• عدد المراجعات :
  • 5828
  • 7/29/2006
  • تاريخ :

المثل العشرون: الذين يدعون من دون الله

القرآن الکريم

يقول الله في الآية 14 من سورة الرعد: ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاّ فِي ضَلال ) .

تصوير البحث

إنّ آية المثل درست قضية الدعاء والتوسّل، وهي تسعى لتعليم الإنسان إلى مَن يمدّ يده ؟ ثم مثَّلت أولئك الذين يطرقون أبواب المخلوقات دون خالقهم طالبين حاجاتهم بمن بسط يديه إلى الماء....

سؤال:

قبل البتِّ بشرح وتفسير آية المثل ينبغي التساؤل عن سبب عدم التطرّق إلى بعض الأمثال التي جاءت قبل سورة الرعد، مثل الآية الشريفة 32 من سورة المائدة التي اعتبرت قتل النفس البريئة بمثابة قتل الناس جميعاً واحياء نفس بريئة بمثابة احياء الناس جميعاً. فإنّ فيها تشبيهاً وتمثيلا نوعاً ما، فَلِم لم تأت في البحث.

الجواب:

في القرآن امثال وتشابيه كثيرة، لكن بحثنا في الامثال القرآنية لا التشابيه.

إنَّ التشبيه هو تنظير شيء بشيء كأن يقال: (إن حسن كالأسد). فهذا تشبيه وليس مثلا،

أما المثل فهو تجسيد وبيان لقصة أو جماعة أو قضية أو مطلب عقلي ليس في متناول أذهان الناس، كما لو أنَّ الله أراد بيان قضية الحق والباطل وهما قضيتان غير حسية مثّلهما بالمطر والسيل والزبد الذي يتجمع على الماء، فيمثّل الحق بالماء والباطل بالزبد، من حيث أنّ الزبد رغم ابهته وارتفاعه وظهوره إلاّ أنه أجوف ويتلاشى بسرعة... وبناءً على هذا الايضاح فقد حصلنا على معيار كلي للتمييز بين الأمثال والتشابيه.

البرق والسحب الثّقال

لأجل الاستيعاب الأفضل للمثل المذكور علينا شرح الآيات 12 و 13 من سورة الرعد باقتضاب.

يقول الله تعالى في الآية 12 من سورة الرعد: ( هُوَ الَّذِي يَرُيْكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنْشِأُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) .

إنّ البرق من آثار عظمة الله تعالى، فهو يزرع الأمل في نفس الإنسان كما يزرع الخوف والقلق.

إنّ البرق يبشّر الناس بهدية المطر الإلهية; وذلك لأن الرعد والبرق يتسببان في نزول الكثير من المطر.

كيف يسبب البرق نزول المطر؟

اصطدام السحب التي تحمل شحنات كهربائية متضادة يوجد حرارة تقدّر بخمسة عشر ألف درجة سانتيغراد. إن هذه الحرارة تحرق الهواء المحيط بها وبذلك يقل ضغط الجو الأمر الذي يؤدي إلى هبوط المطر. من جانب آخر قد يتبلور البرق على شكل صاعقة فيحرق حينئذ ما يصطدم به من الغابات والقرى والاشخاص والحيوانات والمزارع، وهذا هو الذي ينجم عنه خوف الإنسان.

( وَيُنْشِأُ السِّحَابَ الثِّقَالَ ) قد يتصور كثير من الناس أنَّ السُّحُب لا تختلف، وهي تعمل على وتيرة واحدة، مع أنَّ الحقيقة شيء آخر، وهي تختلف عن بعضها الآخر كثيراً.

ممّا تختلف فيه السحب هو أنّها تنقسم إلى ثقال وخفاف، والثقال تتموقع في جوّ أقرب إلى سطح الأرض، أمَّا الخفاف ففي جوّ مرتفع أكثر عن سطح الأرض، وسبب اقتراب الثقال هو كثرة الرطوبة والماء فيها، الأمر الذي يمنعها من التصاعد إلى أجواء أبعد.

الرعد دليل على عظمة الله

يقول الله تعالى في الآية 13 من سورة الرعد: ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيْدُ المِحَالِ ) .

تشير الآية الشريفة إلى موضوعين، أحدهما: الرعد، والثاني: الصواعق. وبما أنَّا تناولنا موضوع الصواعق في البحوث السابقة لذا نخص بحثنا هنا بالرعد.

لقد قلنا سابقاً: إنَّ اصطدام سحب ذوات شحنات كهربائية مختلفة تولّد قدحة ضوئية وصوت، فالنور يقال له: برق، أما الصوت فيقال له: رعد. إنَّ الصوت والضوء يحصلان في وقت واحد، لكن بما أنَّ سرعة الضوء أسرع من الصوت بمرات، لذلك يصلنا الضوء قبل أن يصلنا صوت الاصطدام.

رغم ما يبدو من بساطة في ظاهرة الرعد، إلاّ أنّه يُعد من آيات الله العظمى، وله تأثير مهم على حياة جميع الموجودات.

لقد ذكر العلماء آثاراً كثيرة للرعد والبرق نشير هنا إلى أهمها:

1 - هطول الأمطار هي أول فوائد الرعد والبرق، وهي فائدة تعم جميع الموجودات سواء الإنسان أو الحيوان أو النباتات أو الجمادات.

2 - يقتل الرعد والبرق بعض الآفات النباتية; وذلك لأنَّ الحرارة التي توجد من خلال هذين الظاهرتين تسبب أكسجة الماء أي خلق ماء مؤكسج يتكون من ذرتين من الأوكسجين بدل ذرة واحدة مع ذرتين من الهيدروجين. ومن فوائد هذا الماء أنه من المطهرات ويمكنه قتل بعض الآفات والموجودات المضرة. إنَّ هذا الماء متوفّر في الصيدليات ويستخدم لغرض التطهير. وكلما زادت ظاهرتا الرعد والبرق كلّما قلت الآفات النباتية.

الفائدة الاخرى للرعد والبرق هو انتاج الكثير من الاسمدة للنباتات. إنّ هذين الظاهرتين

تنتجان كل عام عشرات الملايين من الاطنان من الأسمدة القوية والمفيدة والمؤثرة على جميع النباتات.

طريقة ايجاد هذه الاسمدة هو أنَّ الحرارة الناشئة عن الرعد والبرق تسبب تركيب الماء بذرات الكاربون فينتج أوكسيد الكاربون، وعندما يهبط هذا الاوكسيد على الأرض يتركب مع الاتربة فينتج نوعاً من السماد المفيد والقوي والمؤثر.

نعم، إنَّ الرعد والبرق لهما هذه الآثار، وهما من آيات الله العظمى. والمدهش أنَّ الله كشف عن هذه الأسرار العلمية في وقت لم تخطر في ذهن الإنسان هذه الامور أبداً.

طبقاً للآية الشريفة، الرعد يحمد الله ويسبّح له، والتسبيح هنا يعني تنزيه الله من أي عيب ونقص، ألم يكن قتل الآفات النباتية تنزيهاً لله من كل عيب ونقص؟ أليست هذه الظاهرة تسبيحاً لله نوعاً ما؟

إنَّ الرعد يحمد الله على صفاته وجلاله وجماله. ألم تكن تغذيه النباتات نوعاً من الحمد والثناء لله في عالم الممكنات والمخلوقات؟

لا شكَّ أنَّ الآيات 12 و 13 تشير إلى هذه النقطة وتعدّها من وجوه عظمة الخالق.

الخلاصة: أنَّ الآيتين أشارتا إلى بعض من الآيات الإلهية المهمة، أي الرعد والبرق والمطر والصاعقة.

الشرح والتفسير

(لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ ) يختلف المفسرون في المراد من هذه الجملة، فالبعض يرى أنها تعني التوحيد، والتوحيد خاص بذاته تعالى.

ويعتقد بعض آخر أنَّ المراد منها هو القرآن المجيد، فهي تشير إلى هذا الكتاب الإلهي.

وكثير من المفسرين فسَّرها بالدعاء، أي إذا أراد الإنسان أن يستجاب دعاؤه دعى الله خالصاً، فغيره لا يحلّ شيئاً من المشاكل بل الله هو الوحيد القادر على استجابة الدعاء وحل المشاكل.

والشاهد على هذا الرأي (الرأي الثالث) الذي نحن نذهب إليه هو ذيل الآية، حيث تقول: ( وَمَا دُعَاءُ الكَافِرينَ إلاّ فِي ضَلاَل ) .

إنَّ سبب كون دعاء الكافرين في ضلال هو أنَّهم يسألون من لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه، ولا يستطيع كسب منفعة لنفسه فضلا عن نفعه الآخرين.

( والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُوْنِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) إنّ شاهد حديثنا في المثل العشرين هو هذا الجزء من الآية.

إن الذين يدعون غير الله ويقصدون معابد الاصنام ويتوسلون بها لأجل حلّ مشاكلهم، فمشاكلهم سوف لا تُحل. ومثل إنسان كهذا مثل الذي يبسط يده ويمدها ليأخذ الماء ويشرب، وهو لا يستطيع من خلال هذا العمل شرب الماء أبداً.

اختلف المفسرون في تفسير ( كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَآءِ... ) نشير إلى أقوالهم هنا:

1 - المراد منها هو شخص عطشان يريد إرواء عطشه فيقصد بئراً ليس فيه حبل ولا دلو، وعمق البئر كثير جداً، فيبسط هذا الشخص يديه في البئر، لكن يديه لا تمتدان إلى أكثر من متر واحد. ولا شك أنَّ شخصاً مثل هذا سوف لا يبلغ هدفه ولا يروي عطشه.

2 - مراد الآية هو الشخص الذي يقف بجنب البئر ويشير للماء لكي يصعد ويشرب منه. ومن الواضح أن الماء هنا لا يُنال بالاشارة إليه، بل هناك حاجة واقعية لوسيلة ترفعه.

نعم، دعاء الكافرين عند معبد الأصنام ضلال، وحالهم حال إنسان كهذا.

3 - إنَّ (باسط) تعني الذي يفتح يديه ولا يحنيهما بحيث يتمكن الاغتراف بهما. فإنَّ هذا الشخص يذهب إلى جنب الماء ويغترف منه بيديه حال كونه فاتح يديه وباسطهما، وهو أمر لا يوفّر له الماء فيضطر للابتعاد عن مصدر الماء، وهو عطشان.

نرى أنَّ التفسير الأوّل هو أنسب الثلاثة، رغم إمكانية القول بأنّ الثلاثة صحيحة وكلها تبيّن مراداً واحداً; وذلك لانَّا نعتقد بامكانية استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد.(1)

وعلى ما تقدم علينا - لأجل حل المشاكل - أن لا نطرق غير باب الله، بل نقصد بابه منذ البداية، فهو الخالق والرازق والمحيي والمييت وهو حلاّل المشاكل وكل شيء بيده. اما غيره فلا شيء بيده; لأنّه ما من موجود إلاّ وهو يحتاج إلى الله الغني، فالكل يحتاج إليه فكل شيء عاجز، وهو القادر، وكل شيء ضعيف، وهو القوي والقادر المطلق، فلا يصح الذهاب لا لمعبد الأصنام فحسب بل لكل شيء غير الله.

خطابات الآية

1 - هل التوسّل  بالمعصومين(عليهم السلام) شرك؟

وبعبارة اُخرى: هل أنَّ الأدعية والتوسلات بالأئمة تشملها الآية الشريفة وينهى عنها الشارع المقدس وينبغي الاجتناب عنها؟

نقول جواباً عن التساؤل الماضي: إنَّ التوجه لهؤلاء العظماء لا يعني طلبنا منهم حل المشاكل بشكل مباشر، بل نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ويبحثوا لنا عن حلّ لنا من الله القادر المطلق; وذلك لأنّا نعتقد أنَّ هؤلاء إذا استطاعوا فعل شيء فبأذن من الله. أما الوهابيون الذين ينسبون لنا الشرك والكفر لأجل هذه الأدعية والتوسلات فانّهم على خطأ، وهم لا يعرفون المعنى الحقيقي للشرك والكفر، كما أنَّهم لم يستوعبوا ماهية التوسل الذي عند الشيعة.

في رحلتي لمكة والمدينة عام 1419 هـ.ق التي كانت لغرض أداء العمرة، حضرت صلاة الجمعة في اليوم الثاني والعشرين من شعبان في المسجد الحرام، وكنت أصغي لما يقول الخطيب. والمدهش هنا أنَّ الخطيب كان يقرأ عن ورقة قد أعدّها من ذي قبل، يبدو أنّه ما كان مجازاً لإضافة او تنقيص ولو كلمة واحدة، فتذكرت خطبة الجمعة في مدن ايران ومدى ما يتمتع به الخطيب من حرية التعبير والتحليل. وعلى أي حال هاجم هذا الخطيب في أثناء خطبته اولئك الذين يتوسلون عند القبور المشرّفة ورماهم بالشرك والكفر.

بالطبع لم نسكت أمام هجوم هذا الخطيب، بل كتبنا رسالة إلى زعماء السعودية اعترضنا فيها عما تفوّه به هذا الشخص.

إنَّ الذين يعتقدون بالدعاء والتوسّل لا يعتبرون أولياء الله شركاء لله، بل شفعاء عنده. وبعبارة اُخرى: أنَّ اعتقادنا هو تجسيد للآية الشريفة (المائدة 110) التي تحدّثت عن

السيد المسيح (على نبينا وآله وعليه السلام) ( وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كِهْيئَةِ الطَّيْر بإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإذْنِي وَتُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي... ) .

في هذه الآية نسب الخلق والاحياء والشفاء كلها للسيد المسيح(عليه السلام) لكن بإذن من الله تعالى.(2)

والشيعة لا تقول شيئاً غير هذا الذي في الآية الكريمة، فالشيعة تعتقد أنَّ العظماء والأولياء يمكنهم فعل الكثير الذي يعجز عنه البشر لكن باذن الله، كما يمكنهم أن يشفعوا للعباد عند الله لحل مشاكلهم. وعلى هذا فدعاء الشيعة وتوسلهم لا شرك ولا كفر.

ومع هذه الايضاحات نقول: إنَّ الذي يعدُّ الشيعة لاجل دعائهم وتوسلهم مشركين، فهو يعدُّ السيد المسيح مشركاً كذلك.

ويمكننا أن نستفيد مما سبق ضمنياً أن المعجزة قد لا تحصل بدعاء النبي وإجابة الله مباشرة، بل قد تكون من النبيّ أو الولي مباشرة لكن بإذن من الله تعالى كما هو الحال بالنسبة لمعجزة شق القمر(3) التي صدرت عن رسولنا(صلى الله عليه وآله)، وهذا أمر غير مستبعد.

2 - الصور المختلفة لعبادة الأصنام

لعبادة الاصنام تاريخ طويل واشكال مختلفة، فقد تكون بشكل صنم يُصنع بأيدي الناس من الحجر أو الخشب أو الفلز بل وحتى من الاغذية، ثم يقع لها الإنسان ساجداّ وعابداً.

في برهة من الزمن كان المشركون يقدمون على انتخاب موجودات غير ذات شعور يعتبرونها أصناماً للعبادة، لذلك عبد البعض الشمس، والآخر النجوم أو القمر،(4) بل انّ البعض أقدم على عبادة أنهار أو بحيرات مهمة مثل نهر النيل أو بحيرة ساوة في ايران، وقد يكون جفاف بحيرة ساوه وانطفاء معبد فارس عند ولادة الرسول(5) بسبب أنها كانت معابد للإنسان آنذاك.

وفي بعض من بقاع العالم كان البعض يعبد الاشجار وبخاصة شجرة الصنوبر التي كانت منذ القدم معبوداً لمجموعة من الناس. من هنا اعتقد بعض المفسرين أنَّ (أصحاب الأيكة) هم أنفسهم عبدة شجرة الصنوبر الذين كانوا منشأ لخرافة (سيزده به در) أي الثالث عشر من بداية السنة الشمسية.

وفي زمن كانت الحيوانات آلهة لبعض من الناس. ومِمّا يؤسف له أنّ هذا النوع من العبادة لا زال موجوداً في بعض المناطق من الهند.

وقد ألّه البعض أشخاصاً من البشر، كما هو الحال بالنسبة لفرعون حيث كان البعض يعبده كربّ لهم، ويقول القرآن المجيد نقلا عن فرعون نفسه: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيُّهَا المَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي )(6) وقد ألّه البعض الملائكة في بعض الأحيان.

يقول أحد المؤرخين: (كل شيء في العالم قد تألّه، وكان يُعبدُ في يوم ما ونحن لا نعرف شيئاً لم يتألَّه ولم يُعبد في يوم من الأيام).

على كل حال، أنَّ ما يجمع عبادة الأصنام هو التوجه إلى ما سوى الله والغفلة عن الله رب العالمين، وقد جاء على لسان بعض العظماء: (كلّ ما شغلك عن الله فهو صنمك). من هنا عُدَّ المال والبنون والمرأة والثروة والمقام والصديق وكل شيء يغفلنا عن الله صنماً.

القرآن قد شطب على كل شيء سوى الله، ولا يرى أهلية العبادة لغير ذاته الحقة، فإنَّ جميع المخلوقات فقيرة وتحتاجه وتفتقر فيضه في كل آن ولحظة، ليس في بداية الخلق فحسب بل لادامة الحياة واستمراريتها كذلك.

إنّ مثل حاجة الإنسان إلى الله كمثل حاجة المصباح إلى مولد الكهرباء، فكما أنَّ المصباح يحتاج إلى المولد في كل لحظة ما دام متقداً، كذلك الإنسان فانه يفتقر فيض الله في كل لحظاته ما دام حياً.

وبعبارة أُخرى: أنَّ كل لحظة من لحظات العمر هي خلق وصنع جديد ( كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأن )، (7) وبخاصة إذا فسرنا ذلك حسب رؤية (الحركة الجوهرية) فإنَّ الأمر سَيكون أوضح.(8)

الدعاء من وجهة نظر القرآن والروايات

إنّ الدعاء قضية مهمة جداً وقد انعكست بشكل واسع في القرآن وروايات المعصومين(عليهم السلام). وفي هذا المجال مباحث وأسئلة عديدة نشير إلى بعضها هنا:

1 - ما هي فلسفة الدعاء؟ إذا كنا مستحقين للاجابة فالله العالم بالظاهر والباطن سيستجيب لطلباتنا من دون حاجة إلى دعاء، وإذا لم نستحق الاجابة فإنَّ الله سوف لا يجيب لطلباتنا سواء دعوناه أم لم ندعه، ولا تأثير لدعائنا هنا!

وبتعبير آخر: أنَّ طلبتنا إذا كانت بمصلحتنا فسيوفرها لنا الله من دون حاجة إلى دعاء، وإذا لم تكن بمصلحتنا فانه سوف لا يوفرها مهما أصررنا بالدعاء والتوسّل.

إذن ما فلسفة الدعاء وما دوره؟

2 - ما هي شروط إجابة الدعاء؟ وما علينا فعله لكي يستجيب لنا الله الدعاء ولكي نبلغ هدف الاجابة؟

3 - ما هي موانع استجابة الدعاء؟ لماذا لم يُستجب لبعض الأدعية رغم الاصرار الوافر في طلبها؟

4 - ما هو أسوأ دعاء؟

الدعاء أفضل عبادة

المستفاد من الآيات والروايات هو أنَّ الدعاء ليس كونه عبادة فحسب، بل من أفضل العبادات. ولأجل إيضاح أهمية الدعاء نشير إلى ثلاث آيات من القرآن وست روايات من المعصومين:

1 - يقول الله تعالى في الآية 60 من سورة غافر (المؤمن): ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الّذِين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ ) .

استخدمت الآية في البداية مادة (الدعاء) ثم أبدلتها بمادة (العبادة) في نهاية الآية.

لماذا عبّر القرآن بالعبادة عن الدعاء؟

قال البعض: إنَّ العبادة بمعناها المطلق هي دعاء، ولأجل ذلك كان تعبير الروايات بأنَّ «الدعاء مخ العبادة».(9)

2 - يقول الله تعالى في الآية 77 (آخر آية) من سورة الفرقان: (قُلْ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُم فَقَد كَذَّبْتُم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً ) .

إنَّ هذا التعبير ( ما يعبؤُ بِكُم... ) والذي يعني عدم اهتمام الله بكم لو لم تدعوا، لم يستعمل في العبادات الاخرى مثل الحج والصوم والجهاد وغير ذلك، وقد استخدم في الدعاء فقط، وهو تعبير يعني باطلاقه أنّ الذي يجعل الله يهتم بكم ويعتني رغم الذنوب والآثام هو الدعاء، فقدروا هذه العبادة وثمّنوها.

3 - يقول الله تعالى في الآية 186 من سورة البقرة بعد الحديث عن فضيلة واحكام شهر رمضان المبارك: ( وإذا سَألك عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيْبٌ أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) .

لا شكّ أنّ تعبير الآية التالية: ( نحن أقْرَبُ إلَيكْمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ )(10) للإشارة إلى قرب الخالق إلى المخلوق، هو أجمل تعبير يمكن أن يرد في هذا المجال.

وعلى هذا، فإنَّ التفكير في الآيات السابقة يرشدنا إلى أنَّ الدعاء من وجهة نظر الإسلام أمر مهم جداً بحيث اضافة إلى كونه عبادة يوجب اعتناء الرب بالإنسان، كونه وسيلة لتقرّب العبد إلى مولاه.

الدعاء في الروايات

قلنا سابقاً: إنَّ الكثير من الروايات تناولت قضايا الدعاء، نكتفي هنا بذكر ست منها.

1 - يقول سول الله(صلى الله عليه وآله): «الدعاءُ سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض».(11)

نعم، رغم أنَّ الدعاء عبادة سهلة، لكنّه، حسب ما يستفاد من كلمات الرسول(صلى الله عليه وآله) - يحضى بشأن رفيع عند الله. إلاّ أنَّ الإنسان غافل عنه بسبب سهولته وبساطته.

2 - يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «الدعاءُ مفتاحُ الرحمة ومصباح الظُّلمة».(12) نعم، هو مصباح ليس في الدنيا فحسب بل في الآخرة كذلك.

3 - يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله) في رواية اخرى: «عمل البرّ كلّه نصف العبادة، والدعاء نصف».(13)

4 - يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «أكْثِرْ من الدعاء فإِنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلِّ حاجة، ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء، وليس باب يكثر قرعه إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه».(14)

وعلى هذا، فالإنسان لا ينبغي أن يخيب أمله بمجرد عدم الإجابة، لأنّ الله قد يريد تطهير قلب العبد وتأديبه وتربيته من خلال الدعاء.

5 - يصف الإمام الصادق(عليه السلام) الدعاء بالشكل التالي: «أفضل العبادة الدعاء».(15)

6 - يقول الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء»، قيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء».(16)

يستشف مما سبق من الآيات والروايات أنَّ للدعاء شأناً عظيماً في الإسلام ويحضى بأهمية كبيرة.

سر الدعاء في الإسلام

لماذا يحضى الدعاء في الدين بدرجة وقيمة كبيرة، بحيث عُدَّ أفضل العبادات وسلاحاً للمؤمن وعموداً للدين ونور السماوات والأرض ومفتاح الرحمة ومصباح الهداية ونصف العبادة وسر النصر وسلاح الأنبياء وسبباً لرفعة شأن الإنسان عند الله؟

إذا دققنا في هذه التحفة والهدية الإلهية ودرسناها جيداً لوجدناها أهلا لهذه الأُمور كلها.

إنَّ الدعاء يترك آثاراً مهمةً في الإنسان، وأهم تلك الآثار هو التربية، فإنَّ الدعاء سبب لتربية الإنسان وتزكيته.

إنَّ التعليم والتربية اللتين ابتنيت عليهما بعثة الأنبياء، يُعدان من أهم أهداف البعثة،(17) ومما لا شك فيه أن التعليم مقدمة للتربية، لذلك كانت التربية الهدف النهائي للبعثة.

العلاقة بين الدعاء والتربية

للدعاء آثار تربوية كثيرة نشير إلى ثلاثة منها:

إنّ الأثر الأوّل هو إيجاد نور الأمل في قلوب الناس، فالإنسان الخائب الأمل يكون في عداد الموتى. إنَّ المريض يتحسّن إذا كان قد ملأ قلبه بنور الأمل وسوف لا يتحسّن إذا فقد أمله في التحسن، كما أنَّ السبب الرئيسي لنجاح المقاتلين في ميادين الحرب هو الأمل والمعنويات العالية، أما العسكر الذي يفقد الأمل ولا يتحلى بمعنويات عالية فسوف يخسر المعركة ولو كان قد عُدَّت له العدة وجُهِّز بأكثر الاسلحة تطوراً.

إنَّ الدعاء يعكس ضوء الأمل في قلب الإنسان.

إنَّ أصحاب الدعاء والمتوكلين على الله - رغم مشاكلهم الكثيرة وأعداءهم الجسورين وفقرهم المالي - إذا توجهوا إلى الله وناجوه، حيث قلوبهم نضحت بنور الأمل، وتفاءلوا بالمستقبل، وكأنّهم مُنحوا حياة جديدة; وذلك لأنّهم مدوا أيدي العون إلى من كانت أصعب الشدائد عنده أسهلها، مدوا أيديهم إلى الله الذي لا موقع للصعب والسهل عنده، وذلك لأنَّ الصعب يعني الشيء الذي فوق القدرة والسهل يعني الشيء الذي أدنى من القدرة، وهل هناك شيء يفوق قدرة اللّه؟

وعلى هذا، فلا اختلاف عند الله بين الصعب والسهل، فاذا أراد شيئاً قال له (كن) فيكون في لحظة حتى لو كان ذلك الشيء هو صنع ملايين من الشموس المثيلة لشمس الأرض.

إنَّ الإنسان إذا دعا وناجى من يملك مثل هذه القدرة وسجد له وخشع وبكى وطرح مشاكله عليه، فلا شك أنَّ نور الأمل سيستحوذ على قلب هذا الشخص.

2 - الاثر الثاني للدعاء هو ايجاد نور التقوى في الإنسان الذي هو السبب في تقرّب الإنسان إلى ربّه.(18)

التقوى هو زاد نجاة الإنسان يوم القيامة;(19) وهو جواز دخول الجنة.(20)

الدعاء يحيي هذه الجوهرة الثمينة في قلب الإنسان، إنَّ الإنسان إذا ناجى الله وتوسل به ودعاه باسمائه الحسنى وصفات جماله وجلاله، فإنَّ ذكر هذه الصفات سيترك أثراً يسوق الإنسان نحو الله بشكل يشعر الإنسان بأنه إذا أراد الاستجابة تاب وأناب إلى الله.

إنَّ الدعاء يدعو الإنسان إلى التوبة، والتوبة تدعو الإنسان لاعادة النظر في حياته، وفي نهاية هذه الحركة يتقد نور التقوى في حياة الإنسان.

جاء في حديث: «من تقدّم في الدعاء استجيبت له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة: صوت معروف ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصوت لا نعرفه».(21)

يقول  الإمام علي(عليه السلام) في خطبة همّام القيمّة عند بيانه لأوصاف المتقين: «نُزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزلّت في الرّخاء».

ولهذا، لا فائدة في مناجاة فرعون وإقراره بالتوحيد، فقد جاء في الحديث ما يلي:

«... قال جبرائيل:... لمّا غرق والله فرعون قال: آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل. فأخذت حمأة (جكومة من طين) فوضعتها في فمه...».(22)

3 - إنّ الاثر التربوي الثالث للدعاء هو تقوية نور المعرفة.

إنّ الإنسان عندما يتجه إلى الله سوف يبدأ بالتفكير بأن الله قادر وعالم بما خفي عنا وبما ظهر ومحيط بجميع الأسرار، وهذا سوف يرفع من مستوى معرفة الإنسان، وبخاصة إذا كانت الأدعية المقروءة من الصحيفة السجادية أو المناجاة الشعبانية أو الصباح أو كميل أو الندبة، فهي تضمّ أرقى الدروس العرفانية، ومع وجود أدعية، أمثال هذه، لا داعي بالنسبة لطلبة العرفان أن يلجؤوا إلى كتب مشكوك في أمرها.

وعلى هذا، فالدعاء يوقد نور التقوى والمعرفة في قلب الإنسان.

سؤال: نقرأ في دعاء شهر رجب - الذي يستحب قراءته بعد كل صلاة من الشهر - العبارة التالية: «يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه».

وعلى أساس هذه العبارة فان الله يعطي كل شخص سواء دعاه أم لم يدعه، وسواء كان عارفاً به أم لم يكن. وعلى هذا فما فائدة الدعاء وجدواه؟

الجواب: إنّ لفيض الله وبركاته أقساماً وأنواعاً:

قسم يمنحه الله لجميع البشر، مثل الغيث، فالجميع من الكافر والمؤمن والعارف وغيره يفيدون منه.

وقسم من البركات تمنح للعارفين من المؤمنين ولا تشمل غيرهم.

وقسم من البركات والفيض يُمنح للداعين فقط دون غيرهم.

جاء في حديث: «لا تقل إنَّ الأمر قد فرغ منه، إنَّ عند الله منزلة لا تُنال إلاّ بمسألة».(23)

وعلى هذا، فإنَّ القسم الأول هو الوحيد الذي يشمل الجميع أما القسم الثاني والثالث فالإيمان والدعاء يؤثران فيهما.

موانع وشروط استجابة الدعاء

لماذا لم يُستجب لبعض أدعيتنا؟ لماذا لم تتحقق وعود الله في مجال استجابة الدعاء؟ هل الاشكال من قبل الله - نعوذ بالله - أم الاشكال من قبل الداعين أنفسهم؟

إنَّ هذه الشبهات كان يطرحها الصحابة والمسلمون في زمن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وكان أهل الذكر (الائمة) يجيبون عليها في روايات وردت عنهم.

مجموع الروايات السابقة وروايات اخرى جاءت في هذا المجال (ولم تتضمن أسئلة) تكشف عن أنّ هناك شروطاً لاستجابة الدعاء، على الداعين توفيرها وتحصيلها، كما عليهم إزالة الموانع والعقبات عن الاستجابة.

وعلى هذا، فإنَّ الإنسان إذا دعى من دون تحصيل الشروط ورفع العقبات والموانع، ولم يستجب دعاؤه، فما عليه أن يلوم إلاّ نفسه. إنَّ مَثَلَ الداعي من دون تحصيل الشروط ورفع الموانع مَثَلُ المريض الذي يذهب للطبيب للتداوي فيكتب الطبيب له نسخة تتضمن إرشاد المريض بحقن ابر في كل يومين مرة، وبعد استلام المريض الدواء واستهلاكه وعدم الشفاء يرجع المريض للطبيب قائلا له بعصبية: (أي طبيب أنت وأي دواء كتبت لي؟! لم أشف منه أبداً) فيسأله الطبيب: (هل حقنت الابر في كل يومين مرة؟) فيجيبه: (لا بل في كل ثلاثة أيام).

ويسأله مرة اخرى هل: (استخدمت المضادات الحيوية في كل ثمان ساعات؟) فيجيبه المريض: (كنت أبتلع في اليوم كبسولة واحدة) ويسأله مرة اخرى: (امرتك بالاستراحة لمدة اربعة أيام هل استرحت فيها أم لا؟) فيجيبه: (وهل هذا أمر ممكن رغم ما نعانيه من غلاء في السلع والأغذية؟ فاني رجعت للعمل في نفس اليوم).

فيهز الطبيب رأسه ويقول له: (لا إشكال في الأدوية التي كتبتها لك، والاشكال هو فيك من حيث إنَّك لم تعمل بما أمرتك به، الامر الذي أدى بك أن لا تسترجع صحتك وعافيتك فلا تلم إلا نفسك).

كذا الحال لو أعطى متخصص زراعي بذوراً لفلاح وأمره بنثرها وزرعها والعناية بها بشكل خاص وسقيها في أوقات محددة، والفلاح لم يعمل بوصايا المتخصص، وكانت النتيجة هي عدم إثمار البذور، فإنَّ المقصّر هنا هو الفلاح نفسه لا شخص آخر.

اعزتي: أيها الصيام المحترمون! إخواني وأخواتي الأعزة! إن أدعيتنا مثل البذور فلا يكفي

نثرها على الأرض، بل هي بحاجة إلى سقي وعناية خاصة واستخدام الأسمدة والسموم لمكافحة الآفات.

إنّ ما تقرّه الروايات هو ضرورة توافر الظروف والشروط وارتفاع الموانع لأجل الاستجابة. لكن المؤسف هنا هو توقعنا الأجابة من دون توفير هذين الأمرين، وذلك غير معقول.

نشير هنا إلى بعض من شروط وموانع استجابة الدعاء:

1 - عدم معرفة الله أهم مانع عن الإستجابة

بعبارة اخرى: أَنَّ معرفة الله من الشروط الاساسية بل أهم شرط لاستجابة الدعاء.

وهل يمكن الطلب مِمَّن لا يُعرف وممَّن نجهله؟!

في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) سأله البعض عن سبب عدم استجابة الدعاء فأجابهم: «لأنّكم تدعون من لا تعرفونه».(24)

وعليه، فكما قلنا سابقاً: إنّ الدعاء يلقي بنور المعرفة في قلب الإنسان، والمعرفة هي الأساس للدعاء، أي أنّ لهذين آثاراً متبادلة.

يقول الله في القرآن: (  إنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ )(25) أي أنَّ المجتمع المصلي لا يتلوّث بالذنوب وكذا الأفراد; لأنَّ الصلاة هي الضمان والأمان من الذنوب.

مع ملاحظة الآية الشريفة السابقة، لماذا نرى بعض المصلين يرتكبون الذنوب؟ هل الاشكال - نعوذ بالله - من الآية نفسها أم من المصلي ذاته؟ المصلي إذا ما كان عارفاً بالذي يصلي إليه ويسجد له، فإنَّ صلاته سوف لا تكون تأميناً له من الذنوب ومانعاً له عن المعصية. إنَّ معرفة الله جوهرة ثمينة وهي شرط لكثير من العبادات، بل هي شرط حتى للزيارات; وذلك لأنَّ ثواب وآثار الزيارات تخص ذلك البعض الذي تقترن زيارته بمعرفة اللّه.(26)

وعلى هذا، فإنَّ الشرط الأوّل لاجابة الدعاء هو معرفة صفات جلال الله وجماله وأفعاله واسمائه الحسنى، وعلى كل شخص أن يحوي هذه المعرفة قدر طاقته وامكانه.

2 - النيّة الصادقة والقلب المخلص

إنَّ الشرط الثاني لاجابة الدعاء هو النية الصادقة والطاهرة والقلب المخلص والعاري عن الرياء.

وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق(عليه السلام) «إنّ العبد إذا دعا الله تبارك وتعالى بنيّة وقلب مخلص استجيب له بعد وفائه بعهد الله عزّوجلّ».(27)

إنَّ العمل بعهد الله والوفاء به - والذي هو صفاء القلب والاخلاص في النية - هو شرط قبول الدعاء.

ينبغي الالتفات إلى كيفية تربية الدعاء للإنسان، إنَّا نطرق باب الله لقضاء الحاجة وحلّ المشاكل، إلاّ أنَّه علينا أن نعلم بعدم امكانية الاستجابة إلاّ بالاخلاص وصفاء القلب، لذلك كان علينا السعي في التزكية وتهذيب النفس.

3 - الاكل الحلال شرط مهم وصعب لاجابة الدعاء

يقول الرسول(صلى الله عليه وآله) في رواية جميلة جداً ومنذرة كذلك: «أطب كسبك تستجاب دعوتك، فإنّ الرجل يرفع إلى فيه حراماً فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً».(28)

بعض الناس تلوثت أموالهم ومكاسبهم بالحرام وذلك بالتطفيف والربا وظلم الآخرين وعدم أداء الواجبات المالية، رغم ذلك يتوقعون من الله الإجابة.

المستفاد من الكلام الثمين لرسول الله(صلى الله عليه وآله) هو أنَّ الدعاء عامل مهم في تربية الإنسان ويحضُّ الإنسان على رعاية الحلال والحرام.

من الإنصاف أن نقول: إنَّ رعاية الحلال والحرام له دور مهم في حياة الإنسان، وأنَّ الناس إذا اهتموا بهذا الجانب من حياتهم لما تكدست الاضبارات والشكاوى في المحاكم.

إذا راعى الناس الحلال والحرام ما كان مجتمعنا يضمُّ هذا المقدار من الفقراء.

أسفاً أنّ البعض غافل عن هذا ويبرّر عمله بشكل أو آخر ويقول: أين الحلال والحرام؟ لا وجود للحلال لكي نراه.

يقول أحد هؤلاء الذين يتمسكون بتبريرات هي هراء في الواقع: (إنَّ الحلال الوحيد في الدنيا هو ماء المطر ويمكنك الاستفادة منه في وسط النهر فقط لأنه مكان نطمئن بعدم غصبه، فعند هطول الامطار قف هناك وافتح فمك لتناول القطرات، وهذا هو المقدار الوحيد المسلّم بحليته).

إن أُناساً مثل هذا يخادعون أنفسهم ( يُخَادِعُونَ اللهَ وَالّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) . (29)

وبعبارة اخرى: أنَّهم يغالطون أنفسهم; وذلك لأنَّ حديثنا في الحلال والحرام الظاهريين، وهم يتحدثون عن الحلال والحرام الواقعيين، مع أنَّا مأمورون بالعمل حسب الظاهر لا الواقع.

ألم يهيء أئمتنا مأكولاتهم ومشروباتهم من سوق المسلمين هذا، وهم في الوقت ذاته يلتزمون بالظواهر ولا يحتاطون إلاّ في الاماكن المناسبة. مثلا كانوا يفيدون من الخبز واللحم اللذين لم تدفع زكاتهما؟

ومن المناسب لنا كذلك أن نعدّ مقدار استهلاكنا السنوي للخبز واللحم وندفع زكاته; لأنّ الكثير من المزارعين والرعاة لا يدفعون زكوات أموالهم ونحن نفيد من محصولاتهم ومنتجاتهم، وهذا مؤسف حقاً; لأنه ابتلاء لنا.

رغم أننا معذورون بسبب عدم العلم إلاّ أنَّ عدم الدفع سوف يترك أثره الوضعي. ولذلك كان عده ودفع زكاته أمراً مستحسناً ويسبب الطهارة القلبية والنزاهة الروحية.

النتيجة هي أنَّ الأكل الحلال لا يؤثر في الدعاء فحسب، بل في جميع عبادات الإنسان من الصلاة والصوم والحج والزيارات الواجبة والمستحبة وأمثال ذلك. ومن ناحية أُخرى، انّ الأكل الحرام لا يمنع عن استجابة الدعاء، بل يؤثر سلباً على نشاط الإنسان ومعنوياته وعباداته وزياراته ويجره إلى الكسل عن قراءة القرآن واقامة الصلاة، وهو في النهاية يحول دون الالتذاذ بهذه الأعمال.

4 - حضور القلب

الشرط الرابع لاستجابة الدُّعاء هو حضور القلب، ومن الواضح أنَّه شرط ذات أهمية وقيمة; لما جاء في رواية: سُئل النبي(صلى الله عليه وآله) عن اسم الله الأعظم؟ فقال: «كل اسم من اسماء الله أعظم ففرِّغ قلبك من كلِّ ما سواه وادعه بأي اسم شئت».(30)

من هنا يتضح أنَّ الأسم الأعظم ليس لفظاً خاصاً - كما يتصوره البعض - لكي يُنطق به وتحل به جميع المشاكل، بل إنّه حالة وصفة خاصة ينبغي ايجادها في باطن الإنسان، وهي عبارة عن تطهير القلب.(31)

القلب إذا كان مركزاً للأصنام (صنم المال وصنم المقام وصنم الشهرة وصنم الزوجة والاولاد وما شابه ذلك) فالدعاء إذا صدر فيصدر من معبد الأصنام هذا. ومن الواضح أنَّ دعاءً كهذا لا يستجاب.

الخطوة الأولى للاستجابة هو الاقتداء بما فعله ابراهيم(عليه السلام) وعلي(عليه السلام) في كسرهما الأصنام، فبذلك تطهر القلوب، فهي آنذاك تصفى للواحد الأحد، ثم ادعه بأي اسم شئت، وسوف لا تكون النتيجة إلاّ الاستجابة.

مع الالتفات إلى الشروط الاربعة الماضية نقول: هل نحن وفرّنا هذه الشروط؟ هل كان طعامنا من حلال؟ هل كان قلبنا خالياً من الأغيار؟ هل كان الصفاء والاخلاص في النية هو الذي يحكمنا؟ هل كنا نعرف الله؟ 

إذا كنا نفقد هذه الشروط علينا السعي في كسبها وبخاصة في شهر رمضان المبارك، شهر الرحمة واللطف الالهي، وهو شهر تستعدُّ فيه روح الإنسان لهذه الامور أكثر، كما هو فرصة مناسبة للدعاء...

استجابة بعض الأدعية ليست بمصلحة الإنسان!

رغم أنَّا كُلّفنا بالدعاء ونأمل الاجابة، لكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ إجابة بعض الأدعية ليس بمصلحة الإنسان رغم أنَّه يراها بمصلحته وأنها توفر سعادته، لكن الله يرى فيها الهلاك والشقاء لذلك لا يستجيب لها.

قلنا في قصة ثعلبة الانصاري التي مضت في البحوث السابقة: إنَّ ما أراده وطلبه من الله لم يكن بمصلحته، إلاّ أنَّه كان يصرّ على دعائه وطلبه، وكانت نتيجة الاستجابة هي فقده الايمان وضلالته واعتراضه على بعض القوانين الإلهية. وهذه القصة تتضمن دروساً وعبراً عظيمة للجميع.

قد يُقدم شاب على خطبة بنت ترفض الزواج منه، فيدعو الله ويتوسل إليه كثيراً لكي يميل رأيها ويغيره نحوه، رغم ذلك لا يستجاب دعاؤه، فتضلّ في ذاكرته فترة طويلة من الزمن، إلاّ أنّه يلتفت إلى مصلحة عدم استجابة الدعاء بعد ما يفهم أنَّ المرأة تلد اطفالا معتوهين مثلا.

وعلى هذا، ما علينا أنْ نقلق من عدم استجابة أدعيتنا; وذلك لأنَّه يمكن أن تكون عدم الاستجابة بسبب عدم المصلحة. إضافة إلى هذا، فإنَّ هناك روايات وردت عن المعصومين(عليهم السلام) حكت عن أنَّ الله يعطي العبد في الآخرة ما يعادل أدعيته غير المستجابة.(33)

سؤالان مهمان عن الدعاء

السؤال الأوّل: نجد فيما ورد عن أئمتنا أدعية لا تستجاب أبداً، كما هو الحال في أدعية شهر رمضان الذي تضمّن بعضها عبارة: «اللهم اقضِ دين كلّ مدين» مع أنَّا نعلم أنَّ هذا الدعاء لا يستجاب; لأنَّه ما دامت الدنيا موجودة فهناك ديون للناس، والحياة من دون هذه الديون حياة خيالية لا أكثر، فما الهدف من هذه الأدعية؟

الجواب: إنَّ الديون على قسمين، قسم نشهد ممارسته من قبل التجار والكسبة بأن يستلفوا السلع دون دفع ثمنها، ويسددون الثمن بعد بيعها، أو استلاف الموظفين والعمال السلف من أصحاب العمل، وتسديدها تدريجياً من إيراداتهم الشهرية.

والقسم الآخر هو الدين الذي لا تتوفر للإنسان أرضية دفعه، رغم ذلك هو مجبور على استلافه ويعلم بعجزه عن الدفع. ويبدو أنَّ مراد الامام من الدين هو القسم الثاني لا الأول.

القسم الثاني من الديون لا أنه يستحسن الدعاء فيه ويمكن تحقق الاجابة له، بل إنَّه بناءً على ما أمر به الإسلام ينبغي تزامن الدعاء مع اجراءات عملية; وذلك لأنَّ في المجتمع الإسلامي المتكامل - وهو مجتمع صاحب العصر والزمان (عج) - لا ينبغي وجود حتى جائع واحد أو عار واحد أو فقير واحد، لذلك نقرأ في الدعاء: «اللهم أشبع كلَّ جائع، اللهمَّ اكسُ كلَّ عُريان، اللهم أغن كلّ فقير».

إنَّ شاهد هذا الحديث هو رواية وردت عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنَّ الله عزّوجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم».(34)

ومضمون الرواية السابقة وغيرها هو أنَّ الناس لو دفعوا ما عليهم من واجبات مالية لما بقي جائع ولا فقير ولا عاري في المجتمع، وإذا وجدت هذه الشرائح فبسبب عصيان الاغنياء ومنعهم الفقراء عن حقهم.

إنَّ مجتمع صاحب الزمان يخلو من الفقر والجوع والدين... والدعاء لرفع هذه المشاكل لا تبعد إجابته.

السؤال الثاني: من الاعمال ذات الفضيلة الوافرة في ليلة القدر هي وضع القرآن على الرأس، رغم أنَّ القرآن كوصفة الطبيب (  وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمُؤمِنِيْنَ )، ولكنها وصفة لا تنفع إلاّ بعد العمل بها، فما جدوى وضع القرآن على الرأس عند الدعاء في تلك الليلة؟

الجواب: القرآن ذات جانبين ووصفة الطبيب ذات جانب واحد. فإنَّ القرآن هو كلام الله من جهة، وهو ذات الفاظ بذاتها مقدسة من جهة أُخرى. ولذلك يعتقد المسلمون بلزوم الوضوء إذا أرادوا لمسه. ومن جهة أخرى، مضمونه مقدس، لذلك عدّ القرآن (الثقل الأكبر) وأهل البيت(عليهم السلام) (الثقل الأصغر)، ولهذا لا يصح قياس وصفة الطبيب على القرآن.

بالطبع، انَّ هذا العمل (وضع القرآن على الرأس) يحمل في طياته رسالات خاصة، فهو يعلمنا لزوم عدم وضع القرآن تحت الأيدي والارجل (من حيث الظاهر)، ومن حيث المحتوى والمضون فهو يعلمنا اعتبار القرآن على رأس قائمة الاعمال والنشاطات، وعلى العمل بقوانينه بشكل متواصل، وعدم نسيان أحكامه.

-----------------------------------------------------------------------

الهوامش

1. إنّ هذه قضية اصولية طرحت في كتب الأصول، وللمزيد راجع انوار الاصول 1: 145.

2. حُكي هذا المطلب على لسان السيد المسيح نفسه في الآية 49 من سورة آل عمران.

3. تجد شرح هذه المعجزة في كتاب (المعراج - شق القمر - العبادة في القطبين) بالفارسية.

4. اُشير إلى هذا المطلب في الآيات 76 - 78 من سورة الأنعام.

5. لقد حدثت معاجز كثيرة بولادة الرسول(صلى الله عليه وآله) كان منها انطفاء نار معبد فارس وجفاف بحيرة ساوه. وللمزيد راجع منتهى الامال 1: 44.

6. القصص الآية 38. 7. الرحمن الآية 29.

8.للمزيد راجع تفسير الأمثل 17: 373 - 374.

9. ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5519.

10. سورة ق . الآية 16.

11. الكافي 2: 468.

12. بحار الأنوار 90:30.

13. ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5533.

14. ميزان الحكمة، الباب 1169، الحديث 5585.

15. ميزان الحكمة الباب 1189، الحديث 5516 و 5532.

16. الكافي 2: 468.

17. سورة الجمعة الآية الثانية. 18. كما هو مضمون الآية 13 من سورة الحجرات (... إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم).

18. كما هو مضمون الآية 197 من سورة البقرة: (وَتَزوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التّقْوَى...).

19. كما هو مضمون الآية 63 من سورة مريم: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيَّاً).

20. ميزان الحكمة، الباب 1194 الحديث 5563.

21. نهج البلاغة، الخطبة 193. 22. مجمع البيان ذيل الآية 92 من سورة يونس.

23. ميزان الحكمة، الباب 1189، الحديث 5529.

24. بحار الانوار 90: 368.

25. العنكبوت الآية 45.

26. نجد نموذجاً من هذه الروايات في كتاب وسائل الشيعة ج10 ابواب المزار، الباب 82.

27. مكارم الاخلاق 2: 874.

28. مكارم الاخلاق 2:20.

29. سورة البقرة: 9. 30. بحار الانوار 90:322.

31. للمزيد راجع ما ورد عن (الاسم الاعظم) في تفسير الامثل فقد تناثرت البحوث في هذا المجال في ثنايا الكتاب.

33. لقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة حكت عن وجود أثر للدعاء حتى لو لم يستجب. راجع ميزان الحكمة، الباب 1209. 34. وسائل الشيعة ابواب الزكاة، الباب 1، الحديث 2 و 3 و 6 و 9.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)