فصول من السيرة العلوية (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصول من السيرة العلوية (1)
فصول من السيرة العلوية (2)
فصول من السيرة العلوية (4)
24- و ظلَّ رسول الله (ص) بعد ذلك يُصفِّي بقايا الشرك ، و كان ينتدب لذلك المسلمين ، فإذا ما فشلوا في تحقيق النصر انتدب لذلك عليًا ف، يعود عندئذٍ ظافرًا ، و كان عند عودته من إحدى الغزوات ، و نزول سورة العاديات فيه خرج رسول الله (ص) و المسلمون لاستقباله ، فترجَّل عليٌّ من على فرسه إجلالاً لرسول الله (ص) ، فقال له النبي (ص) : " اركب ، فإنَّ الله ورسوله عنك راضيان " ، فاستبشر عليٌّ و سالت دموعه من عينيه ، فقال له النبي (ص) : " لولا إني أُشفق ، أنَّ تقول فيك طوائف من أُمتي ، ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك مقالة ، لاتمرُ على ملأ من الناس ،إلا أخذوا التراب من تحت قدميك ".
25- و في السنة التاسعة من الهجرة ، نزلت سورة براءة على قلب رسول الله (ص) ، و أمره أنَّ يبلّغها أهل مكة المكرمة ، فبعث لذلك أبا بكر ، إلا أنَّ جبرئيل نزل عليه ، و أخبره أنَّ الله يأمرك أنَّ تبلّغها بنفسك أو بواسطة رجل منك ، فأمر عليًا ، أنَّ يرحل إلى أبي بكر ، و يأخذ السورة منه ، و يبلّغها في الموسم ، فأدركه و هو في وادي ذي الحليفة فأخذها منه ، و هذا المقدار من الحديث اتفق المسلمون على نقله.
26- و في السنة العاشرة من الهجرة ، أمر رسول الله (ص) المسلمين بالنفير إلى الحج ، و كان عليٌّ (ع) في اليمن أو نجران في مهمة بعثه بها رسول الله (ص) ، فأرسل إليه أنَّ يوافيه إلى مكة حاجًا ، فلما أنجز عليٌّ مهمته أقفل بعد الظهر إلى مكة الشريفة ، و كان قد سبقه إليها بعض من كان معه فانتقض عليًا عند رسول الله (ص) ، فغضب رسول الله (ص) ، و قال له : " ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ، فقال بلى قال له رسول الله (ص) : " من كنت مولاه فعلي مولاه ". ثم لما جاء الجيش إلى مكة قام رسول الله (ص) خطيبًا ، و قال : " ارفعوا ألسنتكم عن عليٍّ فإنه خشن في ذات الله غير مداهنٍ في دينه ".
27- ثم لما أن قضى رسول الله مناسكه ، و أزمع الرجوع إلى المدينة ، و كان في غدير خُم ، فنزل عليه جبرئيل بهذه الآية : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ، وَ إِن لَّمْ تَفْعَلْ ، فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " ، ( المائدة : الآية67 ) .
فجمع رسول الله (ص) الناس ، و كانوا كما ذكر ابن الجوزي مائة و عشرون صحابيًا ، و خطبهم ، فقال فيما قال : " أنَّ الله مولاي ، و أنا مولى كل مؤمنٍ و مؤمنة " ، ثم أخذ بيد عليٍّ (ع) ، و رفعها ، و قال : " منكنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه اللهم وآلِ من والاه و عادِ من عاداه " ، و قال ابن الجوزي أنَّ حادثة الغدير اتفق على نقلها كل المسلمين.
28- ثم أنَّ رسول الله (ص) أمر أنَّ تضرب قُبة لعلي ، و أمر المسلمين أنَّ يدخلوا عليه ، و يسلموا عليه بأمره المؤمنين ، فكان فيمن دخل علية أبو بكر و عُمر ، فال عمر لعلي: " بخِ بخِ لك يا علي أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة ".
29- كانت لرسول الله (ص) في يوم الغدير خطبة طويلة جاء فيها : " إنـِّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله و عترتي أهل بيتي ، فأنظروا كيف تخلّفوني فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ". و قد أجمع المسلمون على نقل هذا الخبر بطرقٍ متواترة ومعتبرة.
30- رجع النبي (ص) إلى المدنية ، فقضى فيها بقية أيامه ، و كانت شهران ، و تزيد قليلاً ، و في هذه الفترة عبأ جيش اسامة و ضم إليه وجوه الصحابة ، و أبقى عليًا (ع) معه إلا أنَّ الكثير منهم استنكفوا ، فشدَّد عليهم الأمر بالرحيل معه ، فخرجوا حياءً ثم عادوا محتجين بخشيتهم عليه ، و ذلك لمرضه (ص) ، و حين اجتمعوا عنده قال لهم بعد أنّ و بَّخهم على عدم إنفاذ جيش اسامة ، قال لهم : " أيتوني بدواة و صحيفة أكتب لكم كتابًا ، لاتضلون بعده " ، فأبوا عليه ، و قال بعضهم : " أنَّ النبي يهجر!!! ". و قد أجمع الفريقان على نقل هذا الحديث.
31- و كان علي (ع) حينذاك لايفارق رسول الله (ص) إلا لضرورة أو للقيام ببعض شئون رسول الله (ص) ، و في آخر ساعاته (ص) أفاق فلم يجد عليًا فقال النبي (ص): " ادعوا لي أخي و صاحبي " ، فقالت أم سلمة ادعوا له عليًا انَّه لايريد غيره ، فلما دنا عليٌّ منه أومأ إليه ، فأكبَّ عليه فناجاه رسول الله (ص) طويلاً. فقيل لعلي (ع) ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن ، فقال (ع) : " علّمني ألف بابٍ من العلم ، يفتحُ لي كلُّ باب ألف باب ، و أوصاني بما أنا قائم به إن شاء الله ".
32- ثم فتح رسول الله (ص) عينيه ، و قال لعلي : " يا علي ضع رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله عز وجل ، فإذا فاضت نفسي ؛ فتناولها بيدك و امسح بها وجهك ".
ثم فاضت روح رسول الله (ص) ، و رأسه على صدر علي (ع) ، يقول علي (ع) في نهج البلاغة : " لقد قبض رسول الله (ص) و إن رأسه لعلى صدري ، ولقد و ليت غسله و الملائكة أعواني ". فإنا لله وإنا إليه راجعون.
33- استثمرت قريش و معهم الأوس وا لخزرج انشغال عليٍّ و بني هاشم بتجهيز رسول الله (ص) و العزاء ، فاجتمعوا في السقيفة ، و انتهى الأمر إلى مبايعة أبي بكرٍ بالخلافة ، ثم ألزموا الناس البيعة ، فاعترضهم بعض الصحابة ، و كان منهم سهل بن حنيف ، قال : "يا معشر قريش أشهد لقد رأيت رسول الله (ص) في مسجده ، و قد أخذ بيد علي ، و قال: يا أيها الناس هذا إمامكم بعدي ، و وصيِّ في حياتي ، و بعد وفاتي... ، فطوبى لمن اتبعه ، و نصره ، و الويل لمن تخلّف عنه و خذله " ، و قال لهم أبو أيوب الأنصاري اتقوا الله عباد الله ، ثم قال سمعت النبي (ص) يقول: "أ هل بيتي أئمتكم بعدي ، و يُومي إلى علي ، و يقول: هذا أميرُ البررة مخذولٌ من خذله و منصورٌ من نصره". و قام غيرهما من الصحابة ، و نقلوا ما سمعوا من رسول الله (ص) منهم أبو الهيثم بن التيهان و سلمان و أبو ذر و المقداد و عمار و غيرهم. إلا أنَّ قريشًا لم تستجب لهم.
34- خرج عليٌّ (ع) للمسلمين و أخبرهم أنَّه الأحق بالخلافة ، و احتج عليهم بأمور إلا إنهم حاولوا إرغامه على البيعة ، فاعتزلهم بعد أنَّ حشم المسلمين على نصرته و الوقوف معه ، و حين اعتزلهم جمع القرآن و رتَّبه بحسب النزول و ذيلهُ بتفسير ما غمض من آياته ، و حين عرضه عليهم لم يقبلوا به.
35- ظلَّ عليٌّ (ع) رافضًا لبيعة أبو بكر ، فاقتضى رأي قريش أنَّ تُرغمه على ذلك ، فجاءوا إلى داره ، و هدّدوه بإحراقها ، فضُربت فاطمة ، و وُضعت الأغلال في عنق علي (ع) إلا إنهم لم يُفلحوا في إرغامه. و بايع بعد استشهاد فاطمة (ع) رعاية لمصلحة المسلمين كما أفاد (ع) .
36- ظلَّ عليٌّ مهادنًا للخلفاء ، و كان مرجعًا لهم ، كلما استعصى عليهم أمر يتصل بالدين أو إدارة الحكم ، حتى قال عمر في أكثر من ثلاثمائة مورد "لولا عليٌّ لهلك عُمر".
37- و حين وافى عمرٌ الأجلَ شقَّ عليه أنَّ يجعل الأمر لعلي (ع) ، رغم انّه كان يقول : " لو وليكم لحملكم على الجادة البيضاء " ، فجعل الخلافة في ستة كان عليٌّ (ع) واحدًا منهم ، وخطط لئلا يؤول الأمر لعلي (ع) ، و ذلك يتضح من مراجعة الوصية التي أوصى بها عُمر.
38- تنازل سعد بن أبي وقاص لعثمان ، و تنازل الزبير إلى علي ، وكان طلحة غائبًا فآل الأمر إلى عبدالرحمن بن عوف ، فأيهما يبايعه يصبح هو الخليفة فقال لعلي (ع) أُبايعك على كتاب الله و سنة رسوله وسيرة الشيخين ، فأبى عليه علي (ع) ، و قال تُبايعني على كتاب الله و سنة رسوله ، إلا أنَّ عثمان قبل بذلك فكانت له الخلافة.
39- حين استلم عثمان منصب الخلافة ، أفرط في تقريبه لعشيرته من بني أميه ، فأغدق عليهم الأموال ، و جعل لهم المناصب و الولايات الخطيرة ، و استوزر مروان ، و أرجع أباه من الطائف و كان طريدُ رسول الله (ص) ، فعبث بنو أمية في مقدرات المسلمين ، و كان منهم من يتجاهر بالفسق و الفجور ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أنه نفى أبا ذر إلى الشام ثم إلى الربذه ، و أمر بضرب عمار ، و تولّى هو وطأ عبدالله بن مسعود في بطنه ، و هدد عليًا (ع) بالنفي ، و كان قد حرم جمعًا من المسلمين عطاياهم ، فنقم عليه المسلمون في مصر و العراق و الحجاز ، و حاول عليٌّ (ع) إطفاء النائرة و الفتنة إلا انه لم يُفلح ، و قُتل عُثمان في بيته بعد أنَّ حوصر أربعين يومًا.
40- وقد بذل عليٌّ (ع) أقصى الجهد لمعالجة الأمور ، إلا أنَّ عثمان لم يكن يستجيب لنصائح علي (ع) ، كما لم يقبل الثوار أنَّ يصبروا أكثر مما صبروا ، و قد لخَّص علي (ع) هذه المرحلة بقوله : " و أنا جامع لكم أمره (عثمان) ، استأثر فأساء الاثرة ، و جزعتم فأسأتم الجزع " ، ( نهج البلاغة خطبة 30) .
41- لما قُتل عُثمان احتشد الناس على علي (ع) ليبايعوه بالخلافة ، إلا انه كان يمتنع عليهم إلا أنْ يقبلوا شروطه ، فحين قبلوها قبل بالبيعة ، و كان ذلك في ذي الحجة سنة 35 هـ. ، و كان عليٌّ يصفُ حال الناس عند بيعته ، " ثم تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهميم على حياضها يوم وردها ، حتى انقطعت النعل ، و سقط الرداء ، و وُطئَ الضعيف ، و بلغ سرورُ الناس ببيعتهم إيِّاي أنّ ابتهج إليها الصغير ، و هدَج إليها الكبير ، و تحامل نحوها العليل ، و حسرت إليها الكعاب " ، ( خطبة 229) .