سخَّر معاوية جميع أجهزته للحطِّ من قيمة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين هم وديعة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و العصب الحساس في هذه الأمة . و قد استخدام أخطر الوسائل في محاربتهم ، و إقصائهم عن واقع الحياة الإسلامية ، و كان من بين ما استخدمه في ذلك ما يلي :
- أولاً : تسخير الوعاظ
فسخَّر معاوية الوعاظ في جميع أنحاء البلاد ، لِيحوِّلوا القلوب عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، و يذيعوا الأضاليل في انتقاصهم تدعيماً للحكم الأموي .
- ثانياً : استخدام معاهد التعليم
و استخدم معاوية معاهد التعليم و أجهزة الكتاتيب لتغذية الناشئين بِبُغضِ أهل البيت ( عليهم السلام ) ، و خلق جيل مُعادٍ لَهُم . و قد قامت تلك الأجهزة بدور خطير في بَثِّ روح الكراهية في نفوس الناشئين لِعِترة النبي ( صلى الله عليه و آله ) .
- ثالثاً : افتعال الأخبار
و أقام معاوية شبكة لوضع الأخبار ، و كانت تعد من أخطر الشبكات التخريبية في الإسلام . فعهد إليها بوضع الأحاديث على لِسَان النبي ( صلى الله عليه و آله ) لِلحَطِّ من قيمة أهل البيت ( عليهم السلام ) . أما الأعضاء البارزون الذين سخَّرهم معاوية في تلك الشبكات التخريبية فهم :
1 - أبو هريرة الدُّوسي .
2 - سمرة بن جندب .
3 - عمرو بن العاص .
4 - المغيرة بن شعبة .
و قد افتعلوا آلاف الأحاديث على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) . و قد كانت عِدَّة طوائف مختلفة ، و ذلك بحسب التخطيط السياسي للدولة ، هي :
- الطائفة الأولى :
وضع الأخبار في فضل الصحابة ، لجعلهم قِبَال أهل البيت ( عليهم السلام ) ، و قد عَدَّ الإمام الباقر ( عليه السلام ) أكثر من مِائة حديث منها :
1 - ( إنَّ عُمَر مُحدَّث ) ، - بصيغة المفعول - ، أي : تُحدِّثُه الملائكة .
2 - إن السَّكِينة تُنطق على لِسان عُمر .
3 - إنَّ عُمَر يُلقِّنُه المَلَك .
4 - إن المَلائكة لَتَستحي من عُثمان .
كما وضعوا في فضل الصحابة الأحاديث المماثلة للأحاديث النبوية في فضل العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) ، مثلاً : ( إنَّ سيدَي كُهول أهل الجنة أبو بكر و عمر ) . و قد قال ( صلى الله عليه و آله ) عن الحسن و الحسين ( عليهما السلام ) : ( الحَسن و الحُسَين سيدا شباب أهل الجنة ) .
- الطائفة الثانية :
وضع الأخبار في ذمِّ العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) ، و الحطِّ من شأنها . فقد أعطى معاوية سمرة بن جندب أربع مِائة ألف درهم على أن يخطب في أهل الشام ، و يروي لهم أن الآية الكريمة نزلت في الإمام علي ( عليه السلام ) ، و هي قوله تعالى : ( وَ مِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيوةِ الدُّنْيَا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَ إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ) ، ( البقرة 204 - 205 ) . فروى لهم سمرة ذلك ، و أخذ العِوَض الضخم من بيت مال المسلمين . و مِمَّا رووا أن النبي ( صلى الله عليه و آله ) قال في آل أبي طالب : ( آل أبي طالب ليسوا بأولياء لي ، إنما وليِّي اللهُ و صالحُ المؤمنينإن ) .
و روى الأعمش أنه لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة ( سنة 41 هـ ) جاء إلى مسجد الكوفة ، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جَثَا على ركبتيه ، ثم ضرب صَلعته مراراً ، و قال : ( يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و أحرق نفسي بالنار ؟!! ، لقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( إنَّ لكل نبيٍّ حَرماً ، و إِنَّ حَرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيهما حدثاً فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، و أشهد بالله أن عَلياً أحدث فيها ) ، فلما بلغ معاوية قوله ، أجازه و أكرمه ، و ولاَّه إمارة المدينة .
إلى كثير من أمثال هذه الموضوعات التي تقدح في العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) التي هي مصدر الوعي و الإحساس في العالم الإسلامي .
- الطائفة الثالثة :
افتعال الأخبار في فضل معاوية ، لمحو العار الذي لحقه و لحق أباه و أسرته في مناهضتهم للإسلام . و إخفاء ما أُثِر عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في ذَمِّهم ، وهذه بعض الأخبار المفتعلة :
1 - قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( معاوية بن أبي سفيان أحْلَم أُمَّتي وأجودها ) .
2 - قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( صاحبُ سِرِّي معاوية بن أبي سفيان ) .
3 - قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( اللَّهُمَّ عَلِّمهُ الكتاب - يعني معاوية - ، وقِهِ العذاب ، وأدخله الجنة ) .
4 - قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه ، فإنه أمين هذه الأمة ) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الموضوعة ، التي تعكس الصراع الفكري ضد الإسلام عند معاوية ، و أنه حاول جاهداً مَحْو هذا الدين والقضاء عليه . و قد امتُحِن المسلمون امتحاناً عسيراً بهذه الموضوعات التي دُوِّنت في كتب السنة ، و ظنَّ الكثيرون من المسلمين أنها حق . فأضفوا على معاوية ثوب القداسة ، و ألحقوه بالرعيل الأول من الصحابة المتحرِّجين في دينهم ، و هم من دون شَكٍّ لو علموا واقعها لتبرَّؤوا منها ، كما يقول المدايني . ولم تقتصر الموضوعات على تقديس معاوية و الحطِّ من شان أهل البيت ( عليهم السلام ) ، و إنما تدخلت في شؤون الشريعة ، فأُلصقت بها المتناقضات و المستحيلات ، مِمَّا شوَّهت الواقع الإسلامي ، وأفسدت عقائد المسلمين .
- سَبّ الإمام علي ( عليه السلام ) :
و تمادى معاوية في عدائه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأعلَنَ سَبَّه و لعنه في نواديه العامة و الخاصة ، و أوعز إلى جميع عُمَّاله و ولاته أن يذيعوا سَبَّه بين الناس . و سرى سَبُّ الإمام ( عليه السلام ) في جميع أنحاء العالم الإسلامي . وقد خطب معاوية في أهل الشام فقال لهم : ( أيها الناس ، إن رسول الله قال لي : إنك ستلي الخلافة من بعدي ، فاختر الأرض المقدَّسة - يعني الشام - ، فإن فيها الأبدال ، وقد اخترتكم ، فالعنوا أبا تراب ) . وعجَّ أهل الشام بِسَبِّ الإمام ( عليه السلام ) . وخطب أيضاً في أولئك الوحوش فقال لهم : ( ما ظنكم برجل - يعني : علياً - لا يصلح لأخيه - يعني : عقيلاً - ، يا أهل الشام ، إن أبا لهب المذموم في القرآن هو عم علي بن أبي طالب ) .
و يقول المؤرخون : إنه كان إذا خطب ختم خطابه بقوله : ( اللَّهم إن أبا تراب أَلْحَدَ في دينك ، وصَدَّ عن سبيلك ، فالعنه لعنا وبيلاً ، وعَذِّبه عذاباً أليما ) . و كان يُشاد بهذه الكلمات على المنابر ، و لما ولي معاوية المغيرة بن شعبة إمارة الكوفة ، كان أهم ما عهد إليه أن لا يتسامح في شتم الإمام ( عليه السلام ) ، و الترحُّم على عثمان ، و العيب لأصحاب علي و إقصائهم . و أقام المغيرة والياً على الكوفة سبع سنين ، و هو لا يدع ذمُّ علي ( عليه السلام ) و الوقوع فيه . و قد أراد معاوية بذلك أن يصرف القلوب عن الإمام ( عليه السلام ) ، و أن يحول بين الناس و بين مبادئه التي أصبحت تطارده في قصوره ، لأن مبادئه ( عليه السلام ) في الحكم ، و آراءه في السياسة ، كانت تنغِّصُ عليه - على معاوية - في موته ( عليه السلام ) ، كما كانت في حياته ( عليه السلام ) . لقد عادت اللَّعَنات التي كان يَصبُّها معاوية و ولاته على الإمام بإظهار فضائله ، فقد برز الإمام ( عليه السلام ) للناس أروع صفحة في تاريخ الإنسانية كلّها . و ظهر للمجتمع أنه المنادي الأول بحقوق الإنسان ، و المؤسس الأول للعدالة الاجتماعية في الأرض .
وقد انطوت السنون و الأحقاب ، وا ندكَّت مَعالم تلك الدول التي ناوئت الإمام ( عليه السلام ) ، سواء أكانت من بني أمية ، أم من بني العباس ، و لم يبق لها أثر . و بقى الإمام ( عليه السلام ) وحده قد احتلَّ قمة المجد ، فها هو رائد الإنسانية الأول ، و قائدها الأعلى . و إذا بحكمه ( عليه السلام ) القصير الأمد يصبح طغراء في حكام هذا الشرق . و إذا بالوثائق الرسمية التي أُثِرت عنه ( عليه السلام ) ، تصبح مناراً لكل حكم صالح ، يستهدف تحقيق القضايا المصيرية للشعوب . و إذا بحكم معاوية أصبح رمزاً للخيانة ، و العَمَالة ، و رمزاً لاضطهاد الشعوب و احتقارها .
- ستر فضائل أهل البيت ( عليهم السلام ) :
و حاول معاوية بجميع طاقاته حجب فضائل آل البيت ( عليهم السلام ) ، و ستر مآثرهم عن المسلمين ، و عدم إذاعة ما أُثِر عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في فضلهم . يقول المؤرخون ، إنه بعد عام الصلح حَجَّ معاوية بيت الله الحرام ، و إلتقى عبد الله بن عباس ، و قال له : إنا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي و أهل بيته ، فَكُفَّ لسانك يا بن عباس . فانبرى ابن عباس بفيض من منطقه و بليغ حُجَّته ، يُسدِّد سهاماً لمعاوية قائلاً : فتنهانا عن قراءة القرآن ؟
قال معاوية : لا .
فقال ابن عباس : فتنهانا عن تأويله ؟
قال معاوية : نعم .
فقال ابن عباس : فنقرأه ولا نسأل عَمَّا عنى اللهُ به ؟
قال معاوية : نعم .
فقال ابن عباس : فأيهما أوجب علينا ، قراءته أو العمل به ؟
قال معاوية : العمل به .
فقال ابن عباس : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا ؟
قال معاوية : اقرأوا القرآن ، و لا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم ، و مما قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيكم ، و ارووا ما سوى ذلك .
فسخر منه ابن عباس ، و تلا قوله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) ، ( التوبة 32 ) .و صاح به معاوية : ( اكفني نفسك ، و كفَّ عنِّي لسانك ، و إن كنت فاعلاً فليكن سِراً ، و لا تُسمِعُه أحداً علانية ) .
و دلَّت هذه المحاورة على عمق الوسائل التي اتَّخذها معاوية في مناهضته لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، و إخفاء مآثرهم ، حتى بلغ الحقد به على الإمام ( عليه السلام ) أنه لما ظهر عمرو بن العاص بِمِصر على محمد بن أبي بكر و قتله ، استولى على كُتُبه و مذكَّراته ، و كان من بينها عهد الإمام له ، و هو من أروع الوثائق السياسية ، فرفعه ابن العاص إلى معاوية ، فلما رآه قال لخاصَّته : ( إنا لا نقول هذا من كتب علي بن أبي طالب ، ولكن نقول ، هذا من كتب أبي بكر التي كانت عنده ) .
- التحرُّج من ذكر الإمام ( عليه السلام ) :
و أسرف الحكم الأموي إلى حَدٍّ بعيد في محاربة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقد عهد بقتل كل مولود يُسمَّى عَلياً ، فبلغ ذلك علي بن رياح فخاف ، و قال : لا أجعل في حِلٍّ من سَمَّاني عَلياً ، فإن اسمي : عُلِي - بضم العين - .
و يقول المؤرخون : ( إن العلماء و المحدِّثين تحرَّجوا من ذكر الإمام علي ( عليه السلام ) و الرواية عنه ، خوفاً من بني أمية ، فكانوا إذا أرادوا أن يرووا عنه يقولون : روى أبو زينب ) .
و روى معمر ، عن الزهري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : ( إنَّ الله عزَّ و جلَّ منع بني إسرائيل قطر السماء لسوء رأيهم في أنبيائهم ، و اختلافهم في دينهم ، و إنه أخذ على هذه الأمة بالسنين ، و منعهم قطر السماء ببغضهم علي بن أبي طالب ) .
قال معمر : حدثني الزهري في مَرْضَةٍ مَرِضَها ، و لم أسمعه يحدث عن عكرمة قبلها و لا بعدها ، فلما أبل من مرضه ندم على حديثه لي ،
و قال : يا يماني ، أكتم هذا الحديث واطوِهِ دوني ، فإن هؤلاء - يعني بني أمية - لا يعذرون أحداً في تقريض علي و ذكره .
هذه بعض المِحَن التي عاناها المسلمون في مَوَدَّتِهم لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، التي هي جزء من دينهم .