هل هناك عهد بيننا و بين الحسين عبر رسول الله أم لا ؟
من الآيات القرآنية الكريمة الّتي كان يردّدها الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء، ، كلما استقبل صحابياً من أصحابه أو فرداً من أهل بيته و هو يستأذنه للقتال ، هذه الآية : ( مِنَ المؤمنينَ رجالٌ صَدَقوا ما عاهدُوا اللَّهَ عليهِ فمنهم مَنْ قَضى نَحبَهُ ومنهم مَنْ يَنتظرُ وما بَدَّلوا تَبدِيلاً ) ، (الأحزاب/23).
و كأنّه بذلك كان يريد أن يقارن بين هؤلاء الذين ثبتوا معه و بين أولئك الّذين حاربوه . فالذين حاربوه كانوا قد عاهدوه من خلال رؤسائهم و فعالياتهم ، و من خلال الأفراد الذين بايعوا
مسلم بن عقيل في الكوفة باسمه ، و عاهدوه على أن ينصروه و يواجهوا الحكم الظالم معه ، و أن يكونوا الجنود المجنّدة في موقفه من ذلك الحكم الظالم...
ولكن خوّفهم الطغاة ، و استيقظت نقاط ضعفهم في داخلهم ، و نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، و أخذوا يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، و مشوا في خطّ الفساد في الأرض ، فانطبقت عليهم الآية الكريمة : (
الذينَ يَنْقُضونَ عَهدَ اللهِ مِنْ بعدِ ميثاقهِ ويقطعونَ ما أمَر اللَّهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويُفسِدونَ في الأرضِ أُولئكَ هم الخاسِرون ) ، (البقرة/27).
لأنّ الله _ سبحانه و تعالى _ جعل العهد في كلّ موقعٍ يعاهد فيه إنسانٌ إنساناً ، سواء كان عهداً بين القيادة و النّاس ، أو كان عهداً بين النّاس أنفسهم ، أو بين القادة أنفسهم ، فإنّ هذا العهد يمثّل عهد الله، لأنّ الله أمر بأن يفي الناس بعهودهم في قوله تعالى : (
و أوفوا بالعهد إنّ العهدَ كان مسؤولاً ) ، (الإسراء/34).
و هكذا أعطى هؤلاء العهد من أنفسهم أمام الله على أساس أن ينصروا الإمام الحسين (ع) ، و ألزموا أنفسهم بأن يصلوا ما أمَرَ الله به أن يوصَل ، و هم
أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجسَ و طهّرهم تطهيراً ، وقد كان الحسين (ع) هو البقية الباقية من أهل البيت آنذاك.
لقد انطلقوا و قطعوا ما أمر الله به أن يوصل و أفسدوا في الأرض ، باعتبار أن كلّ فئةٍ تساند ظالماً و تقاتل معه و تنضم إليه ، تكون من فئة المفسدين في الأرض ، لأنّ حكم الظالم يمثّل حكم الفساد في الأرض ، و أوضاع الظالم تمثّل أوضاع الفساد في الأرض . و الحسين (ع) هنا أراد أن يقول : (
أيّها الناس ، قارنوا الموقف بين المعسكرين، بين معسكر النار و الظلم في الأرض ، و بين المعسكر الّذي انضمّ إلى الإمام الحسين (ع) . و قد تحدث الله عنهم في كتابه المجيد ، في قوله: (
أفَمَن يعلمُ أنّ ما أُنْزِلَ إليك من ربّك الحقُّ كَمنْ هو أعمى إنمّا يتذكّرُ أُولُو الألباب* الذينَ يُوفونَ بعهدِ اللـهِ ولا ينقُضون الميثاقَ* والذين يَصِلُونَ ما أمر اللَّهُ به أن يُوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويخافونَ سوءَ الحساب ) ، (الرعد/19-21).
الالتزام بالحسين إماماً
و هكذا أراد الإمام الحسين (ع) تركيز هذه القيمة الإسلامية من خلال الناس الذين وقفوا معه واتّبعوه وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ذلك أنهم عندما جاءتهم المشاكل وأراد منهم الآخرون تغيير موقفهم ، رفضوا التبديل و أصروا على البقاء مع الإمام الحسين (ع) ، حتى عندما وقف الحسين (ع) ليحلهم من بيعته ، إذ قال لهم : (
إنّي قد أذِنتُ لكُم فانطلِقوا جَميعاً في حلٍّ، ليسَ عليكُم حَرَجٌ منّي ولا زِمام، هذا الليلُ قد غَشِيَكم فاتّخِذُوه جَمَلاً ) .
ولكنّهم لم يغيّروا و لم يبدّلوا ، بل قالوا ، لا نتخلى عنك يابن
رسول الله حتى لو قُتلنا و قُطّعنا و أُحرقنا ، لأنّنا ننطلق في الوقوف و الالتزام بخطّك من خلال كونك ولي الله و ابن وليّه ، و من خلال كونك إمام هذا الدين و قائد المسلمين .
قالوا له : يابن رسول الله، لقد التزمنا بالإسلام _ بكلّ أحكامه و مفاهيمه _، و التزمنا بقيادتك على أساس أنّها القيادة الإسلامية الّتي ركّزها رسول الله (ص) بقوله : «
حُسينٌ مِنّي وأنا من حُسين » ، و بقوله : «
الحسنُ و الحُسينُ سَيّدا شبابِ أهلِ الجنّة »، «
الحسن و الحسين إمامان قاما أو قعدا » . فالتزمنا قيادتك ، لأن رسول الله أراد لنا أن نلتزم قيادتك في إمامتك.
و حين صرختَ : «
إنّي لم أخرُجْ أشِراً و لا بَطِراً ولا مفسداً و لا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جَدّي » ، و حدّدت طبيعة ثورتك الإصلاحية كونها تسعى لإصلاح ما أفسده الظالمون و المنحرفون من الواقع الإسلامي الّذي تحرّك في أُمّة رسول الله (ص) ، سرنا معك ، لأنّ رسول الله أراد منّا أن نُصِلح أمور أمتّنا أيضاً ، فلست وحدك المسؤول عن ذلك ، بل نحن أيضاً مسؤولون عن دعم حركة الإصلاح و تقويتها بالانطلاق معك تثبيتاً لموقفك ، لأن كل مسلم و مؤمن مسؤول عن طلب الإصلاح في أُمة رسول الله (ص) ، لأن رسول الله قال للأُمة كلها : «
كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتهِ » .
الإصلاح مسؤولية الجميع
إن الإصلاح في أُمة رسول الله هو مسؤولية كل فرد من أفراد هذه الأُمة ، كلٍّ بحسب دوره وإمكاناته في كلِّ المجالات ، لذا قالوا له : يابن رسول الله ، لقد قلت : «
أُريدُ أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكَر »، لأنك رأيت المعروف الّذي يتمثّل في طاعة الله في كل قضايا الإنسان و الحياة يُترَك ، و رأيت أن الناس يتركون طاعة الله في عباداتهم و معاملاتهم ، و في حربهم و سلمهم وفي كلِّ علاقاتهم ، و رأيت المنكر و هو كل ما حرّمه الله ، و أنكر أن يُفْعَل ، قد عمّ . فالناس يرتكبون المحرّمات و يلتزمون الظالمين و يدعمون المنحرفين ، و لا يرفعون في وجوههم صوتاً...
لذلك قلت : أُريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر ، و كنّا يابن رسول الله معك ، لأنّ الله حمّل كلّ مسلم مسؤولية أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر ، و لأنّ رسول الله (ص) حذّر المسلمين من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، و أنذرهم أنهم في هذه الحال سيقعون في مصائب كثيرة و بلايا عديدة ، و قال في ما قال : «
لتَأمُرُنَّ بالمعروفِ ، و لتَنهُنَّ عن المنكر أو ليُسَلِّطَنَّ اللَّهُ شرارَكُم على خياركُم فيدعو خياركُم فلا يستجابُ لهم » .
و أمر رسول الله هذا موجّه للجميع، ولهذا فنحن مأمورون بأن نأمر بالمعروف و أن ننهى عن المنكر ، كما أنت يابن رسول الله مأمور بذلك . مأمورون بأن ندعم الذين يأمرون بالمعروف إذا كانوا في موقع القيادة أو المسؤولية ، و أن نثور معهم على الظّلم إذا ثارو ا، و أن نكون معهم في خطّ العدل، وقد قلتَ: فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق .
الانقياد للحقّ
لم تُرِد للناس أن تقبلك لشخصك ، إذ قلتَ لهم : أيّها الناس ، اقبلوا الحق ، فإذا قبلتم الحق و رأيتم أنّي على الحق فاقبلوني ، وإذا قبلتموني باسم الحقّ فهذا من مسؤولياتكم وواجباتكم أمام الله. إنمّا أنتم تقبلون الحقّ الّذي هو أمر الله (سبحانه و تعالى) و صنعه ، فمن قَبِلني بقبولِ الحقّ فاللَّهُ أولى بالحقّ، إنّ الله هو الّذي يكافىء من يقبل الحقّ.
لقد قال الإمام الحسين (ع) ذلك ، لأنّه قيادة تريد للناس أن لا تلتزم بشخصها، بل بالحق الّذي تمثله في شخصيتها وفي واقعها. لقد قلت ذلك يابن رسول الله، ونحن معك فيه. لقد قالها أصحاب أبي عبد الله لأبي عبد الله بموقفهم، وإن لم يتفوّهوا بها بألسنتهم، قالوا يابن رسول الله لقد قبلنا بالحق، الّذي رأيناك إمامه، لذا سنقبلك لأنّ الحق يتجسّد فيك والقيادة كذلك، لأنّ رضاك رضا الله وسخطك سخط الله، ولأنّك لا تنحرف عن طريق الله كما لم ينحرف عنه جدُّك وأبوك وأخوك، لأن الحق عنوان شخصياتكم ودعوتكم وحركتكم.
الثبات في موقع الحقّ
هذا ما قالوه له. ولقد ثبتوا على القول عندما جاءتهم كلّ التهاويل ، و تجمّعت العساكر الكثيرة في وضع غير متكافىء ، و كانت جماعة الحسين(ع) من سبعين إلى ثلاثمائة رجل _ على اختلاف الأخبار _ ، بينما كانت جماعة ابن زياد أربعة آلاف رجل على أقل تقدير ، و هناك إحصاء يقول: إنّهم كانوا ثلاثين ألفاً، فلم يكن هناك أيّ نوع من أنواع التوازن بين هذه الفئة القليلة و تلك الفئة الكثيرة.
و وقفت جماعة ابن زياد تستعرض قوَّتها ، و تعمل على هزّ قوة أولئك المؤمنين السائرين مع الحسين (ع) ، ولكنّهم لم يُفْلِحوا في إسقاط عزيمتهم ، وبقيت هذه القلّة ثابتةً في مواقعها. و بدأت تتحرّك في الخطّ الإسلامي الّذي انفتح على الله فانفتح على الحسين (ع) من خلال الله، والذي انفتح على شريعة الله فانفتح على الثورة في خطِّ هذه الشريعة، وهكذا وقفوا، وكانوا يستأذنون الحسين (ع) في القتال.
وكان الحسين يستقبل كلَّ واحد منهم بهذه الآية : (
مِنَ المؤمنينَ رِجالٌ صَدقوا ما عاهدوا اللَّهَ عليه ) ، صدقوا بالكلمة و بالموقف (
فمنهُم من قَضى نحبَه) _ و يشير الإمام الحسين (ع) إلى الذين استشهدوا معه _ (
و منهم مَن يَنتظرُ ) _ و يشير إلى الذين يتحرّكون في خط الشهادة _ ( و ما بَدّلوا تَبديلاً ) ، (الأحزاب/23). و تلك هي قصة المجاهدين مع الحسين (ع).
إن علينا أن نتساءل : هل هناك عهد بيننا و بين الله أم لا ؟هل هناك عهد بيننا و بين الحسين عبر رسول الله أم لا ؟ ، تلك هي المسألة.
الإنسان المسلم و الصفة الإسلامية
عندما ندرس المسألة بصفتنا مسلمين .. سنجيب عن تلك الأسئلة بسهولة، لا بالصفة العائلية أو الإقليمية أو القومية أو غير ذلك من الصفات الطارئة ، لأن الصفة الإسلامية هي الّتي تحدّد المواقف الإقليمية و القومية للمسلمين.
إن العائلية والقومية والإقليمية و الوطنية رموز ، قد تتحرك مع الإنسان في الدنيا، أما في يوم القيامة : ( فإذا نُفِخَ في الصورِ فَلا أنسابَ بَينهُم يَومئذٍ ولا يتساءَلون ) ، (المؤمنون/101).
فيُسأل الإنسان عن موقفه من ربه ومن رسوله و كتابه و شريعته. و هكذا علينا تأكيد صفتنا الإسلامية، الّتي يجب أن تحدِّد صفاتنا الأُخرى على ضوء الإسلام.
الشهادة التزامٌ بالعهد
إنّ قول « أشهد أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمداً رسول الله معناه الالتزام بعهد الله ، لأنّ قول «أشهد أن لا إله إلاّ الله » يعني يا ربّ إنّي ألتزم بوحدانيتّك في الأُلوهية ولا ألتزم بغيرك ، إذا كان ذلك يبعدني عن التزامي بك، و قول « أشهد أن محمداً رسول الله » يعني الالتزام برسول الله من خلال الرسالة التي حملها من الله ، لأنّ طاعته من طاعة الله ، ( من يُطِع الرّسولَ فَقد أطاعَ اللَّهَ ) ، (النساء/80).
فالتزام عهد الله هو في توحيده وعدم الشرك به في شيء ، وف ي العقيدة ، بعدم الاعتقاد بوجود إله غيره ، و في العبادة ، بعدم إطاعة أيِّ مخلوق أو شيء إلاّ في ما يتّفق مع طاعته، هذا هو الالتزام برسول الله الّذي أرادنا الله أن نطيعه في ما يأمر.
إذاً ، نحن في عهدٍ مع الله ومع رسوله، وفي عهدٍ مع الحسين باعتباره سار في خطّ الالتزام بعهد الله و رسوله ، ولأننا في احتضاننا للحسين (ع) في كل سنة في مجالس عاشوراء نعبر عن الالتزام بثورته ، ولكن لنتساءل : هل صدقنا الله عهده أم نقضناه؟
إنّ من يلتزمون بغير الإسلام خطاً للعقيدة و للشريعة وللحياة هم ممّن نقض عهد الله ، لأنّ الله أراد أن نلتزم بشريعته . فالالتزام بأية شريعة أُخرى هو مخالف لالتزامنا ذاك ، و الالتزام بقيادة لا تعبّر عن شريعة الله و أمره ومنهجه هو التزامٌ بغير عهد الله.
و هكذا عندما نسيء إلى من أراد الله لنا أن نحسن إليهم ، و نرحمهم و نعزّزهم و نحترمهم ، نكون ممّن يقطع ما أمر الله به أن يوصل ، و عندما نخذل العادلين، ونلتزم جانب الظالمين بتسويغ ظلمهم ، ومهاجمة العادلين في عدلهم، عندما نخذل الصادقين ، ونتّبع الكاذبين، عندما نسكت عن الحق ونحن قادرون على أن نتكلّم به... فنحن نخون عهد الله. عندما نكون مع الذين ينقضون عهد الله، إنما نسوّغ لهم ظلمهم وفسادهم، ونكون في غير خط عهد الله.
هذا الوعي لمسألة أنّ بيننا و بين الله عهداً ، من الأمور الّتي لا بد أن يعيشها المرء في كل حياته الخاصة والعامة، وفي كل المجالات الّتي يتحرك فيها. وقد قال الله سبحانه وتعالى لليهود من بني إسرائيل، عندما أرادوا منه أن يعطيهم ما وعدهم به: (
و أَوفوا بعَهْدي أُوفِ بعَهدِكُم ) ، (البقرة/40). إذ ليس من المعقول أن ألتزم بعهدي مع إنسان لم يلتزم بذاك العهد...
عهد الله بالجنّة
لقد أعطانا اللـهُ العهدَ أن ندخل الجنّة إذا سرنا في الطريق الحق. المسألة ليست مسألة تمنّيات ولكنّها مسألة مواقف. و الله عندما أرسل رسولَه، إنمّا أرسله من أجل أن يغيّر العالم، ومن أجل أن يغيّر الإنسان ليتحرّك من خلال الحقّ والخير و العدل.
و إذا لم نستطع أن نغيّر الواقع، فعلينا أن نعمل من أجل إرباك الخطط الّتي تسعى لأن تفرض علينا ما لا نريده، وأن نتابع السير حتّى لا يُشرِعن الآخرون ظلمنا وعبوديتنا، لأنّ المجتمع الّذي يسترخي أمام قوة الأقوياء ، سوف تسحقه أقدام أُولئك الأقوياء. لا يكفي أن يكون لدينا تاريخ مشرق يرتبط به واقعنا الحاضر، بل يجب أن نعرف هل أنّ هذا الواقع الحاضر يتحرّك في خط ذلك التاريخ، أو ينحرف عنه.
«
إنّ المؤمنَ لا يلدغُ مِن جُحرٍ مَرّتين » ، ولقد لُدِغنا في كثير من المواقع أكثر من مرّة، فعلينا أن نعرف طبيعة ما هناك من عقارب ومن جحور تختبئ فيها العقارب، وطبيعة ما هناك من غطاء يمكن أن يحجب عنّا بعض الأفاعي والعقارب.