• عدد المراجعات :
  • 12379
  • 5/9/2004
  • تاريخ :

من هم أهل البيت؟

مسجد النبي

وأول ما يلفت النظر سكوت الأمة عن استيضاح أمرهم من النبي (صلى الله عليه وآله) وبخاصة وقد سمعوه منه في نوب متفرقة وأماكن مختلفة، أما كان فيهم من يقول له: أنك عصمتنا من الضلالة بالرجوع إلى أهل بيتك، وجعلتهم قرناء القرآن؛ فمن هم أهل هذا البيت لنعتصم بهم؟ أترى إن عصمتهم من الضلالة من الأمور العادية التي لاتهم معرفتها والاستفسار عنها، أم ترى أنهم كانوا معروفين لديهم فما احتاجوا إلى استفسار وحديث؟.

والذي يبدو أن الصحابة ما كانوا في حاجة إلى استفسار وهم يشاهدون نبيهم (صلى الله عليه وآله) في كل يوم يقف على باب علي و فاطمة، وهو يقرأ: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا؛ وتسعة أشهر وهي المدة التي حدث عنها ابن عباس، كافية لئن تعرف الأمة من هم أهل البيت، ثم يشاهدونه وقد خرج إلى المباهلة وليس معه غير علي وفاطمة وحسن وحسين، وهو يقول: ( اللهم هؤلاء أهلي(1))، وهم من أعرف الناس بخصائص هذا الكلام، وأكثرهم إدراكا لما ينطوي عليه من قصر واختصاص.

وأحاديث الكساء ، بما في بعضها من إقصاء حتى لزوجته أم سلمة، ما يغني عن إطالة الحديث معه في التعرف على المراد من أهل البيت على عهده، وأحاديثه على اختلافها يفسر بعضها بعضا، ويعين بعضها المراد من البعض.

على أنا لا نحتاج في بدء النظر إلى أكثر من تشخيص واحد منهم يكون المرجع للقيام بمهمته من بعده، وهو بدوره يعين الخلف الذي يأتي بعده وهكذا... وليس من الضروري أن يتولى ذلك النبي بنفسه أن لم نقل أنه غير طبيعي لولا أن تقتضيه بعض الاعتبارات.

ومن هنا احتجنا إلى النص على من يقوم بوظيفة الإمامة، لان استيعاب السنة والأحكام الشرعية وطبيعة الصيانة لحفظها التي تستدعي العصمة لصاحبها والعاصمية للآخرين، ليست من الصفات البارزة التي يدركها جميع الناس ليتركها مسرحا لاختيارهم وتمييزهم، ولو أمكن تركها لهم في مجال التشخيص فليس من الضروري أن يتفق الناس على اختيار صاحبها بالذات مع تباين عواطفهم وميولهم.

وطبيعة الصيانة والحفظ ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقا في الحياة، تستدعي اتخاذ مختلف الاحتياطات اللازمة لذلك.

ولقد أغناها (صلى الله عليه وآله) حين عين عليا في نفس حديث الثقلين وسماه من بين أهل بيته لينهض بوظائفه من بعده؛ ومما جاء في خطابه التاريخي في يوم غدير خم، وهو ينعى نفسه لعشرات الألوف من المسلمين الذين كانوا معه: (كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما اكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلفونني فيهما؛ فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: ( إن الله عز وجل مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي، فقال: من كنت مولاه فهذا وليه؛ اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه(2)).

ثم قال في مرض موته بعد ذلك مؤكدا: (أيها الناس يوشك ان أقبض قبضا سريعا فينطلق بي، وقد قدمت اليكم القول معذرة إليكم، ألا إني مخلف فيكم كتاب ربي عز وجل، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فرفعها، فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فأسألهما ما خلفت فيهما(3)).

على أن الأحاديث الدالة على عصمته كافية في تعيينه، أمثال قوله (صلى الله عليه وآله): (علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما دار(4)) وقوله (صلى الله عليه وآله) لعمار: (يا عمار، إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، انه لن يدلك على ردى ولن يخرج من هدى (5)). وقوله (صلى الله عليه وآله): (اللهم أدر الحق مع علي، حيث دار(6)) إلى غيرها من الأحاديث.

ومن هنا قال أبو القاسم البجلي وتلامذته من المعتزلة: (لو نازع علي عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال: (علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما دار)، وقال له غير مرة: (حربك حربي، وسلمك سلمي(7)).

وإذا كانت هذه الأحاديث التي مرت تعين عليا وولديه، فما الذي يعين بقية الأئمة من أهل البيت؟.

هناك روايات مأثورة لدى الشيعة وأخرى لدى السنة، يذكرها صاحب الينابيع وغيره، تصرح بأسمائهم جميعا(8).

ولكن الروايات التي حفلت بها الصحاح والمسانيد لا تذكرهم بغير عددهم.

ففي رواية البخاري عن (جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: يكون اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: انه قال: كلهم من قريش(9))، وفي صحيح مسلم بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله): (لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش(10)).

وفي رواية احمد عن مسروق، قال: (كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله(صلى الله عليه وآله)كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله، اثني عشر كعدة نقباء بني إسرائيل(11)).

وفي نظير هذه الأحاديث مع اختلاف في بعض المضامين، حدث كل من أبي داود، والبزار، والطبراني(12)، وغيرهم، وطرقها في هذه الكتب كثيرة وبخاصة في صحيح مسلم ومسند احمد.

مکة المکرمة

والذي يستفاد من هذه الروايات:

1 -­ إن عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر، وكلهم من قريش.

2 ­- وان هؤلاء الأمراء معينون بالنص، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى: (ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا).

3- ­ إن هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي، أو حتى تقوم الساعة، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة، وأصرح من ذلك روايته الأخرى في نفس الباب: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان(13)).

وإذا صحت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله (صلى الله عليه وآله)، وهي منسجمة جدا مع حديث الثقلين وبقائهما حتى يردا عليه الحوض.

وصحة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة ­ بالاستحقاق ­ لا السلطة الظاهرية.

لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من الله، وهي في حدود السلطنة التشريعية لا التكوينية، لان هذا النوع من السلطنة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلط الآخرين عليهم.

على أن الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة أن السلطنة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف هذا العدد، فضلا عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم ­ أمويين وعباسيين ­ باتفاق المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة، فلا يحتمل أن تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور على أن جميع رواتها من أهل السنة ومن الموثوقين لديهم.

ولعل حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملاءمتها للواقع التاريخي، كان منشؤها عدم تمكنها من تكذيبها، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها.

والسيوطي (بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء، وهو (وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وهؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهدي من العباسيين لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل وبقي الاثنان المنتظران أحدهما: المهدي لأنه من أهل بيت محمد، ولم يبين المنتظر الثاني، ورحم الله من قال في السيوطي: انه حاطب ليل(14)).

وما يقال عن السيوطي، يقال عن ابن روزبهان في رده على العلامة الحلي وهو يحاول توجيه هذه الأحاديث(15).

والحقيقة إن هذه الأحاديث لا تقبل توجيها إلا على مذهب الإمامية في أئمتهم.

واعتبارها من دلائل النبوة في صدقها عن الأخبار بالمغيبات، أولى من محاولة إثارة الشكوك حولها كما صنعه بعض الباحثين المحدثين متخطيا في ذلك جميع الاعتبارات العلمية وبخاصة بعد أن ثبت صدقها بانطباقها على الأئمة الأثني عشر (عليهم السلام).

على أنا في غنى عن هذه الروايات وغيرها بحديث الثقلين نفسه، فهو الذي ترك بأيدينا مقياسا لتشخيص العصمة في أصحابها، وقديما قيل: (اعرف الحق تعرف أهله).

والمقياس في العصمة هو عدم الافتراق عن القرآن، فلنمسك بأيدينا هذا المقياس، ونسبر به الواقع السلوكي لجميع من تسموا بالأئمة لدى فرق الشيعة، ونختار أجدرهم بالانطباق عليه لنتمسك بإمامته.

وأظن إن الأنسب والأبعد عن الادعاء أن نهمل كتب الشيعة على اختلافها، وننزع إلى كتب إخواننا من أهل السنة ونجعلها الحكم في تطبيق هذا المقياس عليهم، فإنها أقرب إلى الموضوعية عادة من كتب قد يقال في حق أصحابها أن كل طائفة تريد التزيد لأئمتها بالخصوص.

ولنا من ابن طولون مؤرخ دمشق في كتابه (الأئمة الاثنا عشر)، وابن حجر في صواعقه، والشيخ سليمان البلخي وغيرهم رادة لأمثال هذه البحوث.

ولنترك قراءة تراجمهم جميعا للأخ أبي زهرة ليرى أيهم أكثر انسجاما في واقعه مع المقياس الذي استفدناه من حديث الثقلين، يقول أحمد وهو يعلق على حديث الإمام الرضا عن آبائه حين مر بنيسابور: (لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرى ء من جنته(16)).

والذي نرجوه ونأمل أن لا ننساه ونحن نستعرض تراجمهم، إن هؤلاء الأئمة الاثني عشر قد ادعوا لأنفسهم الإمامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم كما اتخذهم الملايين من أتباعهم قادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمنهم، وكانوا عرضة للسجون والمراقبة، وكثير منهم قتل بالسم، وفيهم من استشهد في ميدان الجهاد على يد القائمين بالحكم.

وفي هؤلاء الأئمة من تولى الإمامة وهو ابن عشرين سنة كالحسن العسكري، بل فيهم من تولى منصبها وهو ابن ثمان كالإمامين الجواد و الهادي.

ومن المعروف عن الشيعة ادعاؤهم العصمة لأئمتهم الملازمة لدعوى الاحاطة في شؤون الشريعة جميعها، بل ادعوا الأعلمية لهم في جميع الشؤون، وهم أنفسهم صرحوا بذلك.

ومن كلمات أئمتهم في ذلك كله ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهجه الخالد (نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم وينابيع الحكمة)، وقوله عليه السلام: (أين الذين زعموا أنهم

الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلي العمى، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم).

وقول علي بن الحسين السجاد: (وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم واتهموا مأثور الخبر فينا)، إلى أن يقول: (فإلى من يفزع خلف هذه الأمة، وقد درست أعلام هذه الأمة، ودانت الأمة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضا، والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة، وتأويل الحكم إلا أعدال الكتاب وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا(17))؟.

ومع هذه الأقوال ونظيرها صادر عن أكثر الأئمة، وهم مصحرون بمبادئهم، أما كان بوسع السلطة وهي تملك ما تملك من وسائل القمع أن تقضي على هذه الجبهة من المعارضة ذات الدعاوى العريضة من أيسر طرقها، وذلك بتعرض أئمتها لشيء من الامتحان العسير في بعض ما يملكه العصر من معارف وبخاصة ما يتصل منها بغوامض الفقه والتشريع ليسقط دعواها في الأعلمية من الأساس، أو يعرضهم إلى شيء من الامتحان في الأخلاق والسلوك ليسقط ادعاءهم العصمة.

وإذا كان في الكبار منهم عصمة وعلم، نتيجة دربة ومعاناة فما هو الشأن في ابن عشرين عاما أو ابن ثمان، فهل تملك الوسائل الطبيعية تعليلا لتمثلهم لذلك كله.

ولو كان هؤلاء الأئمة في زوايا أو تكايا، وكانوا محجوبين عن الرأي العام، كما هو الشأن في أئمة الإسماعيلية أو بعض الفرق الباطنية لكان لإضفاء الغموض والمناقبية على سلوكهم من الأتباع مجال، ولكن ما نصنع هم مصحرون بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم، تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر، والتأريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم وتعريضهم لمختلف وسائل الإغراء والاختبار ومع ذلك فقد حفل التأريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها بإكبار.

ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة وبخاصة مع الإمام الجواد، مستغلين صغر سنه عند تولي الإمامة(18).

وحتى لو أفترضنا سكوت التأريخ عن هذه الظاهرة، فان من غير الطبيعي أن لا تحدث أكثر من مرة تبعا لتكرر الحاجة إليها وبخاصة وان المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية.

وطريقة إعلان فضيحتهم بإحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى لو أمكن ذلك أيسر بكثير من تعريض الأمة إلى حروب قد يكون الخليفة نفسه من ضحاياها، أو تعريض هؤلاء الأئمة إلى السجون والمراقبة أو المجاملة أحيانا.

وإذا كان بوسع الأخ أبي زهرة أن يعلل هذه الظاهرة بتعليل منطقي يخضع لما نعرف من عوامل طبيعية ­ أعني ظاهرة تفوقهم في مجالات الاختبار والتمحيص ­ بالنسبة إلى الكبار من الأئمة بإرجاعها إلى الجهد والدراسة والتجربة السلوكية سرا، فهل بوسع فضيلته أن يعللها في ابن عشرين سنة أو في ابن ثمان، كما هو الشأن في الأئمة الثلاثة: الجواد، والهادي، والعسكري.

وما لنا نبعد والأخ أبو زهرة، وهو من الأساتذة الذين عانوا مشاكل التدريس في الجامعات، هل يستطيع أن يعطي الضمانة لنجاح أي أستاذ ­ لو عرض لامتحان عسير ­ في خصوص ما ألفه من كتب من دون سابق تحضير، فكيف إذا وسعنا الامتحان إلى مختلف مجالات المعرفة ­ وهي المدعاة لأئمة أهل البيت في مذهب الشيعة الامامية ­ ودون سابق تحضير؟.

وإذا كان للصدفة ­ وهي مستحيلة ­ مجالها في امتحان ما بالنسبة إلى شخص ما فليس لها موقع بالنسبة إلى جميع الأئمة صغارهم وكبارهم كما يحدث في ذلك التأريخ.

وأظن إن في هذه الاعتبارات التي ذكرناها مجمعة ما يغني عن استيعاب كل ما ذكر في تشخيص المراد من أهل البيت.

أما الدعوى الثالثة وهي دلالته على إمامة الفقه لا السياسة، فهي ما لا أعرف لها وجها يمكن الركون إليه لافتراضها فصل السلطتين الدينية والزمنية عن بعضهما مع إن الإمام لا يعترف بذلك لما فيه من تجاهل لوظائف الإمامة وهي امتداد لوظائف النبي إلا فيما يتصل بعالم الاتصال بالسماء، وبخاصة فيما يتصل في الشؤون التطبيقية.

لان الفكرة ­ أية فكرة ­ لا يكفي في تحقيق نفسها ان تشرع وتعيش على صعيد من الورق، بل لابد أن تضمن لها تطبيقا تتلاءم فيه الوسائل والأهداف، وإلا لما صح نسبة النجاح لتجربتها بحال من الأحوال، ولقد كتبت فصلا مطولا في البحث الذي يتصل بانبثاق فكرة الإمامة والضرورات الداعية إليها في محاضراتي عن تأريخ التشريع الإسلامي في كلية الفقه، مما جاء فيه مما يتصل بحديثنا هذا: (والذي اخاله أن من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق أن يكون القائم على تطبيقها شخصا تتجسد فيه مبادئ فكرته تجسدا مستوعبا لمختلف المجالات التي تكفلت الفكرة تقويمها من نفسه.

ولا نريد من التجسد أكثر من أن يكون صاحبها خليا عن الأفكار المعاكسة لها من جهة، وتغلغلها في نفسه كمبدأ يستحق من صاحبه التضحية والفناء فيه من جهة أخرى ، ومتى كان الإنسان بهذا المستوى استحال في حقه من وجهة نفسية أن يخرج على تعاليمها بحال.

وإذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الإيمان بها وكانت لديه رواسب على خلافها لم يكن بالطبع أمينا على تطبيقها مائة بالمائة لاحتمال انبعاث إحدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير واستئثارها في توجيهه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطلها عن التأثير ككل، وربما استجاب الرأي العام له تخفيفا لحدة الصراع في أعماقه بين ما جد من تعاليم هذه الفكرة وما كان معاشا له ومتجاوبا مع نفسه من الرواسب.

بقيةالله

على أن الناس ­ كل الناس ­ لا يكادون يختلفون إلا نادرا في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها، فالتشريع الذي يحرم الرشوة أو الربا أو الاستئثار لا يمكن أن يأخذ مفعوله من نفوس الناس متى عرف الارتشاء أو المراباة أو الاستئثار في شخص المسؤول عن تطبيقه ولو في آن ما، أو احتمل فيه ذلك).

وبما أن الإسلام يعالج الإنسان علاجا مستوعبا لمختلف جهاته داخلية وخارجية، احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه إلى العصمة في الرسول ثم العصمة في الذي يتولى وظيفته من بعده، وعلى هذا يتضح سر إصرار النبي على تعيين أهل بيته الذين أعدهم الله لهذه المهمة إعدادا خاصا بالإضافة إلى مواهبهم الإرادية للقيام بشؤونها.

وما لنا نبعد بالأستاذ أبي زهرة وطبيعة النص الذي تحدث حوله تقتضيه، وهل وراء التعبير بلفظ مخلف ولفظ خليفتين ما يؤدي هذا المعنى .

على أن الأخ أبا زهرة حاول أن يقتطع النص من أجوائه التي تسلط الأضواء على تحديد مفاهيمه، ويدرسه بعيدا عنها فوقع فيما وقع فيه.

وهل نسي حضرته مجيئه في معرض التمهيد لحديث النص في يوم الغدير ومما جاء فيه: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وصفة الأولوية لا تكون إلا لمن له الولاية العامة على الأمة ليستطيع التصرف بما تقتضيه مصلحتها ثم تعقيبها بإعطاء الولاية له بقوله: (من كنت وليه فهذا علي وليه) ولحوقها بالدعاء الذي لا يناسب إلا الولاية العامة (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره).

ثم ورودها بعد ذلك في معرض تأكيد النص قبيل وفاته كما سبق التحدث في ذلك مما يوجب القطع بشمولها للجانب السياسي إذا لوحظت بمجموع ما لابسها من قرائن وأجواء.

على شمولها للجانب السياسي وعدم شمولها لم يعد موضحا لحاجتنا اليوم لنطيل التحدث فيه.

لأن البحث في هذا الجانب لا يثمر ثمرة فقهية ومجاله التأريخ.

وإثباته هناك لا يتوقف على دلالة هذه الرواية فحسب لتظافر أدلة النص وتكثرها في التأريخ.

وإنما الذي يتصل بصميم رسالتنا ­ كمقارنين ­ إثبات لزوم الرجوع إليهم في الفقه وأصوله، والحديث واف في الدلالة عليه كما ذكر أبو زهرة وغيرهم.

وأظن إن تحدثنا عن هذا الحديث وما انطوى عليه من عرض كثير من الأحاديث المعتبرة ذات الدلالة على حجية رأيهم يغني عن استعراض بقية الأحاديث ودراستها فليرجع إليها في مظانها من الكتب المطولة.

الأدلة العقلية:

ودليل العقل على اعتبار العصمة لهم لا يختلف عما استدل به على اعتبارها في النبي لوحدة الملاك فيهما، وبخاصة إذا تذكرنا ما قلناه من أن الإمامة امتداد للنبوة من حيث وظائفها العامة عدا ما يتصل بالوحي فانه من مختصات النبوة، وهذا الجانب لا يستدعي العصمة بالذات إلا من حيث الصدق في التبليغ، وهو متوفر في الإمام.

ولعل في شرحنا السابق لوظائف الإمامة ما يغني عن معاودة الحديث فيها.

وقد صور هذا الدليل على ألسنتهم بصور ننقلها عن دلائل الصدق بنصها

الأولى: (إن الإمام حافظ للشرع كالنبي لأن حفظه من أظهر فوائد إمامته، فتجب عصمته لذلك، لأن المراد حفظه علما وعملا، وبالضرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلا معصوم، إذ لا أقل من خطأ غيره، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر ملغى بنظر الشارع وهو خلاف الضرورة، فان النبي قد جاء لتعليم الأحكام كلها وعمل الناس بها على مرور الأيام(19)).

والثانية: (إن الحاجة إلى الإمام في تلك الفوائد (يشير إلى ما ذكره العلامة من فوائد الإمامة كإقامة الحدود وحفظ الفرائض وغيرها) يوجب عصمته والا لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل).

والثالثة: (إن الإمام لو عصى لوجب الإنكار عليه والإيذاء له من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مفوت للغرض من نصبه ومضاد لوجوب طاعته وتعظيمه على الإطلاق المستفاد من قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).

الرابعة: (لو صدرت المعصية منه لسقط محله من القلوب فلا تنقاد لطاعته، فتنتفي فائدة النصب).

الخامسة: (انه لو عصى لكان أدون حالا من أقل آحاد الأمة، لأن أصغر الصغائر من أعلى الأمة وأولاها بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب المعاصي أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الأمة(20)).

هذه الأدلة لو تمت جميعا فهي غاية ما تثبته عصمة الأئمة ولازمها اعتبار كل ما يصدر عنهم موافقا للشريعة وهو معنى حجيته، إلا أنها لا تعين الأئمة ولا تشخصهم فتحتاج إلى ضميمة الأدلة السابقة من كتاب وسنة لتشخيصهم جميعا.

والدخول في عرض ما أورد أو يورد عليها وما أجيب عنها من الشبه يخرج البحث من أيدينا إلى بحث كلامي لا نرى ضرورة الخوض فيه هنا، وهو معروض في جل كتب الشيعة الامامية.

والخلاصة إن دلالة الكتاب والسنة على عصمة أهل البيت وأعلميتهم وافية جدا.

وان ما ورد من انسجام واقعهم التاريخي مع طبيعة ما فرضته أدلة حجيتهم من العصمة والاعلمية وبخاصة في الأئمة الذين لا يمكن إخضاعهم للعوامل الطبيعية التي نعرفها كالأئمة الثلاثة الجواد والهادي والعسكري خير ما يصلح للتأييد.

فتعميم السنة آذن لهم في موضعه.

وما أروع ما نسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي من الاستدلال على إمامة الإمام علي بقوله: (استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه دليل إمامته(21))، وهو دليل يصلح للاستدلال به على إمامة جميع الأئمة إذ لم يحدث التأريخ في رواية صحيحة عن احتياج أحد منهم إلى الاستفسار عن أي مسألة أو أخذها أو دراستها من الغير مهما كان شأنه عدا المعصوم الذي سبقه، ولو وجدت لحفلت بذكره أحاديث المؤرخين كما هو الشأن في نظائره من الأهمية، وبخاصة وان الشيعة يفترضون لهم ذلك.

وتمام ما انتهينا إليه من بداية الحديث عن السنة إلى هذا الموضع، إن حجية السنة في الجملة من ضروريات الإسلام، بل لا معنى للإسلام بدونها، فإطالة الحديث في التماس الحجج لها من التطويل غير المستساغ لوسط إسلامي، وان كنا محتاجين في الجملة لإطالة التحدث حول بعض ما ورد من التعميمات فيها إلى الصحابة، أو الأئمة من أهل البيت.

-------------------------------------------------------------------------

الهوامش:

1- يقول مسلم في صحيحه، ج 7 ص 121: (لما نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم) دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي) وقد رواها بالإضافة إلى صحيح مسلم كل من: الترمذي، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم؛ انظر دلائل الصدق، ج 2 ص 86.

2- مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي، ج3 ص109، وقد صحح الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله.

3- ابن حجر في الصواعق، ص24.

(4- 5) دلائل الصدق، ج2 ص303، وفيه عشرات من أمثالها اقرأ مصادرها من كتب أهل السنة في الجزء نفسه.

6- المستصفى ، ج1 ص136.

7- ابن أبي الحديد في شرحه للنهج، ج 1 ص 212.

8- ينابيع المودة، ج 3 ص 99.

9- البخاري، ج 9 ص 81.

10- صحيح مسلم، ج 6 ص 4؛ وفي ص 3 ­ 4 روايات أخرى بمضمون رواية البخاري.

11- دلائل الصدق، ج2 ص316 نقلا عن مسند احمد وغيره.

12- أضواء على السنة المحمدية، ص210 وما بعدها.

13- صحيح مسلم، ج6 ص3.

14- أضواء على السنة المحمدية، ص212.

15- دلائل الصدق، ج2 ص315.

16- الصواعق المحرقة، ص203.

17- اقرأ هذه الأقوال وغيرها في المراجعات لشرف الدين مأثورة عن النهج والصواعق ص 18.

18- اقرأ موقفه من امتحان الخليفة له على يد يحيى بن اكثم في الصواعق المحرقة، ص 204.

19- للدليل تتمة مطولة فيها دفع شبه أوردها المصنف على نفسه وأجاب عليها، لا أرى حاجة لعرضها.

20- دلائل الصدق، ج 2 ص 10 وما بعدها.

21- لم يسعني التأكد من صحة النسبة فعلا لعدم عثوري عليها في المصادر التي أمتلكها.

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)