وفاة النبي ( ص ) و دفنه
لما قَفَلَ
النبي ( صلى الله عليه وآله ) راجعاً من مكة إلى المدينة المنورة ، بدأت صحته تنهار يوماً بعد يوم ، فقد أَلَمَّ به المرض ، و أصابته حُمّىً مبرحة ، حتى كأنَّ به لَهَباً منها .
و هرع المسلمون إلى عيادته ، و قد خَيَّم عليهم الأسى و الذهول ، فازدحمت حجرته بهم ، فنعى ( صلى الله عليه وآله ) إليهم نفسه ، و أوصاهم بما يضمن لهم السعادة و النجاه قائلاً :(
أيُّها الناس ، يوشك أن أُقبَضَ قَبضاً سريعاً فينطلق بي ، و قدمت إليكم القول معذرة إليكم ، أَلاَ إني مُخَلِّفٌ فيكم كتاب الله عزَّ و جلَّ و عترتي أهل بيتي ).
ثم أخذ ( صلى الله عليه وآله ) بيد وَصِيِّه ، و خليفته من بعده ،
الإمام علي ( عليه السلام ) قائلاً لهم :( هَذا عَلِيٌّ مَعَ القُرآن ، و القُرآنُ مَعَ عَلِيٍ ، لا يفترقان حتى يَرِدَا عَلَيَّ الحوض )
رَزِية يوم الخميس :
لقد استَشفَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) من التحركات السياسية ، التي صدرت من أعلام صحابته – كما في سَريَّة أُسَامة – أنهم يبغون
لأهل بيته ( عليهم السلام ) الغوائل ، و يتربّصون بهم الدوائر ، و أنهم مجمعون على صرف الخلافة عنهم .
فرأى ( صلى الله عليه وآله ) أن يصون أمّته من الزيغ ، و يحميها من الفتن ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) :(
اِئتُوني بالكَتفِ والدَوَاة أكتبُ لَكُم كِتاباً لَن تَضِلُّوا بَعدَهُ أَبَداً ) .
فَرَدَّ عليه أحدهم : حسبنا كتاب الله .
ولو كان هذا القائل يحتمل أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، سوف يوصي بحماية الثغور أو بالمحافظة على الشؤون الدينية لَمَا رَدَّ عليه بهذه الجُرأة ، ولكنّه عَلم قصد النبي ( صلى الله عليه وآله ) من النص على خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
و اشتدَّ الخلاف بين القوم ، فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، و طائفة أخرى أصرّت على معارضتها خوفاً على فوات مصالحها .
و بدا صراع رهيب بين القوم ، و كادت أن تفوز الجبهة ، التي أرادت تنفيذ ما أمر به الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لكن انبرى أحدهم فَسَدَّدَ سهماً لما رامه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إن النبي لَيَهجُر .
فقد أنسَتْهم الأطماع السياسية مقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، الذي زَكَّاه الله و عَصَمَهُ من الهَجر و غيره ، مما يُنقِص الناس .
أَوَلم يسمعوا كلام الله تعالى يُتلَى عليهم في آناء الليل و أطراف النهار ، و هو يُعلن تكامل النبي ( صلى الله عليه وآله ) و توازن شخصيته ، فقد قال تعالى :(
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَ مَا غَوَى * وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدَيدُ القُوَى ) ، ( النجم : 2 - 5 ) .
و قال تعالى :(
إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) ، ( التكوير : 19 - 22 ) .
فإن القوم ، قد وَعَوا آيات الكتاب في حَقِّ نَبِيِّهم ( صلى الله عليه وآله ) ، و لم يُخَامرهم شَكٌّ في عِصمَتِه و تكامل شخصيته ، لكن الأطماع السياسية دفعتهم إلى هذا الموقف الذي يَحِزُّ في نفس كل مسلم .
و كان ابن عباس ، إذا ذُكر هذا الحادث الرهيب ، يبكي حتى تسيل دموعه على خديه ، و يُصعِد آهاتَه ، و يقول : يوم الخميس ، و ما يوم الخميس ؟!! .
حَقاً إنها رزية الإسلام الكبرى ، فقد حيل بين المسلمين و بين سعادتهم وتقدمهم في ميادين الحق والعدل .
إلى جنّة المأوى :
وقد آن الوقت لتلك الروح العظيمة ، التي لم يخلق الله نظيراً لها فيما مضى من سالف الزمن ، و ما هو آتٍ أن تفارق هذه الحياة ، لِتَنعَم بِجِوار الله و لطفه .
فَهبط جبرائيل على النبي ( صلى الله عليه و آله ) فقال له :( يَا أَحمَدْ ، إِنَّ اللهَ قَدِ اشتَاقَ إِلَيكَ ) ، فاختار النبي ( صلى الله عليه و آله ) جِوارَ رَبِّهِ ، فأذِن لملك الموت بقبض روحه العظيمة .
و لما علم أهل البيت ( عليهم السلام ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سيفارقهم في هذه اللحظات خَفّوا إلى توديعه ، فجاء السبطان
الحسن و
الحسين ( عليهما السلام ) ، و ألقيا بأنفسهما عليه ( صلى الله عليه وآله ) و هما يذرفان الدموع ، و كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يُوَسِّعُهُمَا تقبيلاً .
فعندها أراد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، أن يُنَحِّيهِمَا فأبى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، و قال له :( دَعْهُمَا يَتَمَتَّعَانِ مِنِّي و أَتَمَتَّعُ مِنهُمَا ، فَسَتُصِيبهُمَا بَعدِي إِثْرَة ) .
ثم التفت ( صلى الله عليه و آله ) إلى عُوَّادِهِ فقال لهم : (
قَدْ خَلَّفْتُ فيكم كتابَ الله و عترتي أهل بيتي ، فَالمُضَيِّع لِكِتَابِ الله كَالمُضَيِّع لِسُنَّتِي ، وَ المُضَيِّع لِسُنَّتِي كالمُضَيِّع لِعَترَتِي ، إِنَّهُمَا لَن يَفترِقَا حَتى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ ) .
و قال لِوصيِّه ، و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( ضَعْ رأسي في حِجرِكَ ، فقد جَاءَكَ أمرُ الله ، فإِذا فاضت نَفسي فتناوَلْهَا و امسح بها وجهَك ، ثُمَّ وَجِّهْني إلى القبلة وَتَ ولَّ أمرِي ، وَصَلِّ عَلَيَّ أوَّل النَّاس ، وَ لا تُفَارِقني حتى تُوَارينِي في رمسي ، وَ استَعِنْ بِاللهِ عَزَّ وَجلَّ ) .
فأخذ أمير المؤمنين رأس النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوضعه في حجره ، وَ مَدَّ يَدَه اليمنى تحت حَنَكَه ، و قد شَرعَ مَلك الموت بقبض روحه الطاهرة و الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يُعاني آلامَ الموتِ و شِدَّةَ الفَزَع ، حتى فاضَتْ روحُهُ الزكيَّة ، فَمَسحَ بِهَا الإِمَامُ ( عليه السلام ) وجهه .
و وجم المسلمون ، و طاشت أحلامهم ، و عَلاهُم الفزع و الجزع و الذعر ، و هَرعت نساء المسلمين ، و قد وَضعْنَ أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) الجَلابِيب عن رؤوسهن يلتدمن صدورهن ، و نساء الأنصار قد ذَبُلَت نفوسُهُن من الحزن ، و هُنَّ يضرِبْنَ الوجوه ، حتى ذُبِحَت حُلوقَهُنَّ من الصيَاح .
و كان أكثرُ أهل بيته ( صلى الله عليه وآله ) لوعة ، و أشَدُّهم حزناً بضعتَهُ الطاهرة
فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، فقد وقعت على جثمانه ( صلى الله عليه وآله ) و هي تبكي أَمَرَّ البكاء و أقْسَاه .
تجهيزه ( صلى الله عليه وآله ) :
تَولَّى الإمام علي ( عليه السلام ) تجهيز النبي ( صلى الله عليه وآله ) و لم يشاركه أحد فيه ، فقام ( عليه السلام ) في تغسيله ( صلى الله عليه وآله ) ، و هو يقول :( بِأَبي أنتَ و أُمِّي يا رسول الله ، طِبْتَ حَياً وَ مَيِّتاً ) .
وبعدما فرغ ( عليه السلام ) من غُسله ( صلى الله عليه وآله ) أدَرجَهُ في أكفانه ووضعه على السرير .
الصلاة عليه ( صلى الله عليه وآله ) :
و أوَّل من صلَّى على الجثمان المقدّس ، هو الإمام علي ( عليه السلام ) ، و أقبل المسلمون للصلاة على جثمان نَبِيِّهم ، و أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واقف إلى جانب الجثمان ، و هو يقول :( السَّلامُ عَليكَ أَيُّهَا النَّبي و رحمة الله و بركاته ، اللَّهُمَّ إنا نَشهدُ أَنَّهُ : قد بَلَّغ ما أُنزِلَ إِليه ، وَ نَصحَ لأُمَّتِه ، و جاهد في سبيل الله حتى أعزَّ اللهُ دينَه و تَمَّت كلمتُه ، اللَّهُمَّ فَاجْعَلنا مِمَّن يتبع ما أُنزِل إليه ، وثَبِّتنَا بعده ، و اجمَعْ بيننا و بينَه ) . و كان الناس يقولون ( آمين ) .
دفنه ( صلى الله عليه وآله ) :
و بعد أن فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم ، و ودّعوه الوداع الأخير ، قام الإمام علي ( عليه السلام ) فوارى الجثمان المقدّس في مثواه الأخير ، و وقف على حافة القبر ، و هو يروي ترابه بماء عينيه ، و قال بصوت خافت حزين النبرات : ( إنَّ الصبر لَجَميل إلا عنك ، و إنَّ الجزع لَقَبيح إلا عليك ، و إنَّ المُصابَ بك لَجَليل ، و إِنَّه قَبلَكَ وبَعدَكَ لَجَلَل ) .
و كانت وفاته ( صلى الله عليه وآله ) في ( 28 ) من صفر 11 هـ ، فإنَّا لله و إنّا إليه راجعون .