القضاء والقدر والتربية
قال الله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ (الاسراء:24).
ركنا السعادة
إن التربية أحد ركني السعادة، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما: الوراثة والتربية.
إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بامكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما. فتتغلب عليه وتضطره إلى الانسحاب من الميدان حسب درجة قوتها واصالتها إلا في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي (أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأخرى قوية).
ففي هذه الصور، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً وقدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً.
إن التربية أحد ركني السعادة، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما: الوراثة والتربية.
معنى القدر
يقول الله تعالى في القرآن الحكيم: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾(القمر:49) فأصغر الذرات الأرضية وأكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق وتقدير صحيح، كل قد انتظم في مكانه الخاص به... وهذا هو معنى القدر. إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم والحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف ومقداره قبل أشهر عديدة. فإذا لم يكن وضع الشمس وحركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغير، فانه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ. وبهذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن حركة الشمس والقمر فيقول ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾(الرحمن:5).
وهكذا، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً وثابتاً، وإذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض، وإذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة، وإذا وجدنا النطفة تنمو في رحم الحيوان أو الانسان فتتحول إلى موجود كامل... فذلك كله يسير طبق القوانين والسنن الالهية وكلها مظاهر لقضاء الله وقدره. إذن فالعالم يسير بموجب القضاء والقدر وكل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الالهي.
الجبر والتفويض
وأحد الموجودات في هذا العالم هو الانسان، ترتبط كل قواه وأفعاله، وجميع حركاته وسكناته بالقضاء والقدر الالهيين. فدقات القلب ودوران الدم، والاحساس في العصب، والهضم في المعدة، والتصفية في الكبد، والإبصار بواسطة العين، والسماع بواسطة الأذن... كل أولئك يسير حسب قضاء الله وقدره، ولكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء والقدر ينقسم بالنسبة إلى الانسان إلى قسمين:
فقسم منه يتسم بطابع الحتمية والجبرية حيث يجري من غير إرادة الانسان واختياره، وقسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا وخاضعاً لاختيارنا.
ولنأخذ مثلاً على ذلك: اللسان، فهو عضو من أعضائنا وجزء من بدننا وله مقدرات كثيرة. فأحد تلك المقدرات جريان الدم في عروقه. ومنها أيضاً تكلمه. أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا وإختيارنا، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا. وهنا (في دوران الدم في اللسان) قضاءان: الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الالهي. والثاني جبرية هذا الدوران وحتميتة في اللسان بالتقدير الالهي أيضاً حيث لا مجال لارادتنا واختيارنا فيه.
هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان، وقد عرفنا التقدير الالهي فيه.
وأحد الموجودات في هذا العالم هو الانسان، ترتبط كل قواه وأفعاله، وجميع حركاته وسكناته بالقضاء والقدر الالهيين.
وأما المقدر الآخر فهو صدور التكلم منه. ولكن الواضح أن التكلم نفسه خاضع لارادتنا، فبامكاننا أن نتكلم، وبإمكاننا أن نسكت. كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا، ونستطيع أن نكذب. فهنا أيضاً (في تكلم اللسان) قضاءان: الأول صدور التكلم من اللسان بالتقدير الالهي. والثاني اختيارية التكلم، وإراديته أيضاً بالتقدير الالهي.
ومن هنا يتضح جلياً أن القضاء والقدر قد يجريان بصورة جبرية.
وأحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر اختياري لنا. فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم وحتمي على جميع البشر بحكم القضاء الالهي، وهو صريح قوله تعالى: ﴿ "كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾(آل عمران:185). ولكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي وانقطاع النشاط الحيوي. كما يمكن أن يتم بإرادة واختيار من قبل شاب يملك من القوة وسلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقدم على الانتحار.
وهكذا فالشيخ الذي عمر مائة سنة حتى مات حتف أنفه، والشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته واختياره متساويان في أنهما ماتا بقضاء الله وقدره، مع فارق واحد وهو أنه في الصورة الأولى كان القضاء والقدر حتميين غير اختياريين، بينما في الصورة الثانية إستغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء والقدر وأنهى بذلك حياته.
وعلى هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا عليه السلام حيث يقول: "سمعت الرضا عليه السلام يقول: كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا ناجى ربه قال:أللهم إني قويت على معاصيك بنعمك" ومعنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية والاختيار التي وهبها الله له بالقضاء والقدر استغلالاً سيئاً، فيصاب بالانحراف.
-------------------------------------------------------------------
المصادر:
بحار الأنوار للمجلسي
الطفل بين الوراثة والتربية
اهل البيت يفسرون بالاستقسام بالأزلام
التفأل بالقرآن
الكلمات الأربع
الإعراض عن اللغو
العقدة النفسية