تذنيبان
الأول : لا يخفى عليك أن صدر صحيحة معاوية بن عمار لا يوافق واحداً من آراء الفقهاء في مسألة ما إذا كان عنده ما يكفيه للحج وكان عليه دين . فإنهم بين من يقول بأن الدين مطلقاً وبجميع أقسامه مانع عن وجوب الحج ، وهذه الصحيحة تدل على عدم منعه عنه ، وبين من يقول : إن المانع من وجوب الحج هو الدين الحال المطالب به دون غيره ، وهذا أيضاً مخالف لإطلاق الصحيحة . وبين من يقول بالتخيير في بعض الصور وتقديم الحج في بعضها الآخر لوقوع التزاحم بين الأمرين إذا كان الدين حالا مطالباً به ، أما إذا كان مؤجلا فلا تزاحم في البين فيقدم الحج ، وهذا أيضاً لا يستفاد من الصحيحة . وبين من يقول بتعين سقوط الحج وتقديم أداء الدين للتزاحم وهذا أيضاً كسابقه . وبين من يقول : إن الحج يسقط إذا كان أداء الدين واجباً عليه بالفعل أو كان مؤجلا لا يثق بالأداء في المستقبل .
وعلى جميع الأقوال التي لعله يكون أكثر مما ذكرناه لا يستقيم الإستدلال لواحد منها بالصحيحة كما استدل به السيد الخوئي (قدس سره) فإن الصحيحة إنما يكون في مقام بيان أن الدين مطلقاً ليس مانعاً من حصول الاستطاعة ، لأنها تحصل بالتمكن من المشي ، فليس حصول الاستطاعة متوقفاً على وجود الراحلة حتى يقال بعدم حصولها مع الدين، أو يقال بتزاحم الأمرين كما اختاره (رحمه الله) .
إذاً فوجه الارتباط بين الجواب وهذا التعليل هو ما يستفاد من ظاهر الحديث ، وهو بيان العلة لعدم منع ذلك من الحج وهي حصول الاستطاعة بالمشي دون المال مطلقاً، فإنها تحصل لمن لا يجد ما يحج به بالتمكن من المشي .
بل يمكن أن يقال : إن إطلاق السؤال والجواب مشعر بعدم دخل الراحلة أو ما يجدها به في الاستطاعة ، وإنها تحصل منحصرةً بالتمكن من المشي ، وذلك لأن الإمام (عليه السلام) لم يُجب عما إذا كان عليه دين ولم يقدر على المشي ، فإن التعليل يشمل هذه الصورة لو كان حصول الاستطاعة منحصراً بالقدرة على المشي .
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن مورد سؤال السائل هو خصوص صورة القدرة على المشي .
الثاني : قد ظهر مما بيناه عدم كفاية الأخبار المستدل بها لإثبات حصول الاستطاعة بالمشي ، لعدم دلالة لها يصح الاحتجاج بها لإثبات الحكم الشرعي ، ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بتعارضهما فيمكن الجمع بينهما بالإطلاق والتقييد ، فإن مقتضى الصناعة تقييد إطلاق مفهوم كلٍّ من الطائفتين بمنطوق الاُخرى ، فإنه لا تعارض بين منطوقيهما، فمنطوق الطائفة الاُولى حصول الاستطاعة لمن كان له زاد وراحلة ، ومنطوق الثانية حصولها لمن يقدر على المشي ، فمقتضاها حصول الاستطاعة بكلٍّ منهما، إلا أن مفهوم مثل قوله (عليه السلام) : « من كان صحيحاً في بدنه مخلّى سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج » أن من لم يكن له ذلك فهو غير مستطيع، سواء كان قادراً على المشي أو عاجزاً عنه ، فيقيد ذلك بمنطوق مثل قوله (عليه السلام) : « إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين » . كما يقيد إطلاق مفهوم هذه الجملة ـ وهو عدم وجوبها على من لا يطيق المشي سواء كان له زاد وراحلة أم كان فاقداً لها ـ بمنطوق ما دل على وجوب حجة الإسلام على من كان له زاد وراحلة ، فيتحصل من تقييد المفهومين بالمنطوقين وجوب الحج على كل واجد للزاد والراحلة وإن لم يقدر على المشي ، وكل قادر على المشي وإن لم يكن واجداً للراحلة ، إذاً فلا يجب الحج على من كان عاجزاً عن المشي وفاقداً للراحلة ، دون غيره .
وهذا مقتضى صناعة حمل المطلق على المقيد ، وبعده لا يبقى مجال لحمل هذه الأخبار على التقية ، لأنه إنما يصح إذا لم يمكن الجمع بين الدليلين بالجمع العرفي ، فلابد إلا العمل بهذا الجمع أو تركه لإعراض المشهور عنها . وهذا المفيد في المقنعة، والسيد في جمل العلم والعمل، وأبو الصلاح في الكافي، وابن زهرة في الغنية، والشيخ في النهاية والجمل والعقود والمبسوط والخلاف والاقتصاد، وابن حمزة في الوسيلة، والصهرشتي في الإصباح، وابن إدريس في السرائر ، وأبو الحسن علي بن الفضل في إشارة السبق ، والهذلي في الجامع ، وابن فهد، والمحقق،
والعّلامة ، والشهيد وغيرهم كلهم قد صّرحوا باشتراط الزاد والراحلة في الاستطاعة ، بل يمكن دعوى استقرار السيرة على ذلك ، وعلى عدم وجوب الحج بمجرد القدرة على المشي .
إذاً فالاعتماد على هذه الأخبار الدالة على كفاية القدرة على المشي، وتقييد الأخبار الدالة على اعتبار الراحلة بها، مع إعراض هؤلاء الأعاظم ( رضوان الله تعالى عليهم) عنها وعدم معلومية عمل أحد بها مع وضوح إمكان الجمع بين الطائفتين بالإطلاق والتقييد في غاية الإشكال ، ولا يوافق سيرة العرف والعقلاء ، فالعمل على المختارالمشهور وهواشتراط وجوب حجة الإسلام بالراحلة. والله تعالى هو العالم.
هل تعتبر الراحلة في الاستطاعة للقريب أيضاً ؟
مسألة 16 ـ هل اعتبار الزاد والراحلة في الاستطاعة في حق من يفتقر إليهما لبعد المسافة دون القريب الذي يمكنه المشي بدون المشقة أو من غير مشقة يعتد بها، أو أن اعبتارهما مطلق في حق القريب والبعيد وجهان.
حكى الأول في الجواهر عن غير واحد، بل قال : ( لا أجد فيه خلافاً، بل في المدارك نسبه إلى الأصحاب; مشعراً بدعوى الإجماع عليه ـ إلى أن قال : ـ لكن في كشف اللثام: يقوى عندي اعتبارها أيضاً للمكي للمضي إلى عرفات وأدنى الحِلَّ والعود ) .
والذي يظهر لنا بعد الفحص في كلمات الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ أن ظاهرها بيان الاستطاعة للنائي دون المكي والقريب .
قال المفيد في المقنعة : ( والاستطاعة عند آل محمد (صلى الله عليه وآله) . . . وحصول ما يلجأ إليه في سد الخلة من صناعة يعود إليها في اكتسابه أو ما ينوب عنها من متاع أو عقار أو مال ، ثم وجود الراحلة بعد ذلك والزاد ) .
ويستفاد ذلك من السيد في جمل العلم والعمل وفي الناصريات، وقال أبوالصلاح في الكافي : ( والعود إلى كفاية من صناعة أو تجارة أو غير ذلك ) .
وقال الشيخ في النهاية : ( والرجوع إلى كفاية)، وفي الجمل والعقود : (.. والرجوع إلى كفاية إما من المال أو الصناعة أو الحرفة ) ، ونحوه قال في الاقتصاد وفي المبسوط .
وقال أبو المكارم ابن زهرة في الغنية : ( والاستطاعة يكون . . . ووجود الزاد والراحلة والكفاية له ولمن يعول ، والعود إلى كفاية من صناعة أو غيرها بدليل الإجماع ) .
وقال نظام الدين أبو الحسن سلمان بن الحسن الصهرشتي في إصباح الشيعة : ( والعود إلى كفاية من صناعة أو غيرها) .
هذا وقد صرح بذلك غيرهم مثل الحلي في السرائر (6) وأبي الحسن علي بن أبي الفضل الحلبي في إشارة السبق ، والمحقق في الشرايع والشهيد في الدروس .
والذي ينبغي أن يقال: إنّ دلالة الآية بالمنطوق على وجوب الحج على مثل المكي حتى بعموم قوله تعالى : ( الناس ) قابلة للمنع ، لإمكان دعوى صحة استظهار أن الآية تكون في مقام إيجاب الحج على النائين ومن بعد منزله عن مكة ، وذلك لمكان قوله تعالى : ( من استطاع إليه سبيلا ) ولا يقال ذلك للمكي ومن هو بمنزلته ممن هو حاضر عند البيت .
والدليل على ذلك أيضاً تفسير الاستطاعة بتخلية السرب وصحة البدن ووجود الزاد والراحلة ، فإن هذا مناسب لاستطاعة النائي، وإلا فلا يسأل المكي الذي هو غالباً في الذهاب والإياب إلى عرفات بدون المشقة عن معنى الاستطاعة ، فالمراد من الناس: الذين يصح الإخبار عنهم بحج البيت وقصد الكعبة، وهم غير المكيين ومن هو بمنزلتهم .
إن قلت : إذاً فما الدليل على وجوب الحج على القريب والمكي ؟
قلت : الأولوية القطعية وإجماع المسلمين ، وعلى هذا فالأقوى وجوب الحج على المكي والقريب من مكة الذي لا يشق عليه المشي وإن لم تكن له الراحلة. هذا، ولا يخفى أنه لو قيل بدلالة الآية على وجوب الحج على القريب والبعيد فلابد من القول بإطلاق اعتبار وجود الزاد والراحلة وشموله للقريب والمكي كالبعيد . والله هو العالم .
تحقق الاستطاعة بالزاد والراحلة عيناً وقيمةً
مسألة 17 ـ الأقوى أنه يكفي في حصول الاستطاعة وجود ما يتمكن به من تحصيل الزاد والراحلة ، فلا يلزم أن يكونا حاصلين عنده بعينهما، بل يكفي أن يكون عنده ما يتمكن من تحصيلهما ولو في أثناء السفر وقطع المسافة .
وذلك أولا: للروايات الدالة على عدم الفرق بين وجودهما عيناً ووجود ما يتمكن به من تحصيلهما . فقد روى الكليني (قدس سره)، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي الصباح الكناني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « قلت له : أرأيت الرجل التاجرذي المال حين يسوِّف الحج كل عام وليس يشغله عنه إلا التجارة أو الدَين ؟ فقال : لا عذر له يسوف الحج، إن مات وقد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام » .
ورواه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) مثله .
وعن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن الحسن الميثمي عن أبان بن عثمان عن أبي بصير قال : « سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عزوجل : (ونحشره يوم القيامة أعمى . ..) الحديث .
وعن الصدوق بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: « سألت أبا الحسن (عليه السلام)عن قول الله عزوجل : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)، فقال : نزلت فيمن سوف الحج حجة الإسلام وعنده ما يحج به . . . » الحديث .
وفي تفسير العياشي عن كليب عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سأله أبو بصير وأنا أسمع فقال له : رجل له ماية ألف فقال : العام أحج ، العام أحج ، فأدركه الموت ولم يحج حج الإسلام ، فقال (عليه السلام) : يا أبا بصير، أما سمعت قول الله : (ومن كان في هذه أعمى ) الآية ؟ أعمى عن فريضة من فرائض الله » .
ومثل هذه الأحاديث غيرها ، مثل صحيحتي معاوية بن عمار وصحيحة الحلبي المتقدمتين وما أخرجه في الوسائل في الباب الثامن .
و لا ريب في دلالة هذه الروايات على أن الاستطاعة أعم من وجود عين الزاد والراحلة أو ما به يتمكن من تحصيلهما ، كما لا فرق في ذلك بين إمكان تحصيلهما من ابتداء إنشاء السفر أو في أثنائه .
وثانياً : للقطع بكفاية وجود ما به يتمكن من تحصيلهما وعدم الفرق بينه وبين وجود عينهما عنده ، إذ لا يمكن أن يقال بوجوبه على من لم يكن عنده إلا الراحلة والزاد المتعارف ، وسقوطه عن الذي هو صاحب الثروة العظيمة والمكنة الكبيرة وليس عنده الراحلة ، فهذا مما لا إشكال فيه ، ولذا قال بعضهم : ينبغي عدّه من الضروريات .
المراد بالزاد
مسألة 18 ـ المراد بالزاد مطلق ما يحتاج إليه الشخص من المأكول والمشروب والملبوس وما هو محتاج إليه في السفر وما يتوقف عليه حمل ما يحتاج إليه .
كل ذلك بحسب حاله وزمانه من القوة والضعف والحر والبرد وغيره ، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص في هذه الجهات، ويكفي وجدانه في المنازل التي ينزل فيها ، ولا يجب أن يكون واجداً له في بلده ، وبالعكس يكفي في صدق وجدان الزاد وجدانه في بلده وإن كان فاقداً له في المنازل التي يحتاج إليه فيها ، ولا فرق بين الطعام والماء في صدق الوجدان ووجوب حملهما إذا فقدا في أثناء الطريق وكان واجداً لهما في بلده .
والفرق بين الطعام والماء بعدم صدق الوجدان وسقوط الوجوب إذا توقف المسير على حمل الماء ، لأن الزاد المذكور في النصوص معناه ما يتخذ من الطعام للسفر ، وفي لسان العرب : ( طعام السفر والحضر ) وفي المفردات للراغب : (المدخر الزايد على ما يحتاج إليه في الوقت ) لاوجه يعتد به له ، فإنه لاريب أن المراد من الزاد في المقام ليس خصوص الطعام ، بل يشمل كل ما يلزم أن يدخره المسافر لسفره مما يحتاج إليه طعاماً، كان أو لباساً أو شراباً .
وخصوصية الطعام ـ لأنه في الأكثر لا يوجد في الطريق، دون الماء فإنه كثيراً ما يوجد في الطريق ـ لا توجب الفرق بين الطعام والشراب ، وصدق وجدانه للطعام إذا كان واجداً له في بلده وعدم صدقه إذا لم يكن واجداً للشراب في المنازل وواجداً له في بلده ، فالزاد ولو كان معناه الطعام فقد اُريد منه ما هو أعم من كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره .
وهكذا لايصح الفرق بين الطعام والماء في وجوب حملهما بعدم جريان العادة على حمل الماء لنفسه ولراحلته فلا يكون واجداً له إذا لم يكن واجداً في المنازل دون الطعام ، أو بوجود المشقة العظيمة في ذلك ، فإن عدم جريان العادة على حمل الماء كان لوجوده في المنازل على حسب العادة، ومع فقدانه فيحمله المسافر كما يحمل طعامه وسائر ما يحتاج إليه في السفر ، فلا يكون بذلك هو فاقد الماء .
وأما وجود المشقة العظيمة فهو غير مطرّد بالنسبة إلى جميع الأشخاص ، بل يمكن منعها لإمكان حمل الماء على الروايا ، وفي عصرنا على السيارات. نعم، يجب عليه ذلك إذا كان موسراً وكان عنده مال يتمكن به من حمل الماء ، وإلا لا يجب عليه لفقد شرط الوجوب أي الاستطاعة ، وكيف كان فالأمر واضح والفرق ممنوع .
ثم إنه قال في المدارك : ( المعتبر في القوت والمشروب تمكنه من تحصيلهما إما بالشراء في المنازل أو بالقدرة على حملهما من بلده أو غيره ) .
وقال العلامة في التذكرة : ( وإن كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله ، وإن لم يجد كذلك لزمه حمله ، وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنزل التي ينزلها على حسب العادة فلا كلام ، وإن لم يوجد لم يلزمه حمله ، ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها; لما فيه من عظم المشقة وعدم جريان العادة به ، ولا يتمكن من حمل الماء لدوابّه في جميع الطريق ، والطعام بخلاف ذلك ) .
وقال في المنتهى : ( الزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة ، فإن كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله ، وإن لم يجده كذلك لزمه حمله ، وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة لم يجب حملهما، وإلاّ وجب مع المكنة ، ومع عدمها يسقط الفرض ) .
وقال في موضع آخر : ( وأما الماء فإن كان موجوداً في المواضع التي جرت العادة بكونه فيها كعبد وعلبية وغيرهما وجب الحج مع باقي الشرائط ، وإن كان لايوجد في مواضعه لم يجب الحج وإن وجد في البلدان التي يوجد فيها الزاد ، والفرق بينهما قلة الحاجة في الزاد وكثرتها في الماء ، وحصول المشقة بحمل الماء دون الزاد ) .
وظاهر هذه الكلمات أن وجوب الحمل يدور مدار عدم المشقة التي كانت بالنسبة إلى الماء وعلف البهائم في تلك الأزمنة ، ولذا أفتى بعدم الوجوب فيهما، بخلاف الطعام .
وقال الشيخ (قدس سره) في المبسوط : ( أما الزاد إن وجده في أقرب البلدان إلى البر فهو واجد ، وكذلك إن لم يجده إلا في بلده فيجب عليه حمله معه ما يكفيه لطول طريقه إذا كان معه ما يحمل عليه ، وأما الماء فإن كان يجده في كل منزل أو في كل منزلين فهو واجد ، وإن لم يجده إلا في أقرب البلدان إلى البر أو في بلده فهو غير واجد ، والمعتبر في جميع ذلك العادة ، فما جرت العادة بحمل مثله وجب حمله ، وما لم تجرِ سقط وجوب حمله، وأما علف البهائم ومشروبها فهو كما للرجل سواء إلى أن قال ـ : هذا كله إذا كانت المسافة بعيدة ) .
وظاهر كلامه أن وجوب الحمل يدور مدار جريان العادة بالحمل ، فلا يكون هو مستطيعاً بحسب العادة إذا لم تجر العادة بحمله.
ولكن الظاهر أنه إذا كان عنده ما يحمل عليه فعلا أو قوةً فهو مستطيع يجب عليه حمله ، كما في مثل زماننا ، فإنه يمكن حمل الماء والطعام والزيت وغيرها بسهولة ومن غير مشقّة .
فتحصل من ذلك أنه لو أمكن له حمل كل ذلك بالسيارة أو الطائرة يجب عليه، وعدم وجدانه في الطريق وإن كان على خلاف العادة لا يوجب سقوطه من الاستطاعة . والله العالم .
المراد بالراحلة
مسألة 19 ـ المراد بالراحلة: راحلة كل أحد بحسب حاله من القوة والضعف .
وفي مثل عصرنا مطلق ما يركبه عليه المسافرون من القطار والسيارة الطائرة و السفينة. ثم إذا لم يكن قادراً على ركوب بعضها يشترط في استطاعته حصول غيره ، وهل يختلف الحكم فيها من حيث الشرف والضعة ؟ فإذا كان أحد من حيث الشرف والعنوان أن يكون سفره بالطيارة أو الطائرة الكذائية ولا يجدها إما لعدم تمكنه المالي أو لعدم وجود ما يناسبه من الطائرة فهل يسقط عنه الحج لعدم قدرته على ما يحج به الذي هو شرط للاستطاعة ، أو يجب عليه حجة الإسلام لحصول الراحلة التي هي شرط في الاستطاعة ؟
يمكن أن يقال : إنه يستفاد من الأخبار تفسير الاستطاعة بالسعة المالية واليسار التي تختلف بحسب شؤون الأشخاص ، مثل ما رواه في المحاسن: عن أبيه ، عن عباس بن عامر عن محمد بن يحيى الخثعمي عن عبدالرحيم القصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سأله حفص الأعور وأنا أسمع عن قول
الله عزوجل : (ولله على الناس حج البيت... ) قال : ذلك القوة من المال واليسار ، قال : فإن كانوا موسرين فهم ممن يستطيع ؟ قال (عليه السلام) : نعم » .
وخبر أبي بصير المتقدم ذكره ، قال : « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عزوجل:( ونحشره يوم القيامة أعمى)»
وهذه الأخبار تدل على وجوب الحج على من له المال واليسار ، فمن ليس له يسارٌ يتمكن به من راحلة يتعارف لمثله ركوبها ليس موسراً فهو غير مستطيع .
بل يمكن أن يقال بدلالة ما دل بالإطلاق أو العموم على كفاية حصول الاستطاعة بمطلق الراحلة على حصول الراحلة المناسبة له بحسب حاله ، فإن هذا هو الذي يستفاد منه بحسب مناسبة الحكم والموضوع ، وهذا ليس تمسكاً بالحرج وأن وجوب ركوب الراحلة التي لا تليق به يكون حرجياً فهو منفي بقاعدة نفي الحرج ، بل هذا مقتضى دلالة الدليل الذي دل على تفسير الاستطاعة بالمال واليسار بل والراحلة .
وأما ما أفاده بعض الأعاظم من أن الحج الذي افترضه الله على العباد وجعله مما بني عليه الإسلام المسمّى بحج الإسلام في الروايات مشروط بعدم العسر بمقتضى قاعدة نفي الحرج، فما يصدر منه حال العسر والحرج ليس بحجة الإسلام .
ففيه : أن ما ينفى بالحرج هو وجوب حجة الإسلام، ولا يثبت به اشتراطه بعدم العسر والحرج، كما لا ينفى به ما اعتبر فيها ، ولذا لو حج متسكِّعاً بالراحلة التي لا تليق به يجزيه عن حجة الإسلام. وبالجملة: فقاعدة نفي الحرج لاتشرح معنى حجة الإسلام وما به يحصل الاستطاعة، فوجوب حجة الإسلام إما مشروط باليسار بدلالة الأخبار فلا حاجة إلى قاعدة نفي الحرج لنفي وجوبها عن غير الموسرين ، وإما ليس مشروطاً باليسار فقاعدة نفي الحرج لا ترفع إلا وجوبها دون صحتها ووقوعها حجة الإسلام .
ثم إن هنا رواية تدل بظاهرها على وجوب الحج وإن كان على حمار أجدع مقطوع الذنب ، وهي ما رواه الصدوق ـ عليه الرحمة ـ في الفقيه عن هشام بن سالم عن أبي بصير قال : « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : من عرض عليه الحج ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع للحج » .
ورواه في التوحيد: عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد البرقي، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم مثله.
والظاهر أن هذه الرواية ورواية المحاسن عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي بصير واحدة، إلا أن لفظها هكذا : قال : « قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل كان له مال فذهب، ثم عرض عليه الحج فاستحيى ؟ فقال: من عرض عليه الحج فاستحيى ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فهو ممن يستطيع الحج » .
وموردهما وإن كان البذل إلا أنه من المعلوم أنه لا خصوصية له ، وإطلاقه يشمل إذا كان الركوب على حمار أجدع مقطوع الذنب خلاف شرف المبذول له .
وفيه أولا : أن هذا الحديث معارض لكل ما دل على أن القدرة المشروط عليها الحج التي يعبر عنها بالاستطاعة أو الاستطاعة الشرعية أوسع من القدرة المشروط عليها عقلا مطلق التكاليف ، فهي قدرة خاصة لا يقع المكلف باعتبارها في تعلق الوجوب بالحج في الحرج والمشقة الزائدة عما يقتضيه طبع التكليف ، فروعي في ذلك يسر الشريعة السمحة السهلة ، ولا أظنّ أنّ أحداً يلتزم باعتبار مثل ذلك ( أي كفاية وجدان حمار أجدع أبتر ) في الاستطاعة إلى الحج; لأن ذلك يرجع إلى اشتراط وجوب الحج بأمر زائد على ما يقتضيه طبع سائر التكاليف، فإن المكلف إما أن يكون قادراً على المشي فكون وجوب الحج عليه مشروطاً أن يكون له حمار أجدع، والحال أن المشي عليه أهون من الركوب عليه ولا أقلَّ من أن لا يكون... لا يكون مهانته أكثر منه ، مما لا نفهم له معنى محصلا ولا توسعة فيه على المكلف . وإما أن يكون عاجزاً عن المشي فوجوبه عليه إن كان له حمار أجدع يكون مؤكداً لوجوبه ، إذاً فأين الإستطاعة الشرعية؟ وأين ما هو المغروس في جميع أذهان المتشرعة من أن الحج مشروط بالإستطاعة ؟ وما معنى عقد الباب في مثل الوسائل بعنوان باب وجوب الحج على كل مكلف مستطيع، وباب وجوب الحج مع الاستطاعة؟ إذاً فظاهر الحديث لا يوافق تلك الأخبار الكثيرة والاتفاق على اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة .
و ثانياً : أنه لا شك في أن الركوب على حمار أجدع حرجي على ذوي الشرف والمنزلة الاجتماعية، فإطلاق دليله يقيد بأدلة نفي الحرج الحاكمة عليه .
إن قلت : لا منصب ولا شرف أعلى من شرف النبوة والإمامة ، وكان النبي والأئمة ـ عليهم صلوات الله ـ ركبوا الحمير والزوامل وحجوا عليها ، وأي منقصة في الركوب على الحمار والزاملة بعد ذلك ؟ والحرج الذي يحصل للشخص من ذلك ناشئ من نقص الأخلاق وحب العلو، قال الله تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ) و النبي والأئمة (عليهم السلام) كان من دعوتهم وتربيتهم للناس إبطال هذه العادات ووضع أغلالها التي كانت على الناس ، فمثل هذا الحرج المذموم كالحرج الناشئ من الحسد لا يكون نافياً للحكم، ولا مراداً من مثل قوله تعالى : ( ما جعل عليكم في الدين من حرج )، و ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربما يركب الحمار العاري، وهو(صلى الله عليه وآله)الذي قال الله تعالى في خلقه مخاطباً إياه : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .
قلت : ربما يقع الإنسان في الضيق والحرج لنقص التربية وسوء الأخلاق من الكبر وحب الجاه والترفع على عباد الله، كما قد يقع في الحرج لو جلس في مجلس دون ما يريده ، ويرى الركوب على الحمار دون شأنه لثروته وجاهه ومنصبه ، وهو مستصغر لغيره من المؤمنين الذين ليس لهم ذلك ، فالحرج الحاصل من هذه الحالة الغير متواضعة ليس رافعاً للحكم، كالحرج الحاصل لهؤلاء من الجلوس مع الفقراء والضعفاء والعمال وغيرهم ، فلابد له من الجهاد مع النفس لترك هذه الحالة السيئة، وتأديب نفسه بالتأسي بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي كان يجلس جلسة العبد ، ويأكل أكلة العبد ، ولم يقبل ما عرضه عليه بعض الأغنياء وأهل الجاه والاستعلاء أن يختصهم بمجالس لا يدخل فيها الضعفاء والفقراء وأهل الصفة .
وتارةً يقع الإنسان في الحرج لوقوعه معرض استصغار الغير واستحقاره عزته الإيمانية وكرامته الإنسانية ، ولا شك أنه لا ينبغي للمؤمن قبول الاستذلال ، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولذا لا يقبل الهدية من غيره إذا كان فيه مظنة الإستحقار ، ولا يسأل عن غيره لئلا يتحمل ذلة السؤال ، وكذلك لا يجب عليه القبول إذا بذل له الحمار الأبتر استحقاراً به إذا كان قبول هذا الإستحقار حرجاً عليه ، كما إذا فضل عليه غيره لأن له كذا وكذا من المال ، مع أنه مفضل عليه بالعلم والسوابق الإسلامية وكما إذا صار ذلك سبباً لنظر الناس إليه بعين الحقارة فالحرج من هذه الجهات يكون رافعاً للتكليف .
والحاصل : إذا كان الحرج حاصلا من وقوعه في معرض توهين عزته الإيمانية وكرامته الإنسانية أو سبباً لاستحقار الناس شخصيته التي لا تقصر عن شخصية غيره من الناس الذين جعل الله أكرمهم عنده أتقاهم أو سبباً لاستحقار منصبه إذا كان من المناصب الإسلامية التي يجب حفظ عزتها واعتبارها يكون رافعاً لوجوب الحج فهذا هو الملاك في الحرج الرافع للتكليف هنا . والله تعالى هو العالم .
إذن الزوج للزوجة المستطيعة