الشكّ في كفاية المال للحجّ
مسألة 43 ـ إذا شك في أن ما عنده من المال المعلوم مقداره يكفي للحج أم لا ، أم شك في أن ما عنده من المال بلغ مبلغاً معيناً يكفي للحج أم لا فهل يجب عليه الفحص ؟
مقتضى ما بنوا عليه من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية عدم وجوب الفحص وإجراء الأصل .
وربما يستشكل في ذلك: تارةً بأنّ عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية ما ثبت منهم البناء عليه هو ما إذا لم يتوقف امتثال التكليف غالباً على الفحص، كما إذا كان موضوع التكليف معيناً بالعدد مما لا يحصل العلم به إلا بالفحص عنه، والاستطاعة في الحج والنصاب في الزكاة والخمس والربح فيه من هذه المقولة، وفي مثلها ترك الفحص موجب للوقوع في مخالفة التكاليف الكثيرة، وتشريع الحكم بهذه الخصوصية التي لا تعرف غالباً إلا بالحساب مع عدم إيجاب الحساب بعيد جداً ويكون نقضاً لغرض الشارع . فمن الممكن دعوى الملازمة بين إيجاب الزكاة بالنصاب أو الحج عند ما بلغ المال قدر ما يكفيه لأداء الحج وإيجاب الفحص .
- و فيه أولاً: النقض بموارد الشك في الطهارة والنجاسة، فإن العمل بإطلاق دليل الطهارة لا ينفكّ عن الوقوع في خلاف الواقع .
اللهمّ إلاّ أن يقال في باب الطهارة والنجاسة : لا نسلِّم كون إجراء الاُصول مثل أصالة الطهارة سبباً للعلم بالمخالفة; لإمكان أن يكون ما يجب الاجتناب عنه والمحكوم بالنجاسة ـ مثلا ـ هو الشيء المعلوم بوليته، أو كونه ميتة، ومعه لا يحصل العلم بالمخالفة أصلا .
- و ثانياً: بالمنع عن العلم بوقوع الشخص بعدم الفحص في المخالفات الكثيرة . نعم، يعلم إجمالا بوقوع بعض الناس في المخالفة إلا أنه لا أثر عملياً له ، ومثل هذا العلم حاصل بالنسبة إلى جميع الاُصول بل والأمارات .
واُخرى بأنه يمكن أن يقال : إنّ الفحص بهذا المقدار لا يعد من الفحص المتعارف، وهو مثل المراجعة إلى الدفتر، أو رفع الرأس والنظر إلى الاُفق، أو فتح العين والنظر إلى الماء المشكوك كونه خمراً .
واُجيب عنه : بأن الحكم بالبراءة لا يدور مدار الفحص، بل يدور مدار صدق العالم والجاهل ولا واسطة بينهما، فإن كان الشخص عالماً لا يجري في حقه الأصل، وإن كان جاهلا يجري في حقه، وفي المقام هو جاهل بوصول ماله إلى حد الاستطاعة فتشمله البراءة، ولا يجب عليه الفحص حتى بالرجوع إلى الدفتر ، والنظر إلى الفجر; لإطلاق أدلة الاُصول .وفيه : أن الكلام في صدق الجاهل على من إن رفع رأسه أو فتح عينيه يرى الفجر وما في الظرف هو الكلام في صدق الفحص وعدمه ، فلايصدق عنوان الجاهل على من كان حاله ذلك، كما لا يصدق الفحص على نظره إلى ما في الظرف . وبالجملة: الفرق بين الفحص بعدم صدقه على مثل فتح العين والجاهل بصدقه عليه مشكل جداً .
نعم، في الفحص الذي لايحصل إلا بمؤونة زائدة ولو كانت يسيرةً لايجب الفحص .
ثم إنه ربما يستدل بخبر يزيد الصائغ الذي رواه الكليني: عن محمد بن يحيى ، عن محمد الحسين ، عن محمد بن عبدالله بن هلال ، عن العلاء بن رزين ، عن زيد الصائغ قال : « قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إني كنت في قرية من قرى خراسان يقال لها بخارى ـ إلى أن قال: ـ فإن كنت لا أعلم ما فيها ( يعني الدراهم) من الفضة الخالصة إلا أني أعلم أن فيها ما تجب فيه الزكاة ؟ قال : فاسبكها حتى تخلص الفضة ويحترق الخبيث ثم تزكي ما خلص من الفضة لسنة واحدة ».
وهذا الخبر بظاهره يدل على وجوب تصفية الدراهم المغشوشة مع الشك في مقدارها، ومورده وإن كان صورة الشك في قدر الواجب مع العلم بوجود النصاب لكن يمكن استفادة الحكم منه في غير هذه الصورة ، كما إذا كان وجود أصل النصاب مشكوكاً ، لأنه لا فرق بين الشك في وجود الزائد على النصاب وفي وجود أصل النصاب في وجوب التصفية لتعيين ما عليه، كما أنه يمكن دعوى عدم الفرق بين الزكاة والخمس في الحج .
وردّ ذلك أولا: بضعف الخبر بزيد أو يزيد الصائغ ومحمد بن عبدالله بن هلال .
وفيه : أن الخبر ضعفه منجبر بالعمل ، مضافاً إلى أن من رجاله محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب الذي وصف بأنه حسن التصانيف مسكون إلى روايته ، ومن كان شأنه هكذا لا يرد حديثه لضعف بعض مشايخه .
- وثانياً: بعدم جواز التعدي من مورده وهو الزكاة إلى الخمس فضلاً عن الحج .
وفي هذا الرد أيضا نقول : أما بالنسبة إلى سائر الموارد فإنّ الحكم في الزكاة على طبق القاعدة وعدم الفحص يكون على خلاف القاعدة بالإجماع ، فبعد ما ثبت بالرواية في الزكاة وجوب الفحص وخروجه عن الإجماع نقول بخروج مثله أيضاً عنه ونأخذ بالقدر المتيقن منه وهو ما كان في غير هذه الموارد التي تحتاج معرفة الموضوع فيها غالباً إلى الفحص، والعقلاء أيضاً استقرت سيرتهم على ذلك .
الرجوع إلى الكفاية
مسألة 44 ـ إذا كان عنده ما يكفيه للذهاب إلى الحج والإياب منه ولم يكن له لنفقة بعد العود إلا مال غائب لو بقي إلى بعد العود يكفيه غير أنه لا يعلم بقاءه أو عدم بقائه إلى ذلك الزمان.
الظاهر أنه ينبغي تحرير المسألة بصورتين :
- إحداهما : أن يكون له مال غائب لو حضره بعد العود يكفيه مؤونته بعده فهو راجع إليه بالكفاية .
- وثانيتهما : أن يكون له مال لو بقي إلى بعد عوده يكفيه لمؤونته والرجوع إلى الكفاية، ولكن لا يعلم بقاءه ويحتمل تلفه .
أما الصورة الاُولى فحصول الاستطاعة يدور مدار الوثوق بحضوره بعد العود ، وإلا فالشك في حضوره شك في الاستطاعة فلا يجب عليه الحج ، هذا حتى ولو علم ببقائه لا يكفي في حصول الاستطاعة فضلا عن أن نتمسك باستصحاب بقاء المال الغائب في الزمان المستقبل إذا شككنا في ذلك; لعدم إثبات حضوره باستصحاب بقائه حتى على القول بالأصل المثبت ، مضافاً إلى أن حضوره بعد العود خلاف الاستصحاب ، إذاً فالمدار في صدق الإستطاعة هو الوثوق بحضوره عند العود .
وأما الصورة الثانية فالظاهر أن العرف في محاوراتهم واُمورهم ومعاملاتهم بانون على البقاء، فيقدمون على أعمال خطيرة ومعاملات جليلة بهذا البناء، إلا إذا كان هناك قرينة أو أمارة على الخلاف .
وإذا منعنا عن ذلك وقلنا : إن بناءهم على البقاء يدور مدار الظن والوثوق بالبقاء ، فهل إذا كان البقاء مشكوكاً فيه جائز الطرفين يجوز التمسك باستصحاب بقاء المال إلى بعد العود بناءً على صحة إجراء الاستصحاب لإثبات البقاء في الزمان المستقبل، كما إذا شك في بقاء الدم إلى ثلاثة أيام بناءً على اعتبار التوالي الثلاثة للحكم بكون الدم حيضاً .
واستشكل في جريان هذا الاستصحاب في المقام : بأنه لابد من مجرى الاستصحاب أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لذي حكم شرعي، واستصحاب بقاء المال إلى زمان العود لا يثبت حكماً شرعياً ، لأن بقاء المال ليس من الأحكام الشرعية ولا يثبت موضوعاً ذا حكم شرعي ، فإن ما هو الموضوع للحكم الشرعي هو الرجوع إلى الكفاية ، واستصحاب بقاء هذا المال إلى زمان العود لا يثبت الرجوع إلى الكفاية إلاعلى القول بالأصل المثبت.
وفيه : أنّ الرجوع إلى الكفاية خارجيته وتحققه في الخارج يكون بوجود المال الذي يكفيه، ووجوده خارجاً موضوع لحكم الشارع بالوجوب، وباستصحاب بقاء هذا المال ثبت الحكم الشرعي المترتب عليه .
وبعبارة اُخرى نقول : للرجوع بالكفاية مصاديق وصغريات كثيرة فإذا حصل أحد مصاديقه يتحقق الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج، فإذا شك بقاؤه يستصحب بقاؤه .
هل يجب حفظ الاستطاعة الحاصلة قبل أوان الحج ؟
مسألة 45 ـ إذا حصل له مال يكفيه للحج فإن حصل له في أشهر الحج عند التمكن من المسير أو خروج الرفقة فلا ريب في وجوب الحج به وعدم جواز التصرف فيه بما يخرجه من الاستطاعة ، وأما إن حصل له في أشهر الحج قبل التمكن من المسير أو قبل خروج الرفقة أو حصل له قبل أشهر الحج مع التمكن من المسير أو الخروج مع الرفقة عند أوانه فهل يجب عليه أيضاً حفظ الاستطاعة مطلقاً، أو يجوز التصرف فيه بما يخرجه من الاستطاعة فيما إذا حصل قبل أشهر الحج دون ما إذا حصل في أشهر الحج قبل التمكن من المسير ، أو يجوز مطلقاً؟
في المسألة وجوه وأقوال .
وهنا وجه آخر، وهو القول بعدم جواز تعجيز نفسه إن حصل له الاستطاعة المالية وتمكن من المسير حتى في السنة الثانية .
وإليك كلمات بعضهم :
قال العلامة في التذكرة : ( لو كان له مال ( متاع ) فباعه نسية عند قرب وقت الخروج إلى أجل يتأخر عنه سقط الفور في تلك السنة عنه لأن المال إنما يعتبر وقت خروج الناس ، وقد يتوسل المحتال بهذا إلى دفع الحج ) .
وقال في المنتهى : ( لو كان له مال فباعه قبل وقت الحج مؤجلا إلى بعد فواته سقط الحج; لأنه غير مستطيع، وهذه حيلة يتصور ثبوتها في إسقاط فرض الحج على الموسر، وكذا لو كان له مال فوهبه قبل الوقت أو أنفقه فلما جاء وقت الخروج كان فقيراً لم يجب عليه وجرى مجرى من أتلف ماله قبل حلول الأجل ) .
وفي الدروس قال الشهيد : ( ولا ينفع الفرار بهبة المال أو إتلافه أو بيعه مؤجلا إذا كان عند سير الوفد ) .
وفي مجمع البرهان في شرح قول ماتنه : ولا يجوز صرف المال في النكاح وإن شق قال : ( واعلم أن الظاهر أن المراد بذلك وجوب الحج وتقديمه على النكاح وعدم استثناء مؤونته من الاستطاعة، وكون ذلك في زمان وجوبه وخروج القافلة وتهيؤ أسبابه ، وإن كان قبله يجوز ) .
وقال السيد في المدارك : ( ولا يخفى أن تحريم صرف المال في النكاح إنما يتحقق مع توجه الخطاب بالحج وتوقفه على المال، فلو صرفه فيه قبل سفر الوفد (الذي يجب الخروج معه) أو أمكنه الحج بدونه انتفى التحريم ) .
وقال في الجواهر : ( ولا يخفى أن تحريم صرف المال في النكاح إنما يتحقق
مع توجه الخطاب بالحج وتوقفه على المال، فلو صرف فيه قبل سفر الوفد الذي يجب الخروج معه أو أمكنه الحج بدونه انتفى التحريم قطعاً ) .
ونحوه حكي عن كشف اللثام والذخيرة .
وظاهر كلماتهم ـ قدس الله أسرارهم ـ جواز تعجيز النفس عن الحج والتصرف في المال بما يخرجه عن الاستطاعة قبل سير الرفقة والوفد .
ويمكن أن يقال : الذي يستفاد من كلام هذه الأجلة ـ رضوان الله عليهم ـ أن الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج تتحقق بحصول المال إذا كان وقت ذهاب الناس إلى الحج الذي يعبر عنه بالتمكن من المسير أو خروج الرفقة، سواء كان وقت الذهاب قبل أشهر الحج أو بعده، فإذا لم يكن المال عنده وقت الذهاب لا يجب عليه الحج، ولا يجب عليه حفظ المال إلى وقت الذهاب إن حصل له قبله لعدم وجوب الحج عليه قبل ذلك، فكأنهم يقولون : إن (من استطاع إليه سبيلا)ظاهر في أوان الحج ووقت الذهاب والتمكن الفعلي من المسير، لا من يستطيع إليه بالتمكن منه في سنة من السنين .
وبعبارة اُخرى : لا يصدق كونه واجداً للسبيل إليه إن حصل له المال قبل أوان الحج أو التمكن من المسير، فكما لا يكون مستطيعاً للحج إذا كان متمكناً من المسير في السنوات الآتية ولا يجب عليه حفظ المال لا يجب عليه الحج إذا كان متمكناً من المسير بعد ذلك وفي أوان الحج، وإلا فيجب أن نقول بحفظ المال إذا كان متمكناً من المسير بعد عشر سنين مثلا .
هذا، مضافاً إلى أنه يمكن أن نقول : إنّ المستفاد من الأدلة ليس أزيد من تنجز الوجوب عند التمكن من المسير أو خروج الرفقة وإن كان ذلك قبل أشهر الحج، إذ من المعلوم أن ذلك يختلف بحسب الأمكنة وقرب المسافة وبعدها ، فمن كان بعيداً من مكة المكرمة بحيث لا يصل إليها إلا إذا خرج إليها قبل أشهر الحج بشهور بل بسنين فالمدار في جواز التصرف في المال بما يخرجه عن الاستطاعة وعدمه هو وقوعه قبل ذلك الأوان أو بعده .
وبعبارة اُخرى : تنجز وجوب الحج عليه وعدم جواز تفويت الاستطاعة يكون عند أوان الخروج وحلول الزمان الذي بحسب العرف يلزم السفر والخروج إلى مكة فيه لمن أراد الحج ، وأما قبل ذلك حيث لم يتنجز الوجوب فلا بأس بالتصرف في المال ، وذلك لأن القدر المتيقن من تنجز الوجوب وحصوله قبل زمان الواجب هو هذا ، وقبل ذلك يكون من الشك في التكليف، والمرجع البراءة .
وربما يظهر من بعض الأعاظم : أن الاستطاعة متى حصلت بالمال وصحة البدن وتخلية السرب يجب الحج، ولا يجوز له تعجيز نفسه عنه، سواء كان ذلك قبل أشهر الحج أو فيها، وسواء كان التمكن من المسير أو خروج الرفقة عند ذلك أو بعده ، فالحج واجب عليه وإن حصل التمكن من المسير بعد حصول المال له .
وبعبارة اُخرى يقول : الاستطاعة المشروط عليها وجوب الحج هي حصول المال عنده في أي زمان اتفق مع إمكان المسير إليه وإن اتفق بعد سنة أو سنتين .
وفيه : لازم ذلك أن نقول بوجوب الحج بحصول المال وإن لم يتمكن من المسير في سنة حصوله وتمكن في غيرها من السنين ولا أظن أحداً يلتزم به .
وفرق ظاهر بين تمكنه من المسير وعدم تمكنه من أداء الحج في سنته لبعد المسافة ولتوقفه على الخروج إليه من سنته وبين من لا يتمكن من المسير إليه في سنته ويتمكن منه بعدها ، فإن في الأول يصح الخطاب بوجوب الحج فيجب عليه المسير لكونه شرطاً للواجب، دون الثاني فإن إيجاب الحج بمجرد حصول المال معناه عدم دخل تخلية السرب في الاستطاعة التي ظاهر دخلها فيها لسنته هذه .
ومما ذكر يظهر أن من لم يتمكن من أداء الحج في سنة الاستطاعة لعدم تمكنه من المسير فيها إلى الحج لا يستقر عليه الحج وإن كان متمكناً منه في السنوات المستقبلة، ولهذا نقول بعدم وجوب الحج على من حصل له الاستطاعة المالية إذا لم تسمح له الحكومة بالمسير في عام الاستطاعة فلا يجب عليه تحصيل الإذن منها للسنوات المستقبلة; لعدم تنجز وجوب الحج عليه وإن بقيت استطاعته المالية في الأعوام التالية والحال هذه .
ولا يقاس هذا بمن لايحصل له الوصول إلى مكة في عام الاستطاعة لبعد المسافة لحصول الاستطاعة السربية له وتمكنه من المسير إليه في أوانه دون من لم تسمح الحكومة له للمسير إلى الحج .
اللهم إلا أن يقال بأنه يكفي في تنجز وجوب الحج الاستطاعة المالية والتمكن من المسير في عام ما طول العمر، فيجب على من يعلم بذلك في عام من الأعوام حفظ المال، وإن فرّط في ذلك استقر عليه الحج ، وهذا مما لم يقل به أحد .
نعم، إن ثبت اسمه في سِجِلِّ الحكومة وبقي استطاعته المالية إلى السنة التي تسمح له الحكومة الحج فيها يتنجز عليه الوجوب في تلك السنة . والله هو العالم .
مسألة 46 ـ لا يخفى أنه لا يتفاوت الحكم في ما إذا كان للشخص مال حاضر يكفيه للصرف في الحج إما بعينه أوبدله فقصر في حفظه أو تبديله حتى ضاع وتلف فإنه يستقر عليه الحج .
أو كان له مال غائب يمكنه صرفه في الحج بعينه بإحضاره عنده أو بتبديله بمال آخر، عروضاً كان أو نقداً ولكن قصّر في ذلك حتى تلف أو زال تمكنه من التصرف فيه، بخلاف ما إذا لم يكن متمكناً من التصرف فيه وصرفه في الحج ، سواء كان غائباً أو حاضراً فلا تحصل له الإستطاعة بمجرد ذلك ، فالمسألة بكلتا صورتيها سواء كان المال حاضراً أو غائباً واضحة الحكم ، ولا تحتاج إلى عقد مسألة مختصة بصورة كون المال غائباً .
إذا كان جاهلا بوجود الاستطاعة وتذكّر بعد الموسم وتلف المال
مسألة 47 ـ من كان واجداً للاستطاعة المالية ولكنه كان جاهلا بها جهلا عذرياً، أو كان غافلا عن وجوب الحج عليه وتذكر بعد مضيّ الموسم وتلف المال فهل الوجه استقرار الحج عليه ووجوبه في السنة الآتية ؟
وكذا إذا تذكر بعد تلف المال وأمكنه أداء الحج متسكّعاً في هذه السنة فهل الحج مستقر عليه أم لا ؟
هذا إذا كان واجداً لسائر الشرائط حين وجود المال .
والفرق بين الفرض الأول والثاني: أن في الأول لا فرق في أن يكون تلف المال بعد الموسم بإتلافه أو تلف بأسباب غير اختيارية، وفي الثاني لابد وأن يكون بإتلافه، فإنّ تلف المال بسبب غير اختياري يكشف عن عدم الاستطاعة .
وعلى كلّ حال اختار السيد (رحمه الله) في العروة استقرار وجوب الحج عليه، ولعل الوجه عنده إطلاق أدلة وجوب الحج على واجد المال والزاد والراحلة .
وحكي عن المحقق القمي (رحمه الله) في أجوبة مسائله عدم الوجوب ، لأنه لجهله لم يصر مورداً لوجوب الحج عليه، وبعد النقل والتذكر ليس عنده ما يكفيه فلم يستقر عليه.
ولعل وجهه عنده بما في بعض النصوص مما ربما يدل على كون وجود العذر نافياً للاستطاعة وعدم كون تارك الحج للعذر تاركاً للواجب .
وذلك مثل ما رواه الشيخ: بإسناده عن موسى بن القاسم ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « إذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام... » الحديث .
وفيه : أنّ الظاهر منه المستطيع الذي يدفع الحج مع الالتفات بالاستطاعة لا لعذر يعذره الله به، لا من تركه لعدم الالتفات به للجهل أو الغفلة، وسائر الروايات في هذا الباب أيضاً موردها الذي يدفع الحج والمسوف الملتفت إلى استطاعته .
نعم ، لو كان هنا ما يكون بلسان من فاته الحج لعذر ، لا من ترك الحج يتم الاستدلال به .
وهنا قول ثالث ، وهو التفصيل بين الجهل البسيط والجهل المركب وبين كون الغفلة عن وجوب الحج مستندة إلى تقصير منه كترك التعلم، أو غير مستندة إليه لكثرة المشاغل والابتلاءات، فيستقر عليه الحج في الجهل البسيط وفي الغفلة المستندة إلى التقصير دون ما إذا كان ذلك للجهل المركب أو الغفلة غير المستندة إلى التقصير .
قال: ( فإن كانت الغفلة غير مستندة إلى التقصير فلا يجب عليه الحج واقعاً ، لأن حديث الرفع في حقه رفع واقعي، وقد ذكرنا في محله أن حديث الرفع بالنسبة إلى غير ما لا يعلمون رفع واقعي، وفي الحقيقة تخصيص في الأدلة الأولية، والحكم غير ثابت في حقه واقعاً ـ إلى أن قال ـ : وإن كان الجهل جهلا بسيطاً فالظاهر استقرار وجوب الحج عليه ، لأن الحكم بعدم الوجوب في ظرف الجهل حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحج واستقراره عليه واقعاً ، فإذا انكشف وتبين الخلاف يجب عليه إتيان الحج لاستقراره عليه ـ إلى أن قال: ـ وأما في مورد الجهل المركب فلا يتوجه إليه التكليف واقعاً; لعدم تمكنه من الامتثال ولو على نحو الاحتياط ) .
ويمكن أن يؤيد ما اختاره صاحب العروة: بأن اعتبار وجوب الحج على المكلفين ليس من اعتبار التكليف والالتزام عليه، بل الحج اعتبر كونه ديناً على المكلف إذا صار مستطيعاً ، فكما أن الدين لا يسقط عن المديون بجهله به فمثلا لا يسقط الزكاة أو الخمس بجهل المكلف به إذا أتلفه لا يسقط الحج عن المستطيع بجهله أو غفلته عن الاستطاعة أو وجوب الحج عليه . والله هو العالم .
إذا حج ندباً فبان كونه مستطيعاً
مسألة 48 ـ إذا اعتقد أنه غير مستطيع وحج ندباً ثم ظهر أنه كان مستطيعاً فهل يكفيه عن حجّة الإسلام، أم يقع مندوباً ؟
قال السيد في العروة : ( إن قصد امتثال الأمر المتعلق به فعلا وتخيل أنه الأمر الندبي أجزأه عن حجة الإسلام; لأنه حينئذ من باب الاشتباه في التطبيق، وإن قصد الأمر الندبي على وجه التقييد لم يجز عنها وإن كان حجه صحيحاً ) .
واختار بعض الأعاظم الإجزاء مطلقاً; لأن المقام ليس مما يقبل التقييد، لأن التقييد إنما يتصور في الاُمور الكلية التي لها سعة وقابلية للتقسيم إلى الأنواع والأصناف، كالصلاة حيث إن لها أنواعاً وأصنافاً كصلاة الفجر ونافلتها، نظير ذلك ما ذكروه من التفصيل في باب الائتمام إلى زيد فبان أنه عمرو لأن الائتمام قد تعلق بهذا الشخص المعين، وهذا غير قابل للتقسيم ولا سعة فيه حتى يتصور فيه التقييد والتضييق، وفي الحج أيضاً الأمر به المتوجه إليه في هذه السنة أمر شخصي ثابت في ذمته وليس هو إلا حجة الإسلام، وهو يقع كذلك وإن كان من يأتي به جاهلا به فلا يعتبر في وقوعه حجة الإسلام قصد هذا العنوان ، غاية ما في هذا الباب أنه تخيل جواز الترك وعدم الوجوب وهو لا يضر بصحة العمل ووقوعه على ما يقع عليه ، كما لو فرضنا أنه صام في شهر رمضان ندباً بنية القربة وكان جاهلا بوجوب الصوم فيه إذاً فلا يغير نية التقييد، ولا تمنع المناسك من وقوعها على ما تقع عليه فليس ذلك باختيار المكلف، كما لا يغير أكل التفاح بنية أكل الرمان عما هو عليه .
ولكن يمكن أن يقال : إن الأمر يكون على ما ذكر إذا كان العمل مثل الأكل والشرب غير عبادي لا يعتبر فيه قصد القربة، أما إذا كان عبادياً فتقييد الإتيان به امتثالا لغير أمره وإن لا يغيره عما يقع عليه من كونه صالحاً لانطباق عنوان حجة الإسلام عليه دون الحج المندوب، ولا يغير الأمر الخارجي المتعلق به إلى الأمر الندبي إلا أنه ملازم لعدم قصد امتثال الأمر الواقعي وعدم انطباق حجة الإسلام التي صحتها مشروطة بقصد القربة على تلك المناسك المأتي بها .
نعم، لا يقع ما أتى به بهذه النية مندوباً ومستحباً أيضاً وصحيحاً كما زعمه السيد (رحمه الله)، لعدم إمكان وقوعه ندباً، وعدم كونه مأموراً به كذلك فالأمر يدور بين وقوع المناسك حجة الإسلام أو بطلانهاوعدم صحتها .
والذي نقوله إتماماً للمطلب : إن المستطيع المعتقد أنه غير مستطيع إن أتى بالحج بقصد الندب وكون تركه مرخصاً فيه لا يمنع ذلك وقوع ما أتى به حجة الإسلام، كما لا يكون ذلك سبباً لكون ما أتى به غيرها، فما هو حج الإسلام الذي ليس إلا حصول المناسك من الصرورة المستطاع قد أتى به المكلف بداعي الأمر وقصد التقرب به، ولا يضر بقصد قربته اعتقاده أن الأمر المتعلق بأداء المناسك يكون ندبياً; لأنه لا يجعل أمره الوجوبي ندبياً .
وبالجملة: فالباعث نحو إتيان المناسك هو الأمر المتعلق به وكونها حجة الإسلام ليس منوطاً بالإتيان به بقصد الأمر الوجوبي، كما لا يمنع اعتقاده كون الأمر ندبياً من كونه حج الإسلام، وهذا كمن لم يثبت عنده هلال شهر رمضان فصام بنية شعبان .
نعم، يمكن تحقق الترديد في حصول الامتثال إذا أتى به بقصد الأمر الوجوبي ثم علم أنه كان مأموراً به بالأمر الندبي، كمن نذر صوم الخامس عشر من شعبان وصام اليوم الرابع عشر باعتقاد أنه الخامس عشر; وذلك لأن الإتيان بصوم الرابع عشر كان باعتقاد كونه صوم الخامس عشر فلعله إن كان عالماً به لا يصومه، وهذا بخلاف العكس فإن من يصوم الخامس عشر باعتقاد أنه الرابع عشر يصومه إن علم أنه الخامس عشر بالطريق الأولى. وبالجملة فالأمر المتعلق بالصرورة المستطيع أمر بحجة الإسلام، سواء كان المستطيع عالماً باستطاعته أو جاهلا بها، ولا وجه لوقوعه ندباً أصلا، كما لا وجه لعدم وقوعه حجة الإسلام إلا إذا كان الشخص بانياً على عدم إتيان حجة الإسلام وبنى على غيرها بدعةً وتشريعاً . والله العالم .
ثمّ إنّه لو علم بالاستطاعة ووجوب الحج ولكن تخيل عدم فوريته وأتى به بقصد الندب فالظاهر أنه ـ كما ذكر في العروة ـ يرجع إلى التقييد، فلا يكون له القصد المطلق بامتثال الأمر بإتيان المناسك، بل مقيد بكونه ندباً، فانبعاثه نحو إتيان المناسك يكون مقيداً بتوهم الأمر الندبي، لا مجرد الأمر بها، فلا يكون ممتثلا للأمر الوجوبي ووقوعه ندباً محل الإشكال كوقوعه وجوباً .
وأما ما يظهر من بعض الأعاظم من تصور الأمرين هنا: أحدهما وجوبي والآخر ندبي في طول الأول لا في عرضه; لجواز الأمر بالضدين إذا كان على نحو الترتب لأن الأمر الثاني مترتب على عدم الإتيان بالأول ولو كان من عصيان، قال : ( وقد ذكرنا في محله أن كل مورد أمكن جريان الترتب فيه يحكم بوقوعه; لأن إمكانه مساوق لوقوعه، فما حج به صحيح في نفسه إلا أنه لا يجزي عن حجة الإسلام; لأن الأمر الفعلي لم يقصد، وإنما قصد الأمر الندبي المترتب على مخالفة الأمر الفعلي، ولا يقاس هذا الفرض بالفرضين السابقين لوحدة الأمر فيها، بخلاف المقام الذي تعدد الأمر فيه على نحو الترتب ) .
ففيه : أنّ تصور الأمرين: أحدهما وجوبي والآخر ندبي لا مانع منه ولكن أعم من الوقوع، فتعلق الأمر الندبي بالصرورة المستطيع عند عصيان الأمر الوجوبي أول الكلام .
نعم ، إذا كان هناك أمران: أحدهما وجوبي والآخر ندبي في طول الأول لا مانع من صحة الإتيان به، ولكن هذا محتاج إلى الإثبات، والقول بأن كل مورد أمكن جريان الترتب فيه يحكم بوقوعه نقول به كما في التكليف بالأهم والمهم ، حيث إن التكليف بالمهم ثابت ويكون الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأهم، وأين ذلك فيما إذا لم يثبت لنا غير أمر واحد ؟ والله تعالى هو العالم .
إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحجّ على مورثهم
إذا بلغ الصبي بعد الإحرام وصار مستطيعاً
إذا حجَّت المرأة مع عدم الأمن