة في الملك مع الفارق; لأن المصلِّي برفع الإذن لا يتمكن من إتمام صلاته في المكان المأذون فيه، سواء بنينا في مبحث اجتماع الأمر والنهي على الامتناع أو على الجواز على ما ذكرناه في تقريراتنا لأبحاث سيدنا الاُستاذ الأعظم (قدس سره) الاُصولية، وأما في الحج فالمبذول له متمكن من الإتمام متسكعاً وبالاستدانة أو غير ذلك .
- و ثالثاً : نمنع وجوب إتمام العمل ، لأنّ وجوبه مشروط حدوثاً وبقاءً بالاستطاعة، فلا وجوب مع زوال الاستطاعة، فلايجب عليه الإتمام بل يجوز له رفع اليد عن الإحرام والرجوع عن الحج، كما إذا سرق مال الاستطاعة .
- الأمر الثاني : كما أن إذن المالك للشروع في الصلاة إذن للإتمام; لأن الإذن في الدخول في الصلاة الصحيحة مستلزم للإذن بإتمامها في ملك المالك; لأن الإذن في الشيء إذن في لوازمه كذلك بذل الباذل المال للشروع في الحج بذل للمبذول له وإذن له لإتمامه .
وفيه : أن البحث ليس في أن إذن المالك في الدخول في الصلاة في ملكه هل هو إذن لإتمامه فيه: حتى نحتاج إلى إثباته بأن الإذن في الشيء إذن في لوازمه .
بل البحث في أن المالك بعد إذنه، بالدخول في الصلاة وإتمامها في ملكه هل يجوز له الرجوع من إذنه أم لا ؟ فلا ارتباط لما نحن فيه بقاعدة الإذن في الشيء إذن في لوازمه; لأن البحث عن القاعدة بحث في استلزام الإذن في الشيء الإذن في لوازمه وتحقق الإذن في اللازم بتحقق الإذن في الملزوم .
وهنا بحث في جواز العدول عن الإذن سواء كان الإذن، في الشيء أو في لوازمه، وسواء ثبت الإذن بالقاعدة المذكورة أو بدليل آخر .
وهذا مثل رجوع المالك عن إذنه في البناء في ملكه فإنه عين الإذن في بقائه أو مستلزم له، إلا أنه له أن يرجع عن إذنه ويزيل البناء لقاعدة السلطنة، إلا إذا كان موجباً للضرر فالمرجع هو قاعدة الضرر الحاكمة على قاعدة السلطنة .
وهل يجب على المأذون إخلاء الارض لو طلب ذلك منه المالك ؟ الظاهر عدم الوجوب; لأن إشغال الأرض كان بإذن المالك، وهذا مثل أن يأذن المالك غيره بنقل ماله إلى مكان آخر للانتفاع منه ورجوعه منه فإنه لايجب للمأذون نقله إلى
مكانه الأول .
- الأمر الثالث : كما أنه ليس للمالك الذي أذن غيره في رهن ملكه أن يرجع عنه ولا أثر لرجوعه في فك الرهن كذلك لا أثر لرجوع المالك عن إذنه وبذله في الصلاة والحج بعد الشروع في الصلاة وبعد الإحرام .
وفيه : أنه فرق بينهما: فإن الرهن سواء كان العين ملكاً للراهن أو رهنها بإذن مالكه يوجب حقاً للمرتهن متعلقاً بالعين لايؤثر رجوع الراهن أو المالك في إزالة ذلك الحق وسلطنة المرتهن عليه، بخلاف الإذن في التصرف والإباحة فإنه لايفيد حقاً للمأذون له على المأذون فيه .
ووجه ذلك كما صرح به بعض أعاظم العصر: كون عقد الرهن المأذون فيه من المالك من الاُمور الغير قارّة التي تحدث وتنعدم فإذا حدث بإذن من له الإذن يحدث أثره وهو صيرورة العين رهناً لمال المرتهن، وهي توجد في عالم الاعتبار غير منوطة بالإذن، والمأذون فيه وهو العقد حدث وانعدم لايقبل الانعدام برجوع المالك عن إذنه، بخلاف الرجوع إلى البذل فإن الرجوع فيه موجود يدوم بدوام الإذن وبقائه كحدوثه محتاج إلى بقاء الإذن .
وبعبارة اُخرى : ما هوالموضوع للإذن تارةً يكون أمراً حادثاً لابقاء له ولا استمرار مثل العقد حتى يكون في البقاء محتاجاً إلى الإذن وينعدم برجوع الآذن عن إذنه ، وتارةً يكون أمراً صالحاً للبقاء والاستمرار كالمال المبذول إباحة والتصرف في المكان ، ومثله إذا كان موضوعاً للإذن يكون محتاجاً إليه في الحدوث والبقاء وقابلاً لرجوع المالك عن إذنه فيه ، وعقد الرهن يكون من قبيل الأول لامحل لرجوع المالك فيه عن إذنه، والبذل وإباحة التصرف من الثاني يحتاج بقاؤه إلى بقاء إذن الباذل .
لا يقال : إنّ المأذون فيه في الرهن ليس العقد الصادر من الراهن والمرتهن فإن وجوده لايحتاج إلى إذن المالك، بل المأذون فيه يكون ما هو المسبب من عقد الرهن، أي صيرورة المال رهناً عندالمرتهن وله البقاء في عالم الاعتبار، وهو يدور مدار بقاء إذن المالك .
فإنه يقال : إنّ صيرورة المال رهناً لايتحقق إلاّ بأن لايكون للمالك الرجوع عن إذنه ولايقبل الانعدام برجوعه، بخلاف مانحن فيه فإن إباحة التصرف والإذن فيه لاتتوقف على أن لايكون للمالك الرجوع عن إذنه تكليفاً أو وضعاً .
- الأمر الرابع : التمسك بقاعدة الغرور، إلاّ أنّ التمسّك بها لعدم جواز الرجوع إلى البذل ليس في محله ، نعم للتمسك بها لضمان الباذل ما أنفق المبذول له لإتمام الحج إذا قلنا بإتمامه أو ما أنفقه قبل رجوعه عن البذل في ذهابه أو مايلزم عليه من نفقة عوده وجه يأتي بيانه .
وقد ظهر بذلك كله عدم وجود ما يمنع من جواز رجوع الباذل إلى بذله بعدالإحرام .
- الجهة الثالثة : بناءً على جواز رجوع الباذل إلى بذله، هل يضمن للمبذول له مصاريف عوده إلى وطنه، أو مصاريف إتمام حجه إن قلنا بوجوب إتمامه بالشروع لإطلاق مثل قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله) إن قلنا : إن المراد منه الأمر بإتمام الحج والعمرة لا أداؤهما بآدابهما وأجزائهما تاماً لقاعدة الغرور والنبوي المرسل : « المغرور يرجع على من غره » المنقول في بعض الكتب مثل الجواهر في كتاب الغصب، وحكي عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد وعن ابن الأثير في النهاية وإن لم نجده فيه، كما لم نجده في ما عندنا من المعاجم وفهارس كتب حديث الخاصة والعامة، ولعله كان من العمومات الملتقطة و قد التقط من طائفة من الروايات في موارد خاصة.
وكيف كان لاريب في حجية القاعدة في الجملة، والظاهر أنه إذا كان الحال بحيث يعتمد العرف على وعد الباذل ويصدق اغتراره بإباحته وإذنه إن رجع عنه يكون هو ضامناً لما يقع فيه المبذول له من الضرر ويصدق على المتضرر عنوان المغرور .
ولكن مع ذلك في النفس شيء من ذلك، لأنّ الظاهر من « غرّه » و « الغارّ » و «المغرور » هو ما إذا كان الغار عالماً بالضرر والعيب ودلّس على المغرور وأخفاه عنه أو سكت، أو وإن لم يكن عالماً به كان المورد ضررياً حين إقدام الغار والمغرور .
وأما إذا لم يكن كذلك مثل الإذن في التصرف وإباحته ثم رجع الآذن بعد ذلك فليس من هذه الأمثلة بشيء، ولاتشمله قاعدة الغرور، اللهم إلا أن يدّعى بناء العرف والعقلاء في مثل ذلك على ضمان الآذن للمأذون له، وحيث لم يردع الشارع منه فهو المتبع .
فإن قلت : فلماذا لم نَّدعِ بناء العقلاء على عدم جواز الرجوع عن الإذن في مثل ذلك ؟
قلت: هذا الارتكاز العقلائي إنما يكون لعدم قبولهم وقوع المبذول له في الضرر، وأما عدم جواز رجوع الباذل في ماله فلا بناء لهم عليه لكونه ناقضاً لسلطنته على ماله ، فعلى هذا كله الأقوى هو وجوب تدارك ضرر المبذول له على الباذل الراجع عن إذنه .
بيان في قاعدة الغرور
اعلم: أن الغرور هو انخداع الشخص عن آخر بترغيبه ذلك الشخص إلى فعل يترتب عليه الضرر . والتغرير هو ترغيب الغير إلى الفعل المذكور، والقدر المتيقن منه الذي تشمله القاعدة هو صورة علم المرغِّب بالحال وجهل المنخدع بذلك .وأما صدق الغرور والتغرير على صورة جهلهما بذلك فالإشكال فيه ينشأ من عدم صدق عنوان التغرير والخدع والغار على فعل المرغب الجاهل وعلى نفسه سيما إذا كان مشتهياً ومريداً لإيصال النفع إلى الآخر .
واُجيب عنه: بأنّ صدق عناوين الأفعال عليها إذا لم تكن قصدية لايتوقف على قصدها، فإذا ضرب أو أكل أو مشى أو تكلم يصدق على فعله عنوان الضرب والأكل والمشي والتكلم وإن لم يقصدها وصدرت منه غافلاً وناسياً ، ولذا قالوا : إن الطبيب ضامن وإن كان حاذقاً ، فإذا كان الحال على نحو يعتمد في العرف على ترغيب الشخص مثل الطبيب يكون المرغب هو دافع الفاعل إلى الضرر وموقعه فيه وإن كان جاهلاً بترتب الضرر على الفعل ، فعلى هذا يكون مثله داخلاً في عنوان الغار ويصدق على ترغيبه التغرير .
هذا بحسب الموضوع، فالمرغب الجاهل بالضرر غار، كما أن العالم به غار، إلاّ أن كون الأول ضامناً للمغرور كالثاني يدور مدار شمول ما يدل على القاعدة له، وذلك يختلف باختلاف المباني وما يستند إليه للقاعدة .
فإن كان الدليل لإثبات الحكم وضمان الغار ما عبر عنه بعضهم بالنبوي وهو « أنّ «المغرور يرجع على من غره » فهو يشمل صورة جهل الغار كما يشمل صورة علمه به إلاّ أنّه راجعنا ماعندنا من المعاجم وفهارس كتب حديث العامة والخاصة فلم نجده في واحد منها .
نعم، في مورد من الجواهر ذكره بقوله : بل لعل قوله (عليه السلام) : « المغرور يرجع على من غره» ظاهر في ذلك، ولايستفاد من كلامه أنه من النبويات أو غيرها، وحكي عن ابن الأثير في النهاية ولم نجده فيه، كما حكي عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد ولعله كان من العمومات الملتقطة من الروايات .
وإن كان المدرك لها الإجماع فهو على تقدير حجيته وكونه إجماعاً تعبدياً لايحتج به إلا فيما هو القدر المتيقن منه وهو صورة علم الغار .
وإن كان الدليل هو الأخبار فهي ظاهرة فيما إذا كان الغار عالماً بالضرر، مثل ما ورد في باب تدليس المرأة ورجوع المحكوم عليه إلى شاهدالزور .
وإن كان المدرك أن الغار أتلف على المغرور ما خسر وتضرر، وأنه هو السبب لوقوع المغرور في الضرر لكونه أقوى من المباشر فعليه وإن كان خرج القاعدة عن كونها قاعدة مستقلة وتدخل في قاعدة «من أتلف» تشمل الغار الجاهل بوقوع الضرر على المغرور إذا كان هو عند العرف أقوى من المباشر مثل الطبيب والمريض .
وإن كان الدليل على القاعدة سيرة العقلاء واستقرارها على تضمين الغار إذا تضرر بفعله المغرور الجاهل فالظاهر أنه لا فرق في ذلك عندهم بين الغار العالم والجاهل، ولذا يرجعون إلى من بايع مالا اشتراه من غير مالكه وإن كان جاهلاً بالحال، وعلى هذا فالأقوى بحسب النظر ضمان الغار سواء كان عالماً بالضرر أو جاهلاً به إذا كان المغرور جاهلاً .
وأما الكلام في المقام وأنه هل يكون رجوع الباذل عن إذنه تحت هذه القاعدة ويكون هو كالغار أم لا ؟ من جهة أن ترغيب الغير إلى فعل يترتب عليه الغرر يكون تغريراً إذا كان الفعل ملازماً لذلك ضررياً على الفاعل فيرجع المغرور إلى الغارإن كان جاهلاً بالحال .
وأما الترغيب والإذن إلى فعل لايلازمه يترتب الضرر عليه، بل يكون بحيث قد يترتب عليه الضرر وقد لايترتب ليس من التغرير إليه بشيء، مضافاً إلى أن الإذن في التصرف وإباحته ليس الترغيب إليه .
والحاصل: أنّ الباذل لايضمن ما يتضرر المبذول له من رجوعه إلى بذله، فهل ترى أنه إذا بذل له الراحلة فتلفت بعد الإحرام ووقع هو فيه في مؤونة العود أو إتمام الحج يجب على الباذل تدارك ضرره ؟ فما الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا احتاج هو بنفسه إلى بذله ورجع عن إذنه ؟ وبالجملة: فلم يقع هنا تدليس وإخفاء أمر عليه أو السكوت عنه . هذا، ولكن ادعى بعض الأعاظم استقرار سيرة العقلاء على الرجوع إلى الباذل وضمانه ضرر المبذول له .
هذا، ويمكن أن يتمسك لإثبات الضمان على الباذل بقاعدة التسبيب وكون السبب أقوى من المباشر; وذلك لأن الذي يعرض الحج على المعروض عليه يوقعه في محذور وجوب الحج وينجز عليه وجوبه فلابد له إلا الحج، فلو رجع عما بذله يكون هوالسبب لما يرد عليه من الضرر، ولاريب أنه في الفرض أقوى من المباشر لأنه لابدله إلا الأخذ بإذن الباذل وإباحته، وليس له مع الحكم الشرعي اختيار في ترك الأخذ بالبذل، فلو وقع في خسارة وضرر يكون الضامن له الباذل فهو أوقعه في الضرر ويجب عليه تداركه ، وعلى هذا كله فالأقوى وجوب تدارك ضرر المبذول له على الباذل الراجع عن إذنه . والله تعالى شأنه هو العالم .
إذا كان البذل عن غير واحد
مسألة 65 ـ لاريب في أنه لافرق في وجوب الحج بالبذل وحصول الإستطاعة به بين ما إذا كان الباذل واحداً أو أكثر ولابين كون البذل ملكاً لواحد أو أكثر إذا كان جميع المالكين باذلين له لصدق العرض وحصول الاستطاعة
وأما إذا بذل الحج لأكثر، من واحد فتارةً يبذله لأحد اثنين أو أكثر كما عنون به المسألة في العروة ، وتارةً يعرض لاثنين بإباحة التصرف لهما في ماله أو سيارته. فالبحث يقع على صورتين :
- أما الصورة الاُولى وهي أن يبذل حجة واحدة لأحد اثنين أو ثلاثة . . . فقد اختلفت فيها الأنظار : فاختار السيد في العروة وبعض المحشِّين ـ عليهم الرحمة ـ وجوب الحج كفايةً، فلو تركه الجميع استقر عليهم . واختار بعضهم لغوية هذا البذل. كما منع الوجوب سيدنا الاُستاذ الأعظم البروجردي (قدس سره). وتأمل البعض في الوجوب . وأفتى سيدنا الاُستاذ الفقيه الكُلپايكاني (رحمه الله) بوجوب الحج على كل واحد منهم مع القطع بإعراض غيره من المعروض عليهم وعدم مزاحمتهم له لكنه حينئذ يتعين عليه .
وقال الفقيه الكبير السيد الحكيم أعلى الله مقامه : ( المستفاد من النصوص أن الاستطاعة نوعان ملكية وبذلية وكلتاهما في المقام غيرحاصلة الى آخره ) .
والظاهر أن من اختار الوجوب عليهم كفايةً أراد من الوجوب الكفائي هنا، ووجهه: أن الاستطاعة تتحصل لكل واحد منهم بترك الآخرين، فإن تركه الجميع استقر على الجميع الحج، وإن أتى به واحد منهم يسقط عن الجميع . وقريب من ذلك أو عينه ما اختاره السيد الكُلپايكاني (قدس سره) .
وعلى هذا فيمكن أن يقال : إنه وإن لم يصدق على مثل هذا البذل العرض المذكور في الأخبار إلا أنه في حصول الاستطاعة به لافرق بينه وبين عرض الحج لشخص معين إذا لم يأخذ به واحد منهم .
وأما وجه قول من منع الوجوب: أن مافي الأخبار وبه يتحقق الاستطاعة والعرض هو عرض الحج والبذل لشخص معين، وأما البذل لأحد اثنين لايكون منه ولاتحصل به الاستطاعة ، وحصول الاستطاعة لكل واحد منهم إذا تركه الآخرون أمر آخر ليس من عرض الحج الذي يجب بمجرده الحج، إذلم يمكن لكل واحد منهما الحج به، والواحد المردد بينهما لاوجود له في الخارج، وكما لايحصل العرض بذلك لاتحصل الاستطاعة به، فعلى هذا منعهم عن الوجوب في محله لاشتراط الوجوب بالاستطاعة المالية أو البذلية، وكلتاهما ـ كما أفاد في المستمسك ـ غير حاصلة، فلايقاس المقام بالتيمم فإن القدرة على الماء حصلت لكل واحد منهم إذا لم يزاحمه الآخرون، نعم إن تسابقوا وسبق واحد منهم بطل تيمّمه دون غيره .
لكن فيه : أنّ هذا صحيح لو لوحظت المسألة على النحو الذي عنونت في العروة، وأما إن قلنا بحصول الاستطاعة للجميع إذا كان كلهم تاركين للأخذ بالبذل فقياسها بباب التيمم في محله نعم، فرق بين ما نحن فيه وبين باب التيمم بأنّ في المقام لايجب التسابق والسبق إلى أخذ البذل بالتسابق والغلبة على الآخرين; لأن الاستطاعة مشروطة بترك الآخرين ، وأما في باب التيمم يجب السبق إلى أخذ الماء إن كان متمكناً منه بالغلبة والتسابق .
هذا، وقد صار بعض الأعاظم (قدس سره) بصدد تصحيح كفاية هذا البذل لوجوب الحج فقال : « إن البذل للجامع بما هو جامع وإن كان لامعنى له لعدم إمكان تصرف الجامع في المال وإنما التصرف يتحقق بالنسبة إلى الشخص إلا أن البذل في المقام يرجع في الحقيقة إلى البذل إلى كل شخص منهما أومنهم غاية الأمر مشروط بعدم أخذ الآخر لعدم الترجيح في الفردين المتساويين » إلى آخر كلامه .
وفيه : أنّا لم نفهم معنىً محصلاً لهذا البذل والإذن في التصرف والعرض بأن يقول : مباح لك التصرف فيه، و إن لم تتصرف فيه فصاحبك مباح له التصرف فيه أيضاً.
وبعبارة اُخرى : يكون جواز تصرف أحدهما فيه مشروطاً بعدم التصرف الجائز من الآخر فيه، وجواز تصرف الآخر مشروط بعدم التصرف الجائز من الآخر، وهذا شبيه بالدور إن لم يكن عينه، فتأمَّل .
وعلى هذا فالأقوى هو مااختاره السيد من الوجوب الكفائي بالمعنى الذي فصّلناه، لامن جهة صدق العرض عليه، بل من جهة حصول الاستطاعة كمامَّر .
وأما الصورة الثانية فإباحة التصرف لكل واحد منهما أو منهم وإن كان يتحقّق بها بذل المال للحج وإباحة التصرف للجميع إلا أنها أيضاً ليست من العرض الذي يجب الحج به، لأن تصرف كل واحد من الأفراد منوط بترك الآخرين .
نعم، تتحقق الاستطاعة لكل واحد منهم إذا تركه الآخرون فإن أتى به واحد منهم يسقط عن الآخرين، وإلا فيستقر على الجميع .
إذا بذل لأحد اثنين أو أكثر
مسألة 66 ـ قال في العروة : ( إذا بذل لأحد اثنين أو ثلاثة فالظاهر الوجوب عليهم كفاية فلو ترك الجميع استقر عليهم الحج فيجب على الكل لصدق الإستطاعة بالنسبة إلى الكل نظير ما إذا وجد المتيممون ماءً يكفي لواحد منهم فإن تيمم الجميع يبطل ) .
أقول : يمكن تحرير المسألة بأن نقول : إن كان المراد من البذل لأحد اثنين أن يبيح لهما أو يأذن لهما التصرف في البذل وإنما عبر بذلك لعدم كفاية البذل إلا لحج واحد فهذا معقول يتحقق لهما ذلك، إلا أن حصول الاستطاعة يتحقق لمن يتمكن من التصرف فيه قبل الآخر، فإن هو ترك التصرف حتى أخذ به الآخر يستقربه الحج ويجزي عن الآخر الذي حج به ، وإن كان نسبتهما إليه على السواء .
فيمكن أن يقال : إن حصول الاستطاعة لكلٍّ منهما مشروط بترك الآخر، فإن تركه أحدهما للآخر يحصل له الاستطاعة دونه ، وإن تركه كل واحد منهما فالحج يستقر على كليهما لحصول الاستطاعة لكل واحد منهما ، وعدم إمكان إتيان كل واحد منهما بالحج بذلك البذل لاينافي حصولالاستطاعة لهما في صورة ترك كلٍّ منهما له.
نعم، لا يتم البذل إذا كان بالهبة لهما للحج وإن قلنا بوجوب قبولها وتحقق الاستطاعة بها لرجوعه هنا إلى الهبة لغير المعيَّن; لأن الهبة لهما لاتكفىِ لإحجاج كلٍّ منهما، وغير المعيَّن منهما لاوجود له في الخارج، وعلى هذا يمكن أن يحمل فتوى من أفتى بوجوب الحج عليهما كفايةً على هذا المعنى .
وإن كان مراده البذل لأحد منهما أو منهم مبهماً ولاعلى المتعين فالظاهر أنه لايجب به على واحد منهما الحج; لعدم حصول الاستطاعة له بذلك، فلا يترتب عليه أثر، سواء كان المراد من البذل الإذن في التصرف والإباحة أو الهبة، فكما أنه لو وهب أحداً من اثنين مالاً ليحج به لايتحقق الهبة بذلك وإن قبلاها جميعاً; للزوم كون المتهب معيَّناً في الخارج موجوداً في تحقق الهبة، والواحد من الاثنين لاتعين له ولا وجود له في الخارج، كذلك لايتحقق البذل بالإذن وإباحة التصرف لواحد من الاثنين مبهماً .
ولعلّه إلى هذا نظر من ذهب إلى لغوية هذا البذل وعدم ترتب أثر عليه ومنع وجوب الحج به، ومن قال : إنه ليس من الاستطاعة المالية أو البذلية .
وأما تنظير المسألة بباب التيمم فيتم على تحرير المسألة بالصورة الاُولى. نعم، فرق بين مانحن فيه وبين باب التيمم، فإن في المقام لايجب التسابق والسبق إلى أخذ البذل بالغلبة على الآخر; لأن الاستطاعة مشروطة بترك الآخر، وأما في باب التيمم يجب السبق إلى أخذ الماء إن كان متمكناً منه بالتسابق .
وأما على تحرير المسألة بالصورة الثانية فلا وجه لتنظيرها بمسألة التيمم، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم (قدس سره) أفاد في المقام : ( أن البذل للجامع بما هو جامع وإن كان لامعنى له لعدم إمكان تصرف الجامع في المال ولكنّ البذل في المقام في الحقيقة يرجع إلى البذل إلى كل شخص منهم، غاية الأمر مشروط بعدم أخذ الآخر، فمعنى البذل إليهم تخييراً أن من أخذ المال منكم يجب عليه الحج ولايجب على الآخر، وأما إذا لم يأخذه واحد منهم فالشرط حاصل في كل منهم فيستقر عليهم الحج ) .
وفيه: أنّا لم نتحصّل معنىً لتعليق البذل لكل واحد منهم بعدم أخذ الآخرين المال المبذول; لأن ترك الآخرين أخذ المال المبذول لهم متوقف على صيرورته مبذولاً للجميع، لالكونه لكل واحد منهم مشروطاً بترك الآخرين .
وأيضاً يمكن أن يقال : إن هذا من أخذ ما هو المتأخر عن الشيء في الشيء; لأن ترك البذل من الآخر رتبة متأخرة عن البذل فكيف يجعل تركه شرطاً لتحقق البذل الذي حصل للجميع ببذل واحد ؟
لا يقال : إنّ البذل لكل واحد منهم ليس مشروطاً بأخذه أو تركه به حتى يستلزم ما ذكر .
فإنه يقال : نعم، ولكنّ البذل للجميع كالبذل لواحد وإنشاء واحد بلفظ واحد، وفي مثله وإن قلنا بانحلاله له بالبذل لكل واحد منهم إلاّ أنّ جعله مشروطاً لكل واحد منهم بترك الآخرين الأخذبه لايستقيم في كلام واحد وإنشاء واحد، فتأمل، والأمر بعد ما حققناه في تحرير المسألة سهل لاغبار عليه . والله هو العالم .
فروع :
- الأول : لو كان المكلف مالكاً لما يفي بالحج الاضطراري ولا يفي بالاختياري، مثل أن كان مالكاً لنفقة الذهاب والإياب ونفقته ونفقة عائلته والرجوع إلى الكفاية ولكن لا يفي ما عنده بثمن الهدي الذي بدله لمن لا يجد الصيام فهل تحصل له الاستطاعة بذلك ويجب عليه الحج ويجزيه عن حجة الإسلام، أم لا ؟
مقتضى الأصل في صورة الشك عدم الوجوب، كما أنه لو حج وحصل له الاستطاعة للحج الاختياري الأصل أيضاً عدم الوجوب . لكن يمكن أن يقال : إنه كما يكون واجد ثمن الهدي مستطيعاً للحج يكون فاقده الواجد لسائر النفقات أيضاً مستطيعاً له . كما أن من لم يكن قادراً على كل ماله بدل في الحج يكون مستطيعاً له ويجب عليه حجة الإسلام .
وعلى هذا يكفي لبذل الحج بذل ما يفي بنفقاته غير ثمن الهدي فيتحقق البذل بدونه ، ولو بذله يجوز له الرجوع إليه ولا يضمنه .
ويمكن أن يقال : إنّ الاستطاعة المالية للحج المشروط بها وجوبه هي الاستطاعة للحج الاختياري، وهي لاتتحصل إلا بكونه واجداً لجميع نفقاته التي منها ثمن الهدي، ولايقاس ذلك بغيره مما له البدل فلاتتحقق الاستطاعة البذلية إذا لم يكن ثمن الهدي مبذولا به .
فإن قلت : فعلى هذا يسقط عن الاستطاعة إن فقد ثمن الهدي في أثناء الحج فلا يكون حجه مجزياً عن حجة الإسلام .
قلت : نعم ، هذا على طبق القاعدة، ولكن يدل على إجزائه عن حجة الإسلام ووقوعه كذلك قوله تعالى : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم )فإنه يدل على انتقال الوظيفة إلى الصيام إذا لم يجد الهدي في الأثناء .
ولعلّ هذا هو الأظهر، ويدل عليه بعض ما في الروايات من قولهم (عليهم السلام) : « يجد ما يحج به » من التعبيرات الدالة على اعتبار مايفي بجميع مصارف الحج التي منها ثمن الهدي في حصول الاستطاعة .
- الثاني : لو بذل لمن عنده بعض نفقات الحج ما يتم به استطاعته، كما لو بذل لمن كان واجداً لثمن الهدي سائر نفقاته أو بالعكس يجب عليه الحج، فإنه لافرق في وجوب الحج بالاستطاعة المالية والبذلية بين حصولهابهما مستقلة أو ملفقة منهما .
- الثالث : لو وجب البذل عليه بالنذر وشبهه يجب عليه بذل ثمن الهدي أيضاً، سواء كان المبذول له واجداً له أم لا .
- الرابع : يجوز للباذل الرجوع إلى ثمن الهدي كما مر جوازه في سائر نفقات الحج، وهل يضمن به للمبذول له شيئاً ويشتغل ذمته له؟ الظاهر عدم كون شيء عليه له; لأن المبذول له بعد رجوع الباذل إلى ثمن الهدي ينتقل وظيفته إلى الصيام فلا يتضرر بذلك حتى يكون عليه تداركه .
- الخامس : لو أتى المبذول له عمداً بما هو المحظور على المحرم مما يوجب الكفارة فلا شك في أنها ليست على الباذل; لعدم استلزام بذله بذل ذلك .
وأما لو صدر منه بعض المحظورات خطأً فإن كان مما ليس في ارتكابه خطأً كفارة فلاكلام فيه كأكثر المحظورات .
وإن كان مما لافرق في تعلق الكفارة به بين ارتكابه عمداً أو خطأً مثل الصيد فيمكن أن يقال : إنه على الباذل; لأنه هوالذي أوقعه في هذا الخطأ، أو كفارته ببذله الحج له وإيجابه عليه وسبب اختياره في تركه، ولذا يضمنه ما وقع فيه من الضرر، سواء رجع عن إذنه في الأثناء أم لم يرجع، ومن جملة ذلك كفارة الخطأ، فوقوعه في ارتكاب الصيد خطأً كان بتسبيب الباذل ومستنداً إليه، وهو أقوى من المباشر في ذلك، فيضمن ما تعلق به من الكفارة لو لم نقل : إنّها من أول الأمر تتعلق بالباذل .
ويمكن أن يقال : إنها ليست على الباذل كصورة العمد، وليس ضمانه من البذل بشيء، والباذل إنما يبذل نفقات الحج وأداء الكفارة، بل ترك ما يوجبها ليست من أجزاء الحج ولايتوقف وقوع الحج بأدائها ولاحصول الاستطاعة بتمكنه له، فهي على المبذول له إن كان متمكناً من أدائها يؤديها، وإلاّ فليس عليه شيء .
تذنيبان
إيجا النفس للخدمة في طريق الحج
إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحجّ على مورثهم
إذا بلغ الصبي بعد الإحرام وصار مستطيعاً