المثل الثاني والعشرون: التقوى جواز دخول الجنة
يقول الله تعالى في الآية 35 من سورة الرعد: ( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقوا وعُقبى الكَافِرِيْنَ النَّارُ ) .
تصوير البحث
الآية السابقة، رغم بساطة ظاهرها، تعدّ من أعقد الأمثال القرآنية، إنها بتّت بتشبيه الجنة - التي هي مأوى المتقين - وذكرت لها ثلاث خصال.
الشرح والتفسير
إنَّ التشبيه المستخدم في الآية يبدو تشبيهاً بسيطاً، إلاّ أنَّه في الواقع - كما قلنا سابقاً - من أعقد التشابيه المستخدمة في القرآن المجيد.
يعتقد المفسّرون أنَّ في الآية شيئاً محذوفاً، وهو جملة يجب تقديرها إمَّا في بداية الآية لكي تتلقى الآية خبراً للمبتدأ المحذوف، أو أن نقول بأنَّ صدر الآية مبتدأ، وخبرها محذوف.
نعتقد نحن أنَّ خبر الآية محذوف، ولأجل اتضاح الأمر نقدّم مقدمة:
المراحل الأربع قبل الولادة
إن الإنسان يجتاز أربع مراحل ليكتمل ويكون إنساناً. في البداية يكون الإنسان عبارة عن تراب تنمو فيه نبتة أو شجرة، فيصبح هذا التراب جزءاً من النبات، يأكل حيوان ما هذا النبات ليصبح جزاءاً من بدنه، يتناول الإنسان لحم هذا الحيوان فيصبح لحم الحيوان هذا جزءاً من بدن الإنسان.
يمكن بيان المراحل الأربع هذه بشكل آخر بأن نقول: إن الإنسان كان تراباً في يوم من الإيام (المرحلة الأولى) ومن الطبيعي أن الإنسان لا يمكنه تناول التراب مباشرة بل ما تبدّل منه إلى نبات أو حيوان (المرحلة الثانية) في (المرحلة الثالثة) يتبدل النبات أو الحيوان إلى نطفة إنسانية. الجنين في مراحله الأولى ينمو نمواً نباتياً; لأنه يفقد الحس والحركة، فهو ينمو فقط، وبعد الشهر الرابع حيث يكون قادراً على الحركة والحس، و عندها تبدأ (المرحلة الرابعة)، وهي تستمر حتى تعلّق الروح بالجنين. إنّ لهذه المراحل الأربع عجائب كثيرة، والمرحلة الجنينية من أعجبها.
عجائب من عالم الجنين
استطاع العلماء اليوم إعداد صور حيّة عن الجنين، وصنع فيلم مدّته نصف ساعة يصوّر المراحل الجنينية جميعها، وهذا الفيلم بمثابة هدية عجيبة قدّمت للإنسانية في عصرنا الحالي.
كيف استطاع الله خلق هذه العجائب كلها؟ نلفت انتباهكم إلى نموذجين من هذه العجائب.
1- نطفة الإنسان تبدأ من خلية واحدة، ثم تنتصف هذه الخلية لتصبح اثنين، وكلٌّ من هذين الخليتين ينتصفان كذلك لتصبح الخلايا أربعاً، ويستمر الانقسام هكذا بشكل تصاعدي. إنّ هذا التكاثر في الخلايا يستمر حتى تتكون خلايا متشابهة بالكامل وتنقسم حيندئذ إلى مجاميع. بعض منها يتكفل بخلق رأس الإنسان وبعض يؤمر بخلق العين أو اليد أو الرجل أو غير ذلك.
إنَّ هذه الخلايا جميعاً متشابهة لكن كيف حصل أن تخصصت البعض في صنع اليد والبعض الآخر بصنع الرجل؟ من أمر هذه الخلايا بالصنع المختلف رغم التشابه الموجود فيها؟ كيف تلهم هذه الخلايا؟ ومن الذي ألهمها هذه القابلية؟! لم يستطع أحد الكشف عن هذه الأسرار بعد.
2- إنَّ الجنين في بطن أمه يسبح في كيس خاص مليء بسائل غليظ وزنه يعادل وزن الطفل تقريباً. وعلى هذا، فالجنين لا يضغط بشكل مباشر على جسم الأم، كما أنَّ الأُم لا تحمّل الطفل ضغطاً مباشراً. يا ترى ما يحدث لو لم يكن ذلك الكيس؟
كيف يمكن للجنين أن يحافظ على نفسه ويستمر في حياته رغم ظرافته ونعومته ورغم ما يتعّرض له من ضربات تنشأ عن الجلسة الخاصة للأُم أو نومها في اتجاهات مختلفة؟
أعدَّ الله العالم القادر محيطاً وبيئة للجنين تشبه حالة الإنسان عند فقدان الجاذبية، بحيث لا يتأثر بالضغط إذا تعرض له مهما كان اتجاهه، ولهذا عندما يلد يشعر بالوزن، الأمر الذي يحرّضه على الصراخ والصياح.
إنَّ كيس السائل هو أفضل مكان للجنين. فإنَّ هذا الكيس يصدّ الضربات من أي اتجاه وردت، كما أنَّه يعدّل درجة الحرارة، بحيث إنَّ الام اذا تعرّضت للحرارة الشديدة أو البرودة الشديدة سوف لا تنتقل هذه الحرارة أو البرودة إلى الجنين مباشرة، بل ينتقلان إلى الجنين بعد مرورهما بالسائل الموجودة في الكيس ودور السائل هنا هو تعديل درجة الحرارة ونقلها بعد ذلك لجسم الجنين.
وعلى هذا الأساس، يقول الله في الآية السادسة من سورة الزمر: ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاج يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْق فِي ظُلُمَات ثَلاث ذلِكُم اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ ) . (1)
مراحل كمال الإنسان الأربع
لاجل بلوغ الكمال، على الإنسان أن يطوي أربع مراحل أو عوالم:
1 - عالم رحم الاُم.
2 - عالم الدنيا.
3 - عالم البرزخ.
4 - عالم القيامة.
والمدهش هنا أنَّ الإنسان يجتاز كل مرحلة، وهو لا يعلم بالضبط بما تضمّ وتؤول إليه المرحلة اللاحقة. إنَّ الطفل في رحم الام لا يمكنه تصوّر مفاهيم الدنيا، حتى لو كان له عقل وذكاء كذكاء وفهم ابو علي ابن سيناء، وحتى لو استطاع أن يتواصل مع امه لتحكي له عن القمر والشمس والليل والنهار والنجوم والاشجار والأزهار والنباتات، وقد استطاعت أن تبيّن له هذه الأمور بأفصح بيان وأبلغه، رغم ذلك فهو سوف لا يفهم شيئاً. إنَّ مثلنا نحن بالنسبة إلى البرزخ كمثل هذا الطفل بالنسبة إلى الحياة الدنيا، نحن سمعنا بوجود عالم باسم البرزخ قطعاً، لكن ما هي الف باء تلك الحياة؟ ما معنى أنّ الشهداء هناك أحياء؟ كيف أنهم يرزقون في ذلك العالم؟ كيف يعذّب الله الروح أو ينعم عليها؟
نحن لا ندرك أياً من هذه الامور. إنّ بعض اولياء الله استطاع أن يتصل بعالم البرزخ فسأل أهل البرزخ عن ذلك العالم فأجابوه لا يمكننا وصف هذا العالم بالألفاظ والمفاهيم التي تدركونها انتم في الحياة الدنيا. إنّ مثل مفاهيم البرزخ وألفاظ الدنيا كمثل المصفاة والماء، وهل يتوقف الماء في المصفاة؟!
إنَّ موقف البرزخيين تجاه مفاهيم القيامة كموقفنا تجاه البرزخ لا يمكنهم استيعاب نعم الجنة، كما لا يمكنهم استيعاب أنواع العذاب في جهنّم.
وعلى هذا الأساس، تقول الآية الشريفة 17 من سورة السجدة: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
إذا أخذنا مفردة (نفس) باطلاقها كانت شاملة للأنبياء والائمة - صلوات الله عليهم أجمعين - وذلك يعني هؤلاء أيضاً لا يعلمون ما أُعدَّ للمؤمنين من نعم في الجنة.
جاء في حديث قدسي ما يلي: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».(2)
أي أنَّها نعم لم ترَ في المنام ولا في اليقظة ولا في عالم الخيال ولا التصور، وذلك لأنّ عالم القيامة لا يمكن استيعابه.
وعلى هذا، فمن جهة أنَّ مفاهيم عالم القيامة مفاهيم لا يمكن استيعابها وإدراكها، ومن جهة أخرى ينبغي بيان نعم الجنة وعذاب الآخرة بشكل يسوق البشر نحو الأعمال الحسنة ويبعدهم عن الأعمال السيئة.
من هنا كان توصيف وبيان هذه الحالات والأعمال بالالفاظ الدنيوية أمراً مستحيلا ولا يمكن بيانها بوضوح، لذلك كان علينا مزاولة هذا العمل باستخدام المفاهيم الدنيوية المشابهة لتلك المفاهيم والألفاظ الأقرب لهذا البيان، لترتسم بذلك صور قريبة لواقع النعم والعذاب الاخروي.
كمثال على ذلك، عندما يقال بأنَّ في الجنة أشجاراً، فإنّه لا يمكن القياس والمقارنة بين فوائد الأشجار في العالمين. وبالنسبة إلى تفسير الآية 54 من سورة الرحمن ( وَجَنَى الجَنّتَيْنِ دَان ) فيقال: إنَّ ثمار أشجار الجنة قريبة غير بعيدة بحيث تكون سهلة الوصول. وفي تفسير الآية 48 من السورة المذكورة ( ذَوَاتَا أفْنَان ) يقال: إنّ الغصن الواحد يضمّ ثماراً مختلفة، لكن لا يعرف أنَّ الثمار هناك هي نفسها التي هنا.
أو أنَّ أصحاب الجنة إذا ما أرادوا الاصغاء إلى الأنغام والموسيقى، أخذت غصون الاشجار تتلاطم وتخرج من نفسها أصواتاً وأنغاماً.
وعلى هذا، فنحن ندرك وجوه الشبه بين أشجار الدنيا والآخرة، لكنا لا ندرك ولا نشعر بها ولا بما يتولد من أنغام وموسيقى وثمار.
إيضاح
مع الالتفات إلى المقدمة، فإنَّ الآية من جملة الآيات التي هي في صدد عرض تشابيه للجنة، وبيان أو ترسيم موقع المتقين فيها. من هنا كان خبر الآية محذوفاً، أي أنَّ الآية كانت بهذا الشكل: ( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كجنة تََجْرِي... ) أي أنَّ في الجنة بساتين ليست مثل بساتين دنيانا; لأنّه أولا: أن منابع المياه فيها ذاتية وتلقائية، وتوجد عين قرب كل شجرة ولا حاجة لتأمين المياه من الخارج. ثانياً: أنَّ ثمار الجنة دائمية وفي جميع الفصول. ثالثاً: أنَّ ظل الاشجار هناك دائمي وخالد، أي أنَّ أوراق الاشجار لا تتساقط أبداً.
الخطابات المهمة للآية
المستفاد من الآيات العديدة هو كون التقوى هو مقياس الثواب الإلهي في الآخرة.
في مجال التقوى دوّنت البحوث الكثيرة، ولأجل الاستيعاب الأكثر لهذا المضمون، الذي هو جواز دخول الجنة وميزان قيمة الإنسان وزاده في الآخرة نشير إلى روايتين وردتا هنا:
1 - يقول الرسول في حديث مختصر وذات مغزى عميق في نفس الوقت: «تمام التقوى أن تتعلّم ما جهلت وتعمل بما علمت».(3)
بناءً على هذه الرواية، لا يُعدُّ الجهل عذراً، بل على الإنسان أن يتعلّم ما يجهل ليعمل بما علم ويُعاتب الذين يبرّرون أعمالهم بأنهم جهال، ويقال لهم: لماذا لم تتعلموا؟(4)
2 - يقول الإمام علي(عليه السلام) في حديث مختصر ومميّز: «من ملك شهوته كان تقياً».(5)
إنَّ الإنسان بتقواه يتمالك غضبه وشهوته وحب الجاه والمقام وحب الشهرة والتطرّف و... فهو سيتحكم بهذه الامور جميعاً.
إنَّ هذين الروايتين يعرضان تعريفاً جميلا وجامعاً ومفهوماً للتقوى، ينبغي السعي والعمل لأجل تحقيق ما ورد في هذين الروايتين الشريفتين وبخاصة في شهر رمضان المبارك; باعتبار أنَّ التقوى هي جواز دخول الجنّة وزاد الآخرة.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
.1قد أشارت الآية 14 من سورة المؤمنون إلى نفس المضمون.
2. ميزان الحكمة، الباب 546، الحديث 2529.
3. ميزان الحكمة، الباب 4173، الحديث 22179.
4. بحار الانوار 2:29 و 180، 7:285.
5. ميزان الحكمة، الباب 4173، الحديث 22174.
المثل الحادي والعشرون: الحق والباطل
المثل العشرون: الذين يدعون من دون الله
المثل التاسع عشر: الكافر والمؤمن