اسوة المؤمنات
ولدت السيدة خديجة بنت «خويلد» في عام 68 قبل الهجرة النبوية في اسرة اصيلة و نبيلة . فکانت ذات اخلاق حميدة و متصفة بالدراية و العقل و العفة و حيث کانت قبيلة قريش تصفها في العهد الجاهلي «بالطاهرة». و کانت قد اشتهرت بالقاب اخري مثل «سيدة قريش» و «سيدة نساء قريش» . و کان بيت السيدة خديجة(س) ملاذاً للمساکين و الايتام . فکانت تلبي بلطف و محبة حاجة المحتاجين الذين يلجأون الي بيتها و تصغي الي انين البؤساء و تتعامل بلطف و محبة مع الاطفال الأيتام ممن لا والي لهم و تؤيهم و تمنحهم من اموالها . فکانت السيدة خديجة تتمتع بامکانيات مالية کبيرة و کان بيتها يعتبر من افضل بيوت مکة . خصت جانباً منه لسکناها و الجانب الآخر لاستضافة ضيوفها . و کانت قد زينت غرفتها التي کانت تطل علي الکعبة بالکراسي العاجية و الصدفية و الستاتر الحريرية الهندية و الاقشمة الايرانية ذات الخيوط الذهبية.
و کانت السيدة خديجة تمتلک ثروة کبيرة و هي تستخدم رجالاً يتاجرون برأس مالها . و هي من اثرياء قريش المعروفين تحظي بمنزلة و مکانة اجتماعية في اعلي المستويات في ذلک العهد. کما کانت تحظي بطبيعة دينية و توحيدية نظراً لعنصري الوراثة و التربية الموجودين فيها.
و حول معرفتها بالرسول الکريم (ص) يقال ان عم النبي(ص) ابوطالب و هو من اقطاب مکة و من زعماء قريش کان قد تولي رعاية محمد (ص) و قد اقترح علي ابن اخيه بأن خديجة بنت خويلد و هي من اثرياء قبيلة قريش و تمتد تجارتها الي مصر و الحبشة تبحث عن رجل امين ليتولي زمام تجارتها و يشارک من جانبها في قافلة قريش التجارية و ليبيع اموالها الجارية في الشام لذلک من الافضل لک يا محمد أن تقدم نفسک لها. غير أن مناعة طبع محمد(ص) و روحه الساميه کانتا تمنعانه من التوجه نحو السيدة خديجة دون وجود سابقة و أي طلب و قدم لها مثل هذا الافتراح . لذلک قال لعمه : لعل خديجة نفسها تبعث شخصاً نحوي لأنها کانت تعرفه بالامين بين الناس. و من حسن الحظ کان الامر هکذا. فعندما عرفت خديجة نتيجة محادثاتها بعثت فوراً شخصاً نحو محمد(ص) و قالت أن ما شغفني بک هو صدقک و امانتک و اخلاقک المحمودة و انا مستعدة لاعطاتک ضعف ما کنت اعطيه للآخرين و امنحک اثنين من خدمي ليصحبوک و يمتثلوا لاوامرک في کافة المراحل.
و بذلک قد تحرک سيدنا محمد(ص) في قافلة خديجة التجارية کرجل امين نحو الشام ؛ و بعد عودته من الرحلة التي کانت ناجحة و جلبت ربحاً کبيراً لهذه القافلة ، روت احدي خادمات خديجة تحمل اسم ميسرة ماجري في هذه الرحلة و ما شاهدته من عظمة و معنوية لمحمد الامين و کراماته الاخلاقية الي السيدة خديجة و شعرت السيدة خديجة برغبتها بالزواج مع سيدنا محمد(ص) . اضف الي ذلک کان للسيدة خديجة عم باسم (ورقة بن نوفل) و کان من حکماء العرب و له مزيد من المعلومات حول کتب العهدين و کان يقولها بتکرار : ان رجلاً من قريش سيبعثه الله لهدي الناس و يتزوج باثري نساء قريش . و بما ان خديجة کانت اثري نساء قريش کان يقول لها بانک ستتزوجين مع اشرف رجل علي وجه الارض.
فعلي اية حال تشير اوراق التاريخ بأن هذا الزواج کان وليداً لايمان السيدة خديجة بالتقوي و شهرتها بطهرها و عفتها و امانة محمد(ص) و صدقه.
الشيئ المؤکد هو أن اقتراح الزواج جاء في البداية من جانب خديجة نفسها. حتي و ان ابن هشام يروي بأن السيدة خديجة قد ابدت رغباتها شخصياً و قالت هکذا بما معناه: ابن عمي نظراً للقرابه الموجودة بيني و بينک و مالديک من عظمة و عزة بين قبيلتک و شهرتک بحسن الخلق و الصدق ارغب بالزواج منک.
و قد وضع سيدنا محمد(ص) الموضوع مع عمه الکريم «ابوطالب» ؛ وتم عقد مجلس رائع شارک فيه رجال من کبار شخصيات قريش. و قد القي في البداية ابوطالب کلمة قال فيها بما معناه:
ابن عمي محمد بن عبد الله اذا ما قورن باي رجل من رجال قريش فانه يکون افضل منه ؛ رغم حرمانه من اية ثروة حيث ان الثروة هي کالظل الزائل غير أن شرف الاصل و النسب هو شيئ باق .. . و بعد ذلک القي السيد ورقة بن نوفل عم خديجة کلمة بهذه المناسبة قال فيها بما معناه : ليس في قريش شخص ينکر فضلکم اننا نرغب من صميم قلوبنا أن نمسک بحبل شرفکم . ثم جري عقد النکاح بمهر مقداره اربعمائة دينار . و المعروف هو ان خديجة کان عمرها 40 عاماً و سيدنا محمد (ص) کان عمره الشريف 25 عاماً. و قد تحول بيت السيدة خديجة محطاً للآمال و بيتاً لآمال الناس الفقراء و عندما بعث الرسول الکريم بالرسالة کانت خديجة اول من آمنت برسالته و في اللحظات الاولي لهذه البعثة و ثقل نزول الوحي و التي کانت تشکل ظروفاً صعبة للغاية و متأزمة کانت خديجة تبذل مساعيها الکبيرة نحو ضمان استقرار خاطرة.
هل هناک زوجه تتحمل کالسيدة خديجة اعباء الدعوة التاريخية للرسول(ص) و تقبلها من صميم القلب و بايمان قوي دون ذرة من التردد و الشک في صدق رسالته و ترحب بها مع هذا اليقين القوي لها بأن الله عز و جل لن يذله ابداً؟
فهل هنالک من امراة سوي خديجة مع ما تملکه من ثروة طائلة و عطاياها الکثيرة و هي في قمه الرخاء و الراحة و النعمة و العزة و الشوکه الملکية تعکف عن کل ذلک لتقف في اصعب الأيام الي جانب زوجها و تشارکه في تحمل اصعب انواع الأيذاء و التعذيب وفاءً لبقائها علي ايمانها؟
من المستبعد أن تکون هکذا . بل انها المرأة الوحيدة التي و ضعت کافة امکاناتها لمساعدة الرسول الکريم(ص) و ضمان ثقته و استقراره و سلامته.
إن خديجة لم تکن في العمر الذي يکون تحمل المشقة و المصاعب فيه عليها امراً سهلاً و لم تکن من اللواتي تطبعن في شؤون حياتهن بضيق المعيشة و الحرمان و شظف العيش. لکنها رغم کبر سنها قبلت الصعاب الناجمة عن محاصرة بني هاشم في شعب ابي طالب و التي بلغت حد الموت.
فکانت خديجة قد تقبلت انواع الاذي و العذاب و المصاعب و الويلات في سبيل وقوفها الي جانب زوجها و قبلت دعوة الرسول الکريم (ص) و تعاليمه برحابه صدرها الفريدة و الله عز و جل لم يترک قط رسوله الکريم(ص).
يذکر العلامة الطبابائي في ذيل تفسير الآية الثامنة من سورة الضحي :« و وجدک عائلاً فاغني» : إن کلمة عائل تعني الشخص المعوز و لييملک شيئاً من مال الدنيا. و کان الرسول الکريم(ص) هکذا. و الله عز و جل قد اغناه بعد زواجه مع السيدة خديجة بنت خويلد و قد منحت السيدة خديجة کافة اموالها مع کثرتها لسيدنا محمد(ص).
لقد اختار الرسول الکريم(ص) اربع من النساء بين جمع النساء البارزات في العالم منذ بدء الخليقة و حتي نهايتها و ذلک بسبب الخصائص التي کن يتمتعن بها. و کانت السيدة خديجة سلام الله عليها احدي هذه النساء الاربع و هن:« السيدة مريم بنت عمران و السيدة آسية بنت مزاحم و السيدة خديجة بنت خويلد و فاطمة الزهراء بنت النبي محمد (ص)» و کما يروي لنا التاريخ : لقد دخلت عدد من النساء في حياة الرسول الکريم بعد السيدة خديجة لکن اية واحدة منهن لم تحرز المکانة و المنزلة الرفيعة التي احتلتها السيدة خديجة في قلب الرسول الکريم.
و کان صلي الله عليه و آله و سلم يقول بما معناه :
« قسماً بالله الذي لم يقسم لي افضل منه : عندما امنت خديجة بي و کان يفر الآخرون و کانت تصدقني و يکذبني الآخرون و عندما سارعت باموالها نحوي و يحرمني الآخرون لقد منحني الله عز و جل ابناءً منها بما لم يمنحني من زوجاتي الاخريات »
طبقاً لما هو مشهور بين المؤرخين و الرواة لقد انجبت السيدة خديجة من الرسول الکريم محمد (ص) اربع بنات و ابنين و قد ولدت السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها من الحضن الطاهر لهذه الام الکريمة. من المسلمات التاريخية هي أن السيدة خديجة کانت اول امرأة آمنت بالرسول الکريم و لايلاحظ اي خلاف في ذلک.
فعلية يمکن اعتبار السيدة خديجة اسوة للإيمان و کانت السيدة خديجة متقدمة علي کافة نساء العالم في ايمانها بالرسول الکريم محمد(ص) . و عند نزول الوحي علي سيدنا محمد(ص) و عندما عاد الرسول الکريم (ص) من غار حراء نقل القصة الي زوجته و انها صدقت نبوة محمد (ص) مباشرة بشکل صريح و طمأنتة . انها انفقت ثروتها الطائلة في تکوين الصرح الاسلامي و تقدمه حيث قال الرسول الکريم (ص) في هذا الجانب:
« ما قام الاسلام الا بسيف علي و مال خديجة». و قد صرفت خديجة اموالها و ثرواتها في سبيل الله و هي اسوة للمتصدقات. و توفيت السيدة خديجة ام المؤمنين التي کانت معينة للرسول الکريم(ص) في نشر التعاليم الاسلامية في العام الثالث قبل الهجرة في مکة المکرمة. و کان عمرها 65 عاماً . و شکل وفاة السيدة خديجة للرسول الکريم(ص) مصيبة کبيرة و کان من الصعب عليه تحمل هذه المصيبة الصعبة. لکن الرسول الکريم (ص) قد تحملها بصبره و رضاه بالقضاء و القدر الالهي الحق.