الحج و الابداع السياسي عند الامام الخميني(قدس سره)
الفرادة التاريخية التي اتسمت بها شخصية الإمام الخميني(قدس سره) صيّرت منه رجلا استثنائياً بكلّ ما تحمل الكلمة من معان فرضت نفسها على الواقع ، الذي أطلّ عليه الإمام (رضي الله عنه) ليهبه من روحه ما لوّن به وجه الحياة وألبسها من برود الثورة وأردية الثوار أكاليل فخار سوف تظل معالم مجدها تحكي قصة الثورة الاسلامية ، التي فجرها الخميني الخالد في عصر جديب راهن فيه الكثيرون على استحالة عودة الاسلام الى صلب الحياة برنامج عمل ونظام حكم ومنهج حياة ، وإلى الحد الذي كان يتراءى للمحللّين السياسيين أنّ هذا الثائر المارد لا يمكن إلاّ أن يكون أحد الساسة اليساريين ، وإلاّ كيف يمكن لعالم دين يناهز السبعين عاماً أن ينطلق في نهايات القرن العشرين من خارج اللعبة الدولية; ليؤسس نظاماً إسلامياً في منطقة امتيازات استراتيجية لا يمكن أن تغفل الدول الكبرى عنها لتنتصب بؤرة ثورة ومثابة ثوار يتبنون الاسلام فكراً وعقيدة ونظاماً ، ولذلك جاءت الثورة الاسلامية مباغتة للعالم الذي صحا في الحادي عشر من شباط 1979م على صوت زلزال هزّ العالم .
وكما حيّر الخميني العظيم دهاقنة السياسة و أساطينها عند انتصاره ، فقد حيّرهم أيضاً أداؤه السياسي بعد الانتصار حينما قلب الطاولة على رؤوس المنظّرين السياسيين وأثبت بطلان مقولاتهم ، فظلّوا أمام إبداعاته مبهورين ، قد سمّرت عمامته السوداء أبصارهم ، وهم في حالة ذهول لا يدرون ماذا تخفي تلك العمامة من أفكار في رأس رجل أبى إلاّ أن يتمرد على الدنيا ، ويلوي أذرع الممسكين بأسباب القوة فيها ; ليعلن عندها قانون (عجز القوة المادية) عن قهر إرادة الشعوب وقادتها الأحرار الكبار .
فلقد كانت ولادة الثورة الاسلامية بقيادة ربّان سفينها الامام الخميني ولادة قيصرية عسيرة راهن الكثيرون على إمكانية إجهاضها من قبل القوى الكبرى ، التي لا يروق لها ولادة ثورة خارج رحم اللعبة الدولية في عالمنا الاسلامي ، لكن الخميني العظيم الذي أصرّ على الإبحار باتجاه معاكس لمجاري المياه الاستكبارية وتياراتها الجارفة كان مع النصر على موعد قد آمن به من الأعماق معتمداً على الأمل بنصر الله ومتوكئاً على الثقة التي منحتها له الجماهير .
فانطلق الإمام عملاقاً مارداً لا يعرف التوقف ولا الالتفات الى الوراء; ولذلك تميّز بصلابة المواقف رافضاً أنصاف الحلول أو الهدنة المؤقتة رغم علمه بفداحة الخسائر ، وأنهار الدماء التي سالت في شوارع طهران والمدن الايرانية الأخرى ، وكأنه يعلم أنّ شجرة الثورة عطشى لتلك الدماء النازفة ، ولا يمكن أن يتوقف النزف إلاّ عند الانتصار ، أو كأن شجرة الثورة لا يمكن أن تثمر نصراً حتى ترتوي ، ولذلك كلما أصرّ شاه ايران على تصفية الحساب مع الشارع الثائر بالمزيد من الرصاص والموت والدماء أصرّ الخميني على المواجهة ومهما كانت التضحيات الى أن أبطل نظريّة الحكم الشاهنشاهي القائمة على القمع والمراهنة على العنف ، فسقط الشاه بسقوط تلك النظرية، التي لم تقوَ على مقاومة تيارالثورة الهادر والمصمم على مواصلة الدرب حتى النهاية . عندها لم يجد الشاه مخرجاً من هذا النفق المسدود غير التوجه الى مطار مهرآباد ليترك إيران فارّاً بجلده غير مأسوف عليه .
وما إن انتهت ملحمة المواجهة الخمينية مع قوات الشاه ، إلاّ لتبدأ مرحلة ثانية في مواجهة واجهة أخرى من صنائع الشاه من عسكريين مغامرين ومدنيين طامحين في السلطة ، لكن الإمام ظلّ مصرّاً على المواجهة حتى أسقط من خلّفهم الشاه بطهران فسقطوا واحداً تلو الآخر; ليعلن عندها بثقة واطمئنان كلمته الشهيرة في مقبرة (جنة الزهراء) بطهران: ( أنا الذي سأعيّن الحكومة) .
وما إن أعلن الحكومة المؤقتة حتى التفت الى الجماهير ليستفتيها في نوع الحكم الذي تريد محدداً خياراتها بين أمرين: نعم للجمهورية الاسلامية أم لا .
فجاءت النتائج لتقول (نعم) وبنسبة تناهز الإجماع ، ليثبّت بذلك حجر الزاوية للنظام الاسلامي ، وليؤسس عليه دستور البلاد ، فيقطع الطريق على كلّ محاولات الالتفاف المستقبلية ، التي ربما يسعى لها الذين في قلوبهم مرض يوماً ما ، وليظل ذلك التصويت الجماهيري وذلك الدستور صمام أمان وضمانة كبرى لديمومة الحكم الاسلامي الذي اختارته الأمة وصوّتت لصالحه الجماهير المسلمة ، ومن هنا يمكن القول : إنّ الإمام الخميني قد قسّم التاريخ المعاصر الى حقبتين: حقبة ما قبل الخميني وحقبة ما بعده ، وإذا ما كانت الحقبة الأولى قد تميّزت بالهيمنة الاستكبارية والتفرعن الطاغوتي في مقابل الانسحاق والشعور بالتبعية من قبل المسلمين ، وإذا ما اتسمت الحقبة الأولى أيضاً بالاستئثار، الاستكباري والاستهتار، ليشعر معها المسلمون بالتهميش والإلغاء والمصادرة والحيف ، فإنّ حقبة ما بعد الخميني قد غيّرت المعادلة لصالح الاسلام والمسلمين ، وحوّلتهم من مواقع الهزيمة الى خنادق المقاومة ، ومن مواضع الإنزواء والإنكفاء الى خطوط التحدي والتصدي ، بل ومن مواضع الدفاع الى مواقع الهجوم ، وبذلك صيّر الإمام الخميني من الأرقام المهمشة للجماهير رقماً صعباً يستعصي على الإلغاء والشطب والتغييب في كلّ المعادلات السياسية ، وكان رهان الإمام في منازلته مع الحكم الطاغوتي على الأمة وحركتها ومقاومتها وتضحياتها ، رافضاً ما تعارف عليه ثوار العالم الثالث من منطق الانقلابات العسكرية ، التي لا دور فيها للجماهير إلاّ الاستماع الى الراديو والتلفزيون ، وهما يعلنان البيان الأول للثورة ، وعندها تتساءل الجماهير عن هوية الثورة وقادتها الذين يمتطون ظهور الدبابات ويعلنون حالة الطوارئ ومنع التجول الى إشعار آخر . في حين تحرك الإمام الخميني من وسط الجماهير وقادها لمواجهة الدبابات والقوات العسكرية ، التي عجزت عن مواجهة الشارع حتى أذعنت لصموده وإصراره بعد حين .
عناصر القوة في قيادة الإمام
يمكن إجمال عناصر القوة في قيادة الخميني للشارع الايراني بما يلي:
1 ـ الشخصية الفذة للامام ، التي امتلكت من قوة الايمان بالله والثقة بالجماهير والوضوح في الرؤية والفهم الواعي للواقع ما مكّنها من خوض معتركات الجهاد وسوح المنازلة دون تردد ، غير هياب مما لدى السلطة من وسائل ردع وأسباب قوة ودعم خارجي ووسائل إعلام قادرة على تزييف الحقائق وتضليل الجماهير .
2 ـ قدرة الإمام الخميني على ربط الشارع بالشريعة ، وتبني الطرح الاسلامي حلاّ لمشكلات الحياة والمجتمع ، وبذلك استطاع الإمام أن ينفذ الى عمق الانسان ويوظف كلّ قدراته في هذا الاتجاه ، ومن هنا فإنّ الإمام الخميني تمكّن من أسلمة الصراع وإضفاء الطابع العقائدي والايديولوجي على حركته المباركة فتعامل الجمهور معها على أنّها تكليف شرعي يتطلب بذل المال والجهد والروح دونما منّة أو استكثار ، وبذلك لم يُمنِّ الإمام أتباعه بمصالح دنيوية ومكاسب مادية ، وإنما وضع مفهوم رضا الله نصب أعين جمهوره ، وصيّر من ثقافة الاستشهاد في سبيل الله منبعاً متدفقاً بالعطاء لا يطاله الجدب ولا يخشى عليه الجفاف ، ولذلك اندفع الشارع الايراني باستبسال نحو فوهات المدافع والرشاشات والدبابات حتى إذا ما سقط شهيد برصاص قوات الشاه تدافع الجمهور على حمله وتشييعه وهم يصبغون أيديهم وثيابهم بدمه ، عندها أدرك الشعب أنّ من يطلب الموت ستوهب له الحياة ، كما أدرك الشاه أنّ المستميت لا يموت; ولذلك صار المواطن العادي يقع على الموت وهو يبحث عنه ولا ينتظر الموت لكي يقع عليه .
3 ـ اعتماد الإمام الخميني على الامكانات الذاتية ، ولم يفكر ـ مجرّد تفكير ـ بالاتكاء على الغير ، فقد رفض الارتباط بأية قوة أجنبية ، وتوجه للجمهور الذي لم يبخل على قائده بالغالي والنفيس فأعطاه من المال ما موّن الثورة بأسباب الديمومة والتصعيد ، ومن الجهد ما دوّخ به النظام وأجهزته الأمنية ، التي عجزت عن إيقاف عملية الثورة أو تعطيلها كما قدّم أنهار الدماء; ليصيّر منها زيتاً يتوقد بوعي وإيثار كي لا تنطفئ شعلة الثورة الوهاجة النيّرة .
إنّ الإمام الخميني لم يكن يرى ضرورة للاعتماد على أية قوة خارجية ، بل كان يرى في ذلك خطراً على الثورة ومستقبلها خاصة وأن القوى الداعمة لأية ثورة لا يمكن أن تدعمها حُبّاً في سواد عيون الثوار ، وإنّما كان لها مصالحها وحساباتها ، التي قد تتقاطع مع مصالح الثورة وطموحات جماهيرها ، هذا فضلا عن تشخيص الإمام بأنّ عالمنا المادي لا وجود فيه لقوة يمكن أن تناصر الاسلام وقيمه الخيرة وجماهيره الثائرة; ولذلك قطع الطريق على من كان يفكر بمدّ جسور التفاهم مع الآخرين لدعم الثورة ، وبذلك تمكن من قطع الأيدي الخارجية عن التدخل بالثورة ، وشؤونها ، فحفظ للثورة أجيالها ، ومنحها فضيلة الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي ، فعزّز قوتها وضمن ديمومة حركتها وسلامة خطّها من الانحراف ، وقد انطلق الإمام في هذا النهج من خلال رؤية قد تفرّد بها في تقسيم العالم الى معسكرين:
- أولهما : معسكر المستكبرين الذي يضم القوى الكبرى وعملاءها المحليين الذين تعاقدوا مع أسيادهم الكبار على خدمة مصالحهم في المنطقة وحراستها حتّى لو اقتضى ذلك قمع شعوبهم واضطهادها ونهب خيرات بلدانهم وتسليمها للأجانب أولياء نعمة العملاء المتحكمين في رقاب شعوبهم بقوة الحديد والنار .
- و ثانيهما: معسكر المستضعفين ، والذي يضمّ كلّ ضحايا القمع والاضطهاد من شعوب الأرض المغلوب على أمرها والتواقة للتحرر والانعتاق ، ووفق هذه الرؤية الموضوعية الجديدة يكون الإمام الخميني قد صنّف الواقع السياسي بدقة لينحاز بشكل طبيعي للمعسكر الثاني ، الذي لم يجد معه المستضعفون خياراً غير الانتماء لخط الإمام ومناصرته .
أمّا القوى الكبرى فلأنها متورطة بالأساس في قمع الشعوب وقهرها; ولذلك لا يرى الإمام الخميني في الاتكاء عليها أو التعاون معها إلاّ عملية تكريس للقمع والقهر والاضطهاد ، ولا يمكن للمستكبرين أن يكونوا أنصاراً للثوار والأحرار والمستضعفين حينما يتورون على القهر ويتمردون على الطغيان ، ولذلك لم يجد ضرورة ولا مبرراً للاعتماد على القوى الأجنبية ودعمها للثورة والثوار .
4 ـ مصادرة الإمام لكلّ الشعارات ، التي طرحتها القوى السياسية إبّان الثورة رغم راديكاليتها ، وبذلك استقطب اهتمامات الشارع الايراني ، الذي وجد في نهج الإمام صلابة الموقف وأصالة التفكير والرؤية الواضحة للأهداف ، وبالتالي لم تملك القوى السياسية غير خيار المتابعة واللحوق بركب الخط الخميني المتسارع الخطى ، كما فوّت الفرصة على الذين كانت أنفسهم تحدّثهم بالمرونة وترحيل المطالب والرضا ببعضها ، وتأجيل البعض الآخر منها لوقت قد يحين فيما بعد ، في حين كان الإمام الخميني يرى أنّ الثمرة الناضجة قد حان قطافها ، وأنّ التراخي في حسم الموقف هو ضياع للفرص ، ومنح النظام الطاغوتي مجالا لترتيب اوضاعه المنهارة وإعطاؤه فرصة مثالية لإعادة تنظيم قواه ، ومن ثم الإجهاز على الثورة وتشتيت قواها .
5 ـ استحضار الإمام الخميني للرمز الاسلامي الأمثل ، الذي يشكل في وعي الجماهير ، وفي عمق تفكيرها النموذج الاسلامي الجدير بالاقتداء به ، فكانت شخصية الرسول(صلى الله عليه وآله) وحكومة الإمام علي وعدله ، وتضحيات الإمام الحسين وصحبه ، ومواقف الزهراء البتول وجهادها حاضرةً في ميدان المواجهة وشاخصةً في الذاكرة . ولم يترك الامام الخميني فرصةً إلاّ ويذكّر الأمة بمواقف هذه الشخصيات العظيمة ، ودورها في معركة الحق ضد الباطل ، وبذلك يكون الإمام قد قفز بأفكار الجماهير وعنفوانها الثوري الى القمة ، وهي ترى نفسها على نفس الخط الذي سار عليه النبيّ و أهل بيته الكرام(عليهم السلام) . مما موّن النهضة الخمينية بزخم ثوري هائل لا يمكن توفيره دون استحضار تلك القمم الشامخة ، واستذكار مواقفها التاريخية الرائعة .
6 ـ التنظيم الهرمي للثورة الذي اعتمده الإمام الخميني كان له أكبر الأثر في ربط مفاصل التحرك الجماهيري ، حيث تربّع الإمام على قمة الهرم وأشرف عليه بشكل مباشر من خلال دائرة الخبراء والمقربين من أنصاره ومؤيديه من رجال الثورة وعلماء الحوزة العلمية ، الذين شكلوا الدائرة الأقرب للإمام ، والذين ارتبطوا بوكلاء السيد الإمام في كلّ المدن والقرى الايرانية ، والذين كان لهم تماس يومي مع الجماهير هناك ، وبذلك التنظيم أوجد الإمام عملية ارتباط مباشرة ومتبادلة بينه وبين الجماهير من خلال النسغ النازل ، الذي كانت تمثله تعاليم الإمام للجماهير وتوجيهاته لها سواء عبر النقل الشفوي أو التحريري أو الصوتي المباشر من خلال (الكاسيت) فكانت تعاليمه رضوان الله عليه تصل إلى أقصى نقطة في ايران بوقت قياسي ، بينما تواصل النسغ الصاعد من القاعدة الجماهيرية الى الإمام القائد من خلال قنوات التوصيل ، التي وفّرها هذا التنظيم الهرمي المتماسك ، وبذلك كان الإمام على بيّنة من نبض الشارع وأحاسيسه ومشكلات الثورة وإنجازاتها وهمومها واهتماماتها .
أما الجماهير التي تتابع حركة الإمام وتنفّذ قراراته فقد كانت تدرك أيضاً متابعة الإمام لحركتها ، وبالتالي فقد أدى هذا التواصل الى تعميق الصلة بين الجماهير والقيادة ، واختزل بينهما المسافات والفواصل ، وصيّر من قرارات الإمام وتوصياته مواقف ميدانية تلامس الواقع وتساير ايقاعاته عن كثب .
7 ـ الروح الاستيعابية للإمام جسدت مقولة السياسيين وهم يعرّفون السياسة بأنها فنّ الممكنات في إدارة التناقضات ، فقد تمكّن الإمام الخميني من ادارة الثورة واستيعاب كل مفردات التحرّك من خلال انفتاحه الايجابي على كلّ الممكنات تاركاً لنقاط الاختلاف مجالها النظري خارج إطار حركة الثورة المتفاعلة ميدانياً وفقاً للأهداف الستراتيجية المشتركة ، وبذلك استطاع الامام أن يستقطب أقصى اليمين وأقصى اليسار ، ويصب جهود الجميع في بحر الثورة الذي أتسع أُفقه ليشمل كلّ أعداء السلطة ، وبغض النظر عن نقاط الاختلاف بين تلك الفصائل ، وبذلك جمع كلّ الطاقات وصبّها في الاتجاه الصحيح ، وجنّب الثورة كلّ الصراعات الداخليّة والنزاعات الهامشية التي لا تخدم إلاّ العدو المشترك . كما قرر الإمام عدم الدخول في صراع مع أولئك الذين وقفوا ضده ، ولم يترددوا في استخدام كلّ الأسلحة لمواجهته ، وجرّ الثورة الى صراعات داخلية غير مبررة ، وبذلك قضى الإمام بصمت على خصومه الذين أزاحتهم جرافات الثورة عن الطريق ، ورمى بهم تيار الوعي خارج دائرة الأحداث ، فلا تسمع لهم إلاّ همساً سرعان ما خفتت أصواته عندما لم تجد لها أذناً صاغية بين أبناء الشعب .
8 ـ نظرية ولاية الفقيه التي اعتمدها الإمام الخميني أساساً لحركته ومنطلقاً لثورته ، ومن ثم اعتبارها الركيزة الكبرى للنظام السياسي الاسلامي والتي تمثل ركناً أساسياً يقوم عليه الحكم الاسلامي في إيران ، هي النظرية التي جنّبت تطبيقاتها النظام الاسلامي الكثير من المطبّات ، وشكّلت ضمانة كبرى لسلامة الوطن من التشرذم والتمزق والانقسام ، خاصة وأنّ القوى الاسلامية جميعها تؤمن بهذه النظرية ، وترى في الولي الفقيه مرجعية سياسية ودينية يحتكم إليها في حالة بروز أي خلاف ، ويؤخذ برأيها عند كلّ تقاطع ، وتمارس الإشراف على مجمل السياسة العامة وخطوطها الكلية .
وبالرغم من المكانة المهمة للولي الفقيه في النظام الاسلامي ، إلاّ أنّ الإمام أصرّ على ضرورة الرجوع الى رأي الأمة في اختيار الشخصية المؤهلة لمثل هذا الموقع الحساس ، فكان انتخاب مجلس الخبراء من قبل الشعب تصويتاً شعبياً على الولي الفقيه ، الذي أعطى المجلس صلاحيات اختياره وعزله بوصفه ممثلا لإرادة الشعب واختياراته .
9 ـ الرؤية الاسلامية الأصيلة للإمام قد أمدّت الثورة برصيد إسلامي وانساني هائل حينما طرح الاسلام مشروعاً حضارياً لقيادة الحياة متجاوزاً كلّ الأطر القوميّة والاقليمية وهو يصرخ بأنّ ( وطننا هو الاسلام وليس البصرة أو الشام ) ولذلك انطلق من هذا الفهم لمناصرة الشعوب وقضاياها العادلة سواء في العراق أو فلسطين أو كشمير أو لبنان وغيرها ، بل تجاوز ذلك الى ما هو أكثر بعداً حيث يخاطب مستضعفي العالم وأبناء الشعوب المقهورة وهو يدعوها الى الثورة والتحرر ويمدّ يده اليها دون أن يعير أي اهتمام لردود فعل القوى الاستكبارية ، التي ترى في مشروع تصدير الثورة خطراً حقيقياً على مصالحها وامتيازاتها وأطماعها الاستعمارية مما أكسب الإمام الخميني رصيداً بشرياً هائلا غيّر الكثير من معادلات السياسة وحسابات السياسيين، الذين هرعوا لمحاصرة الثورة الاسلامية والوقوف بوجه أعاصيرها الهادرة ، ولم يدّخروا وسعاً في محاربتها وتشويه سمعتها والقضاء عليها ، لكن إرادة الله ووعي الجماهير وإيمانها بالثورة والاسلام كان أكبر من كلّ كيد وعدوان; ولذلك سقطت المؤامرات كلّها ، وبقيت الثورة رقماً صعباً وواقعاً يفرض نفسه على الدنيا بأسرها شاء من شاء وأبى من أبى .
10 ـ شكّلت القراءة الجديدة الواعية لمفهوم الحجّ إحدى أهمّ تجلّيات الإبداع السياسي لدى الإمام الخميني(قدس سره) مع الإصرار على ضرورة الاحتفاظ بالأطر التعبّدية لهذه الفريضة المقدّسة ، الأمر الذي جمع بين قداسة الحجّ من جهة والتعاطي مع الواقع الجديد بكلّ ما فيه من معطيات وتداعيات ومتغيّرات من جهة أخرى ، وهو ما أضفى على هذه الشعيرة بعداً سياسياً قد غُيّب عنها زمناً ليس بالقصير ، لكن مبادرة الإمام الخميني انطلقت هادفةً لكي يعود الحجّ حجّاً إبراهيمياً يستوعب مفهوم (قياماً للنّاس) و(مثابةً) و(أمناً) ويتعاطى هذا الفهم القديم الجديد مع واقع الأمّة الإسلاميّة التي دبّت في أوصالها عافية الوعي وحيويّة الإحساس بالعزّة والكرامة في ظلال حضارة الإسلام المنقذة .
ولذلك جاءت المبادرة الخمينيّة ومعها كلّ أسباب نجاحها ، الأمر الذي عضد من أواصر الترابط بين حجاج بيت الله الحرام ومتّن عرى التواصل بينهم من خلال الشعور المشترك بضرورة تحويل موسم الحجّ المبارك إلى مؤتمر شعبي تتلاقح في أجوائه الرؤى والآمال المشتركة للمسلمين كافّة .
لذلك تحوّلت مسيرة البراءة من المشركين إلى ظاهرة سياسيّة مثيرة للاهتمام والاحترام بقدر ما هي مثيرة أيضاً للهواجس والجدل والخصام ، وظلّت الشعارات المطروحة في تلك المسيرة تمتلأ نضجاً سياسياً يغلق الطريق على كلّ أولئك الذين لا يروق لهم أن يتحوّل الحج المبارك إلى مدرسة وعي ، وحلقة تواصل بين عموم المسلمين من خلال ممثّليهم الذين كتب الله لهم أن يكونوا ضيوفه في الديار المقدّسة وفي أيّام معلومات ، فجاءت تلك الشعارات المركزيّة مدروسة واعية ومعبرة عن الشعور بالكراهيّة للاستكبار العالمي من خلال شعار (الموت لأمريكا) وهو شعار لا يختلف على أهمّيته وجدواه مسلمان .
كما جاءت تحكي رغبة اسلاميّة عارمة من خلال تصعيد وتائر الكراهيّة للصهيونيّة العالميّة وكيانها الغاصب ، ثمّ التشديد على ضرورة قيام الوحدة الإسلاميّة التي تمثل رغبة شعبيّة شاملة عبر شعار مركزي جادّ تهتف به الجماهير بحماس ( يا أيّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا ) .
وقد شهدت شعاب مكّة وشوارعها حضوراً إسلامياً واسعاً اصطفّ فيه الطيف الإسلامي الملوّن من شرق الأرض وغربها هاتفاً بهذه الشعارات متبنياً لها مشيراً بضرورة العمل وفق سياقاتها ، لكن تفجير هذا الوعي الشعبي في مثل هذا المكان المقدّس والزمان المطلوب أرعب أطرافاً دوليّة وإقليميّة واستفزّها ، فأبت إلا مواجهة الجماهير الملبّية لدعوة الله سبحانه ، وحالت دون سريان هذا الطوفان البشري الواعد المتوعّد ، وقد جسّدت هذه المواجهة أهمّية وخطورة المبادرة الخمينيّة الرائدة ، إذ لو كانت حدثاً عابراً لما أثارت اهتمام أحد ، لكن عمق مضامينها وسرعة الاستجابة لها وسعة مدياتها التي ملأ أجواءها الحماس ، أفقدت صواب المتوجسين خيفةً منها ، فأقدموا على المواجهة التي خسروا معها المصداقيّة ، وأعانوا على أنفسهم في فهم هويّتهم وتوجّهاتهم ونواياهم المبيّتة التي كاد الإعلام المضلّل أن يغطّي عليها ، لكن الإمام الخميني كان قد سلط عليها الأضواء الكاشفة فانجلت غبرة التضليل عن وقائع وحقائق ستظلّ تلاحق أعداء الوعي إلى أمد بعيد .
11 ـ مثل الإمام الخميني النموذج الأمثل والقدوة الصالحة للأمة حينما وجدته خلال عقود جهاده سواء قبل انتصار الثورة الاسلامية أو بعدها رجلا كامل الإيمان ، لا يخشى أحداً غير الله حيث عظم الخالق في نفسه فصغر ما دونه في عينه; ولذلك نازل الكبار واستخفّ بقدراتهم وتحداهم ، وكأنه قوة كبرى قادرة على مواجهة الاستكبار كلّه .
فلقد عرفت الجماهير قائدها إنساناً يعيش للإسلام ، ويضحي بوجوده من أجله ، وظل مع الفقراء والمحرومين يعيش كما يعيشون ويحيى كما يحيون ، رحل من الدنيا ولم يترك فيها داراً ولا عقاراً ولا ادخاراً ; ولذلك ظلّ رمزاً للثورة وبقي سلوكه معياراً للثوار .
المصطلح السياسي عند الامام الخميني
تفرد الإمام الخميني في الكثير من آرائه السياسية ، ولذلك لا يمكن لأيّ من المحللين السياسيين أن يعتبره منتمياً لمدرسة سياسية معينة ، وإنما أرسى بنفسه قواعد مدرسة سياسية جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم (المدرسة الخمينيّة) التي اعتمدت الاسلام فكراً والقرآن دليلا في التنظير السياسي ، ولذلك حينما نلقي حزمة ضوء على المصطلح السياسي عند الإمام الخميني فإنّما نحاول من خلال ذلك أن نستكمل صور الإبداع السياسي لديه (رضوان الله عليه) إذ يشكل المصطلح السياسي عنده بعض مفردات تفرده السياسي الذي تميز به عن غيره من قادة الدنيا وساستها .
فهو يتبنى فكرة (اللاشرقية واللاغربية) التي تعني فيما تعني فك الارتباط التبعي بالشرق والغرب والوقوف على أرضية الثقة بالنفس والمبادئ والامكانات دون أن يعني ذلك بالضرورة تقاطعاً مع الغرب والشرق ، وإنما يعني الاستقلالية الكاملة ، التي لا يجوز فيها الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك مع ضرورة الانفتاح على الشرق والغرب وفق صيغ متكافئة من الاحترام المتبادل ، التي لا تتعرض فيها مصالح الأمة واستقلالها لابتراز وتأثيرات هذا الطريق أو ذاك ، وبهذا يكون الإمام قد حدّد معالم الشخصية المستقلة للأمة ، ووضعها على الطريق الصحيح ، وقطع كلّ علاقة مذلة لها بالآخرين .
اما مصطلح الاستكبار والمستكبرين والاستضعاف والمستضعفين ومصطلح الشيطان الأكبر ، فهي إن دلت على شيء فإنّما تدل على اهتمام الإمام بالرؤية القرآنية ، ولفت أنظار المسلمين الى ما لديهم من خزين معرفي وفكر سياسي يؤهلهم للتميز والتفرد ليس فقط في العمل والأداء السياسي ، وإنما في إطار التنظير والفكر السياسي القائم على أساس الاسلام والقرآن والسنة المطهرة .
وأخيراً وليس آخراً يظلّ الإمام الخميني وأفكاره السياسية التي بشّر بها وجسّد مقولاتها شاهداً شاخصاً على عظمة النظرية الاسلامية وقدرتها على التصدّي لقيادة الحياة في عصرنا الحاضر وفي المستقبل .