الاکبر و السبق للجهاد
المبادرة الفورية:
لقد أدى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم و جنان وعدهم إياها، إنه لا يخلف الميعاد.
و لم يدع علي واحداً يسبقه، بعد إذ إنفرد الإمام و
أهل بيته، فكانوا البقية الباقية من الشجرة
المحمدية. الوحيدون على وجه الأرض، من
آل الرسول الأعظم (ص) فطفق بعضهم يودع بعضاً. و مال أحدهم على الآخر يعانقه بحرارة و شوق.. وصف المؤرخون ذلك المشهد الرهيب و اتفقوا على هذا المعنى:
«لما قتل أصحاب
الحسين (عليه السلام) ، و لم يبق معه إلا أهل بيته خاصة، و هم ولد
علي بن أبي طالب (عليه السلام) و ولد
جعفر و ولد
عقيل، اجتمعوا يودع بعضهم بعضاً، و عزموا على الحرب، فتقدم
علي بن الحسين (عليه السلام)، و كان من أصبح الناس وجهاً و أحسنهم خَلقاً، وخُلقاً».
أما وداع علي لأهله من النساء كأمهِ و أخواته و عماتهِ ، لاسيما عمته الحوراء
زينب (عليها السلام)، فقد حفل بالآلام و الأشجان. فقد آن فراق ذكرى
المصطفى (صلى الله عليه وآله) ، هكذا شعرن و أحست كل منهن.
ظهر علي ، بأنه شديد الحرص على السبق للساحة ، و على أن يكون أول ضحية و قرباناً لله سبحانه و تعالى،
و هذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة.
فلاشك ، أن المسؤوليات الجسام لا تناط إلا بأهلها، و خليق بهم تحمل عبئها ، و ما يترتب عليها من مضاعفات، لأنهم سدنة الرسالة، و حراس المبادئ ذات الأصالة. فهم لا يختارون التأخير عن دورهم، الأمر الذي يفسر حالات التنافس بين
الهاشميين و
الأنصار، و عمليات الرهان على الأسبقية، كما أشرنا حيث حسم الإمام ذلك الموقف لرغبة الأنصار المجاهدين على رضى منه.
أما و إن علياً ، يسبق أخوته من الهاشميين. فذلك ما يفسره نفس المعنى، فنظراً لكونه نجل الإمام القائد المتحدر من صلبه الشامخ، فهو يشعر بخصوصيته، لا لكي يسلم و ينعم، بل لكي يبادر ، و يعمل ، و يضحي فيكون المثل الأعلى.
و ليس هذا من باب المفاضلة و المكابرة، بقدر ما هو من باب
الإيثار، فخليق به ، أن يتقدم على الجميع مؤثراً سلامتهم ، و عدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم.
و لما كانت القضية قضية
الإسلام الحسينية، فلا يحسن به أن ينتظر إلى آخر شوط و آخر دور، فهو نجل القائد، و من باب أولى ، أن يكون هو المتقدم.
و هكذا تتجلى علو
التربية و رفعة التوجيه و سمو الآداب وجلال التهذيب ، المتوفر في شخص علي الأكبر.
فما كانت تربية
أهل البيت ، تنص على معنىً يخالفه عملهم، ليس فيهم قوالاً غير فعال. وإنما جبلوا على ممارسة تطبيقات مقررات الرسالة والدين الحنيف وحتى الآداب والمثل البسيطة والمفاهيم الخلقية العملية.
الاستئذان للنزال:
إتجه نحو أبيه الإمام، فاتخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إليه والده الحسين ، فأدرك ما يريد، فكل ما ظهر عليه من لامة حربه و مدرعته و إسراجه لفرسه ، يدل على عزمه للمضي على ما مضى عليه من سبقوه، يدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلح.
و راح الحسين ، ينظر إليه بنظرت ملؤها الرفق و الحنان و الإشفاق، أخذ يطيل النظر إليه، فاتخذت عواطف الأبوة الطاهرة مستقرها بين جوانح الأب العظيم.
دار التفاهم على صعيد الصمت.. و تم تبادل البيان من خلال مؤشرات موقف الأشجان. ولم يكن الفراق عجيباً و لا غريباً، إذ «خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة» ، «لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفينا أجور الصابرين» ، كما في خطابه التاريخي بمكة.
ترى هل عز على الحسين فراق حبيبه و ريحانته و ذكرى رسول الله؟ هل يا ترى يمنعه عن التسرع أو يؤجل دوره إلى حين؟ نعم عز عليه ولكنه لا يمنعه أو يؤجل جهاده.
عز عليه عزاً لا حد له،
بيد أن الحسين ، يسيطر عليه أمر أكبر و أخطر، ذلك هو عز القضية ، التي من أجلها نهض بنهضته و صدع بمبدأ الجهاد ، فبعز رسالته هان عليه ، عز الأحبة وآلام الوحدة و الغربة.
فالموقف شجي و محرج ، لكنه في غاية التحرج في قضية الدين ، بحيث هونت عليه فقد الحياة و حراجة تقديم البنين.
و أخذت الآهات مأخذها في داخل صدره، و راح ينظر إليه. إلى أشبه من وطئ الحصى بجدهِ النبي
المصطفى.
و اغر و رقت عيناه بالدموع. وطفق إليه ليضمه ليحتضنه و يلثمه. وقف الشباب الهاشمي أمام المشهد الحزين، وقد دام العناق طويلا. فماذا تتصور عن عناق صدق الأشواق. عناق لحظات الفراق.
أجل إنها آخر فرصة، لتبادل القبلات المنغصة.
و فهم علي الأكبر، و أدرك من تلك الإجراءات الأبوية أنه لا مانع من خوض غمار الحرب الرسالية فوراً، فمال إلى جواده ، الذي أعده و أسرجه ، فامتطى صهوته ، واتجه نحو تأكيد الحقائق، و راح عيون الهاشميين ، ترمقه بحب عظيم و إشفاق كبير، فكيف بأبيه الحسين ، الذي أخذت عينيه ترافقه، و استمر يلاحقه بنظراته و تابعه بقلبه البصير، الذي يخفق على النهاية و المصير، لهذا الفتى
المحمدي، لقد وجدناه يحول طرفه ليرمق السماء ، و ليناجي ربه، رافعاً شيبته الشريفة ، و قد أرخى عينيه لتسيل الدموع كل مسيل:
«اللهم أشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولِك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، و كنا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه».
«اللهم فامنعهم بركات الأرض ، و فرقهم تفريقاً، و مزقهم تمزيقاً ، و اجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبدا، فانهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا يقاتلوننا».
في تلك الأثناء كان علي (سلام الله عليه)، يبتعد رويداً رويداً متجهاً نحو الحشود البشرية المتراكمة كالغنم النائمة ، و قد وبخ الإمام، قائد الأعداء، عمر بن سعد بن أبي وقاص، و توعده مؤكداً له استحالة حصوله على نيل مصالحه من قتال عترة
الرسول ، و إبادتهم ، و قطع رحمهم، فصاح به.
«ما لَك! قطع الله رحمك ولا بارك الله لك في أمرك، و سلط الله عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي، و لم تحفظ قرابتي من محمد رسول الله».
ثم حول طرفه إلى ولده، الذي دنا من الجيش الهجين ، وأخذ ينظر إليه، و قد رفع الإمام صوته ،و هو يتسلى بتلاوة قول الله تبارك وتعالى:
«إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم».
سمع الجميع تلاوة الإمام الحسين (سلام الله عليه)، سمعوا حقيقة كون علي الأكبر ممن اصطفاه الله سبحانه، و ارتضاه، و انه ماضٍ إلى حيث أداء حق الاصطفاء ، و حق المسؤوليات في ظل العز والإباء.
محاولة أموية لاستمالته:
ساد في
العصر الجاهلي البائد صراع و خراب، أدى إلى سفك الدماء و إراقتها دونما حساب، و ذلك بفعل الروح العشائرية و العصبية القبلية، و قد اشترك في تلك الحروب و المعارك ، أفراد وجماعات ، قد لا ناقة لهم فيها و لا جمل ،كما يقول المثل.
فلا يتأخرون عن إشعال نار معركة لأدنى سبب تافه و صلة قربى رخيصة، و لربما كانت صلة مصطنعة وهمية أو مجرد استلحاق لا غير. و يكفينا ، أن نتذكر أدوار زياد بن أبيه و مهامه الإجرامية الشنيعة عقيب استلحاق معاوية له بأبيه، صخر بن حرب (
أبا سفيان) ، إذ أضحى زياد بن أبي سفيان، و صار أبا سفيان، والد زياد بالإستعارة، فكان عليه ، أن يؤدي حق النسب و الرحم، و قل حق الاستلحاق، و الرابطة الوهمية. و قد جرت على الأمة ويلات و مآسي نتيجة لوهم النسب هذا ، و نتيجة لتمكين
معاوية لزياد من رقاب المؤمنين.
فالمعاني الجاهلية ، التي عادت لتسود في زمن بني أمية ،كان لها الأثر البالغ في صنع كثير من الأحداث ، و في حرب أهل الحق و آل الرسول..
و يحدث أحياناً إستمالة بعض العناصر من طرف ما إلى طرف آخر من هذا المنطلق ، و وفق منطق الصراع القبلي. فما أن يُلاحظ وجود عناصر أو عنصر واحد له صلة رحمية ، حتى يعرضوا عليه منطق حمية الجاهلية. و قد أشرنا إلى أن جدة علي الأكبر لامهِ، و هي ميمونة من بني أمية.
«و لهذا دعاه أهل الشام - حسب قول ا
لبخاري - إلى الأمان، و قالوا: إن لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، يريدون رحم ميمونة بنت أبي سفيان».
و هذا ما أشار إليه
الزبيري، و لم يقل أهل الشام أو، أن القائل هو شامي ، وإنما عراقي.
«و كان رجل من أهل العراق ، دعا علي بن الحسين الأكبر إلى الأمان، و قال له:« إن لك قرابة بأمير المؤمنين يعني يزيد بن معاوية، و نريد أن نرعى هذا الرحم! فإن شئت أمناك» .
و ثمة شيء آخر ، و هو أن قائد الجيش،
عمر بن سعد بن أبي وقاص من أم أموية ، و هي أخت ميمونة أي من بنات أبي سفيان.
فللنسب و الرحم سلطان على نفوس الناس، يسوقهم ، حيثما اشتهى من بيده زمام اللعبة، كسلطان الطائفية اليوم في السياسة الدولية المعاصرة، حيث إن السُني أو الشيعي، ثم المسيحي أو اليهودي، أو من له أدنى رابطة بأي من تلك الطوائف ، يمكن أن يُسخر ،، و يستغل ويستخدم، و هو ما نلاحظه ، و نلمسه لمس اليد.
و لأن سلطان العصبية مستحوذ على الأمويين، و أذنابهم من الشاميين و العراقيين، و لأن سطوة القبلية مهيمنة عليهم، برزت أطروحة حمية الجاهلية بلا حياء و لا خجل ، و عُرضت على علي الأكبر ظناً منهم بجدواها، و قد كانوا من البلادة و الغباء ، بحيث قارنوا أفذاذ الأمة كعلي الأكبر بأنفسهم ، هم شذاذ الآفاق و نبذة الكتاب، و نسوا أن علياً و نظائره ، لا يستجيبون لتلك الدعوات حتى ، و إن بلغ السيل الزبى.
فما موقف علي من تلك الأطروحة وذلك العرض؟
لابد أن ندرك بأن العرض هذا رخيص، و علي يتجاوب مع العرض الثمين النفيس، الذي يكون أقل ، ما يدفع له الجسد و الروح. و قد سبق له أن استجاب لعرض لا يدانيه عَرض آخر، لم يقدمه شامي و لا عراقي، عرض ليس من أجل يزيد والرحم. و إنما قدمه رجل آخر، و أي رجل ذلك الذي هز مهده جبرائيل، سبط سيد المرسلين و نجل سيد الوصيين و ابن الصديقة الطاهرة
سيدة نساء العالمين. أي رجل هذا وأي عرض يحمل. إن هذا الرجل بذاته وعظمته يكفي قبل أن يقدم ما عنده من عرض مبدئي، فهو بذاته عرض رسالي نفيس لا يقاس.
أجل ، إن لعلي الأكبر عهداً و وعداً بالمصادقة على ميثاق وقعه حول ما قُدم له، حيث أطروحة الحسين الحرة، ولهذا أجاب أهل العرض الرخيص بجواب حدي بقوله:
«لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله أحق أن ترعى».. ثم هجم عليهم.
فلا رحم ، و لا قرابة أقدس مما وصى القرآن بها ، و حرص بشدة عليها، فأي يزيد أم أية رحم أموية هذه.
«لقرابة رسول الله أحق أن ترعى من قرابة يزيد بن معاوية.. ثم شد عليهم».
و بهذا فقد قابل علي منطق الجاهلية الرعناء، بمنطق
الرسالة و
القرآن العظيم ، «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى».
و أعظم ما في الموقف ،أنه لم يقل لهم أنه أبي وأنا ، ابنه فعليَّ ، أن أدافع عنه، و لم يذكرهم ، بأنه سليل الرسول ، و لهذا يراعي رحمه و صلته بالهاشميين، و إنما كان جوابه ، جواب المؤمن بالرسالة و حتمية ، حفظ قربى الرسول، و قد يكون مستساغاً، أن يعلن كونه يراعي نسبه المقدس ، و لم يعلن ذلك ، و إنما قرر بصيغة جوابه، الواجب الشرعي على كل فرد مسلم ، كأمر مفروض ، لا محيص عنه ، و لا مناص منه ، «فقرابة رسول الله أحق أن ترعى»، لا لأنها مجرد قرابة الرسول، و إنما لأنها قد أنيطت بها الرسالة و الدين الحنيف.
أخيراً: كان علي في غنى عن تلك البادرة البليدة، لأنه أسمى من تلك العروض التافهة، لكن العدو ، كان مضطرب العقلية مرتبك الموقف. كما أننا في غنى عن الوقوف الطويل هنا، لولا الحاجة الماسة للتأكيد البياني على الأخلاق الجاهلية و القيم و المثل الجاهلية ، التي حورب بها الإمام الحسين و آله و أنصاره، من حيث عورضت بها الرسالة من قبل ، و حورب بها مسبقاً جده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).
المجاهد العنيد
الجولة الأولى:و إمتشق حسامه المهند من غمده، و نزل مخترقاً صفوف العدو المتكبر، فراح الأكبر في كبرياء العز يضرب الأجلاف ، و يجندل الجبناء، و يحصد بهم فيوقع أكبر الخسائر في أوساطهم. راح يضربهم فوق الأعناق ، و يضرب منهم كل بنان.
ظهر تأثيره عليهم ، حينما دخل دائرتهم ، و أخذ يخوض في وسطهم العسكري، ليمزق جمعهم ، و يفرق صفوفهم ، و يشتت شملهم الشريد، فقلب وقوفهم ، و حالة سكونهم إلى حركة دائمة، و ركض و هروب فهزيمة، فالرجل من إذا هرب نجا.
و غاب شخص علي الأكبر بينهم غياباً تاماً ، يتجلى للعيان بما يلعبه فيهم ، و يؤثر عليهم، فلا يظهر منه غير نشاطه المتمثل بهز العسكر ، و زعزعة الجيش ، إذ كان نزاله المسلح بكل طاقاته، و قدراته مما أعيى الفرسان المدججين و الكماة الناصبين، و استمر في فعالياته البطولية يخرق الصفوف ، و يتحدى السيوف.
نزل فيهم نزول الأسد الجريح، و خاض بهم خوضاً ، لم يشهدوا له مثيلاً قط، فما يترك كتيبة ، إلا و عاد إليها ، و ما يلبث ، أن يرجع لمن فرقهم بسيفه الصقيل، مضى يتصرف بهم حسبما يريد، و قد عجزوا عن وضع حد له ، و إيقاف قواه التي تواصل استعراضهم ، فتكيل لهم الضرب ، و تنزل بهم الخسائر الجسيمة.
«ولهذا حرصوا على أن ينتقموا منه بعد قتله، وذلك بتمزيق جسده».
حتى إذا ما جهلوه ، و ظنوا أنه علي بن أبي طالب قد خرج إليهم، لأنهم لم يصدقوا ، أن هذه الحمالات الشجاعة لغيره، طفق يكشف لهم عن هويته المقدسة و اسمه الشريف - كما قيل عن سبب ارجوزته التالية -. أو أنه أراد توضيح شخصيته و مهمته المنوطة به، فبادر معلناً لهم، و هو ما زال ماضياً بعزم لا يلين، ينشدهم أنشودته الخالدة وأرجوزته المجيدة.
| أنا عـلي بـن الـحسيـن بـن عــــلي |
نـحـن ورب البيت أولى بالنبي | |
| تا الله لا يـحـكم فـيـنـا ابن الـدعـي |
أضرب بالسيف أحامي عن أبي | |
ضرب غلام هاشمي علوي و
أعلن لهم ، أنه
نجل الحسين ،
حفيد أمير المؤمنين علي.
كما أعلن رفضه لحكم الطلقاء و سياسة إدارة الأدعياء ، فلا وفاق عليها مهما بلغ الثمن «تالله لا يحكم فينا ابن الدعي».
أبلغهم ، أنه سيواصل سيره بسيفه المصلت فوق رؤوسهم ذاباً عن الدين الحنيف و محامياً لأبيه سيد الأمة.
نبههم ، أن صرامته وتصلبه، و ضرباته الفتاكة لها ما وراءها من رصيد هاشمي، فقوة ضربته و عزيمة ساعده، و تحمله لمشاق المعارك ، و هول الحروب ، إنما له أصالته بدءً من هاشم خير الكيان القرشي.. تلك المعاني السامية و الإيحاءات الجدية تصك أسماع الأعداء، و هو يكرر انشودته ، وي كر عليهم كرات جده الكرار فلا يعرف أي معنى للفرار.
«فلم يزل يقاتل حتى ضج أهل الكوفة لكثرة من قتل منهم، حتى روي أنه علىعطشه قتل مئة وعشرين رجلاً» .
لم يفت في عضده العطش ، بل حتى الجراح المعضلة، يسمو يحدق فيهم متعالياً فوق الجواد الناهض. و إذا ما تحاوموه بجمع و كتائب يردهم و يجبرهم على التقهقر و النكوص قسراً.
| يـرمي الـكـتـائب والفلا غـصت بها |
فـي مـثـلها مـن بـأسـه المتوقد | |
| فـيـردهـا قـسراً عـلى أعـقابــهـــــا |
فــي بـأس عرنين العرينة ملبد | |
و ما همَّ بالعجز، و هو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامية المتدفقة دماً عبيطاً، حتى إذا زاد ألم العطش ، و أخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح و الدماء السائلة، و رجع وهو يأمل ، أن ينال شربة من الماء لو وصل إلى المخيمات.
العودة المؤقتة:
و عاد ولكن ليرجع، عاد كيما يعود إليهم، إذ توعدهم ثم إنه على موعد مع الله سلفاً، موعد لا يخلفه في مكان و زمان سوى... غير أنه ، الآن عطشان لحد قد يمكن العدو منه، فهو ظمآن إلى درجة تفقده الرؤية الجيدة، فلا يرى الأوباش ، ولا يميز الأشياء.. عاد.
عاد ،و هو يحمل رأس أحد فرسان الأموية المدعو،
بكر بن غانم، الذي تحدى علياً و صمم على قتله بقوله: «لأثكلن أباه»، لكن علي الأكبر تلقاه فبارزه ، حتى صرعه و أرداه و حمل رأسه ، و هو يحس بالجهد الشديد الوطأة ، فوصل المخيم الحسيني ، و قد رمى بالرأس، و هو يردد.
وإذا بـــرزت فـــصيدي الأبطال |
صيد الـمـلــوك أرانـب وثــعــالـــب |
هذا ما جاء في رواية.. بينما أجمعت الروايات حول عودته المؤقتة، على جفاف حشاشته، و يبوس فمه، و ذبول شفتيه، حتى بلغ لسانه أقصى حدود الذبول بعظم الظمأ الذي ناله.
فهل كان متيقناً، أو معتقداً حصوله على جرعة ماء يطفي بها لهيب العطش؟ فنحن نقرأ له كونه طلب من أبيه شربة من الماء..« يا أبه: العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل، أتقوى بها على الأعداء ».
فترقرقت و اغرورقت عينا أبيه.
و أي سبيل هذا يا سيدي.. أم كيف.
ليت شعري.. أو ما يرى عليّ حال أهله و ذويه، و يبوس حتى شفتي أبيه، و إن فاقد الشيء لا يعطيه.
و كأني به يجيب فيقول: «أجل و هو كذلك، فأنا أدرى بسر الحال، ولكن الأمل.. إنه الأمل في إطفاء غائلة الظمأ».
إنه يعلم جيداً، بيد أن أمله ، كان قوياً وأراد أن يقتنع أو يقنع نفسه فقط، فهي حالة نفسية ألحت عليه بالعودة ، و إلا فالماء غير موجود، «ولكن لحاجة في نفس يعقوب قضاها».
و هذا الحد الأدنى من أمل الإرتواء النسبي لم يتحقق، و لذا دمعت عينا أبيه الحسين، و لا أدري كيف دمعت، و سالت الدموع ، حينما أجاب الأب العطشان ولده بقوله: «واغوثاه.. ما أسرع الملتقى بجدك ، فيسقيك بكأسهِ شربة، لا تظمأ بعدها أبداً ». و في رواية أنه أجابه بقول:
«يا بني قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدك محمداً صلى الله عليه وآله ، فيسقيك بكأسه الأوفى».
و عن
الخوارزمي: «فبكى الحسين و قال: يا بني، عزّ على محمد و على علي و على أبيك ، أن تدعوهم ، فلا يجيبونك، و تستغيث بهم فلا يغيثونك، يا بني هات لسانك، فأخذ لسانه فمصه، و دفع إليه خاتمه ، و قال له: «خذ هذا الخاتم في فيك، و ارجع إلى قتال عدوك، فإني أرجو أن لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه ، الأ و فى شربة لا تظمأ بعدها أبداً».
ثم إنه (عليه السلام) ، إنتزع الخاتم ليضعه علي في فمه تحت لسانه.. و هذه عملية اسعافية، قد تفيد ان للخاتم - أو أي شيء بنفس حجمه - دور في إثاره الغدد لتفرز ما يسعف الحال.
و بعد أقل القليل من الماء، فعطف ليودع أمه ، التي روي عنها ، أنها كانت شديدة القلق عليه ، حتى أغمي عليها ، و أفاقت و رأسها في حجر ولدها العائد من الجولة الأولى ، و الذي لا بد له من جولة ثانية ،لكيما ينال شرف
الشهادة المقدسة.. و راح يودع الجميع ليواصل المسيرة الفردية المسلحة رغم مكابدته لوطأة العطش ،و ظنى الظمأ، و قد كتب في حالته هذه أحد الشعراء المؤمنين قائلاً فيه:
ويـؤوب للـتــوديــع وهــو مــكابــد |
لــظمـى الـفؤاد وللحديد المجهد |
صادي الحشا وحسامه ريــان مــن |
ماء الـطلا وغــلـيـله لـم يـبـرد |
يشكو لخير أب ظماه ومــا اشــتكى |
ظمأ الحشا إلا إلى الظامي الصدي |
كانت حـشاشـته كـصالية الـغــضـــا |
ولـسـانـه ظـمـأ كـشـقـة مـبـرد |
فانـصـاع يـؤثـره عــــلـيـه بـريـقـه |
لــو كان ثمة ريـقـه لــم يـجـمـد |
ومـذ انـثـنـى يـلـقى الـكريهة باسماً |
والموت منه بمسمع وبمشـهـد |
لف الوغى وأجـالـها جـول الـرحى |
بـمـثـقـف مـن بـأســه ومـهــند |
الجولة الثانية:
(ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً...
وما أروع هذا الارتواء الروحي والشربة المعنوية والجرعة المشبعة بالمعاني الجليلة، وقد عملت عملها في نفس علي الأكبر، فغدى إلى الحلبة في جولته هذه وهو أشد اشتياقاً للارتواء الأبدي بماء الكأس الأوفى لجده المصطفى من حوض الكوثر وجنة عدن.
إنها لبشارة مبهجة، لا يعيها أو يستوعبها فيتأثر بها إلا ذوي العلم والإيمان واليقين بما ينتظرهم من نعيم الفردوس ويفيض من على موائدها أو ضفاف أنهارها.
وتقدم البطل، العملاق العطشان الراوي من الإيمان.
وامتشق حسامه فرن رنينه إيذاناً ببدء، فعالياته وشق الرمال معتلياً صهوة جواده الذي خلف وراءه غبرة غليظة ممتدة. شد عليهم ليكتسحهم كسحاً، ويكرد جحافلهم كرداً.
(فزحف فيهم زحف العلوي السابق، وغبّر في وجوه القوم، ولم يشعروا أهو (الأكبر) يطرد الجماهير من أعدائه، أم أن (الوصي) عليه السلام يزأر في الميدان، أم أن الصواعق تترى في بريق سيفه، فأكثر القتلى في أهل الكوفة حتى أكمل المئتين)(52).
هذا وهو يؤكد لهم بأن ثمة حقائق قد تجلت للحرب هذه، وهي حقائق ثابتة، ولا مجال للتفريط في حق تلك الحقائق ذات البراهين والمصاديق الواضحة البينة على الساحة فأثناء شنهِ لحملاته، صرح لهم مؤكداً وبأسلوبه الجميل من خلال أرجوزة جملية وأنشودة ثانية جليلة، كررها على مسامعهم بمنطقه المسدد:
| الـحـرب قـد بـانـت لـهـا حـقـائــــق |
وأظـهـــرت من بعدها مصادق | |
| والله رب الـــعــــــرش لا نـفـــارق |
جــمــوعــكــم أو تغمد البوارق | |
فبناء على تلك الحقائق وما تبعها من مصاديق عملية، فهو يواصل دورُه أبداً دون أن يترك الساحة، كيما يقوم بتدعيم المصاديق، ولن يفارق مهمته قط، لأنه سليل أهل الحق وسادة الحقيقة وربان الحقائق التي بدأت جلية على أيديهم وواصلوا الكفاح من أجلها، والجهاد خلال الصراع في خضم التنازع على البقاء والإبقاء، وإنه سيبقى وسيثابر على ثباته ويكرر وثباتهِ بتحدٍ وصرامة وغلظة (والله رب العرش لا نفارق).
فاضمروا له الكيد، وبينوا له المكر، إذ أوغر صدورهم وملأها رعباً وقلل من شأن شجعانهم، مستصغراً فرسانهم.
مضى بلا ملل يؤدي أعماله في ضوء أقواله، ويحقق منطق انشودته الخطيرة، وليبر بقسمه براً لا حد له، عبر صولاته المحمدية، صولة إثر صولة وسط الحلبة في آخر جولة، زاحفاً زحفه الجهادي باطشاً بطش الأسد الغاضب.
ويكاد ينهار البطل العقائدي العطشان، فقد تقاسمت طاقاته كل من : التعب والإرهاق، والظمأ الشديد، والجراح التي توزعت على جسده الشريف، فأخذ الدم يتدفق وينساب من جراح جسمه كالميزاب.
لكنه ظل شامخاً بجراح جسده يقاتل قتالاً شديداً إذ بلغت فيه روح التفاني حد الإستهانة بالدنيا واستصغار شأن الحياة.
قتال من ليس لسلامته أدنى أمل. وعلى هذا الأساس ومن هذا المقياس، عليك أن تتأمل وتحسن تقدير موقف هذه الشخصية الشابة، الشخصية العقائدية العملاقة. فالتضحية من أجل القضايا العادلة، والشباب الدائم، والمثابرة والتوثب على العدو مما لا غنى عنه، إذ أن الصمود قوة نستمدها من الصامدين، والصبر نستلهمه مفهوماً حركياً، لا مفهوماً انهزامياً، مفهوماً إيجابياً حساساً لا سلبياً ردئياً.
والصبر مفهوم حركي علينا أن نستلهم من رواده أبعاده ومراميه، ومنهم نحدد معانيه.
ما برح علي يجول في أوساط معسكرهم يلقنهم أقسى الدروس، ولا يكادون يحددون له ساحة أو موقعاً - كيما يضيقوا عليه - حتى يوسعها عليهم بشنه للهجمات. وشاهد بعضهم جسده الذي سالت منه الدماء كل مسيل، فأدركوا أنه قد ضعف عن القتال أو يكاد. ولاحظوا وهم في رعب وذعر وانهزام أنه قد يجف جسده من الدم كما جف من الماء. وعندها سيشفون به صدورهم الموغرة.
الانتقام:
(عليّ آثام العرب إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)(53).
هذا ما قاله أحد المرتزقة في معسكر العدو، وقد إلتاع وتعذب من شدة حملات علي الأكبر وصولاته حتى بلغ من البغض له والحنق عليه والحقد بحيث صمم على التصدي لهذا المجاهد العطشان، ولاشك أن هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزيمة وجبن من سيف عليّ الأكبر، ولكنه حينما لاحظ تعب عليّ وإرهاقه تجرد من جبنه واستجمع جرأته وقال قولته تلك.
إنه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدي) الذي تتضح روحه الجاهلية من كلماته ومنطقه (علي آثام العرب يستحقها وهي عليه وهو بمستواها، إذ إنه كاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسيد العرب والعجم، وبالرغم من المنطق القرآني الناهي لمثل ذلك المعنى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) نجد أن ذلك الجندي الجاهلي مصمم على تحمل أوزار العرب، مع أنه مستوزر كثيراً من الأوزار، وهكذا أحب أن يحمل على ظهره هو ومن على شاكلته أوزاراً ثقيلة لا طاقة لهم ببعضها. (ومن أوزار الذين يضلونهم ألا ساء ما يزرون).
ولولا العار عليه من قبل رفاقه لصمم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لكن صيغة تصحيحه تلك أقل كشفاً لمضمونه الجاهلي كما يتوهم، وعلى كل حال فإن الأهداف والدوافع الدفينة قد انكشفت، وتكشفت عن الحرب الجارية هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.
| الــحـــرب قــد بــانــت لها حـقائـق |
وأظــهــرت مــن بـعدها مصادق | |
ولكي لا نهمل النص السابق علينا أن نلاحظ ما فيه ونرى ما يمكن أن نستوحيه. قال: (... إن مر بي)، كما قال: (... وهو يفعل مثل ما كان يفعل).
يبدو جلياً أن علياً كان لا يترك لهم جمعاً إلا ومر به ولا كتيبة إلا وهاجمها، وكأنه كان يستعرضهم بحملاته استعراضاً عسكرياً مرعباً، بحيث أنه ما أن يترك كتيبة إلى غيرها حتى يعود إليها وإلى غيرها، وهكذا كان نشاطه منقطع النظير بحيث أنهم يتوقعون معاودته وكرته عليهم ثانية لهذا توقع ذلك الجندي فقال: (... إن مر بي).
ويبدو أنه كان يفعل بهم فعلاً لهم يشهدوه طوال حياتهم العسكرية من شاب مسلح بمفرده، فكان استعراضه للجيش رهيباً إن مرة العبدي لاحظ حرص علي الأكبر على تلقين جموعهم دروساً قاسية وتعليم جحافلهم حقائق بطولية رسالية لا تنسى لاحظ حرصه على عدم إهمال أي كتيبة دون أن يطعمها بالقتلى والجرحى ويختم لها بالهزيمة المنكرة فحقد حقداً قوياً. (عليّ آثام العرب، إن مر بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه).
فانتظر دور الكرة العلوية على كتيبته الأموية، وقد نزع منه لباس الهروب والهزيمة، وكأنه نسي أنه جبان جلف جافي..
فراح يتربص ويلتمس الفرص، ليطعنه ولو عن بُعد منه، وبينما كان الشجاع العطشان يستعرضهم رغم ضعف بدنه ذي الجراح المثخنة المكثفة، ويزحف على جموعهم بالتتابع، كأنما هو زحف منتظم، وبينما كان يشق طريقه مقاتلاً بقواه الباقية، دنا الجندي المرتزق فتأهب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق مسدداً رمحه الطويل في ظهر علي(54) سلام الله عليه فغرز الرمح - أو السهم - فيه، فانحنى علي على جواده، ثم ثنى له العدو بضربة على رأسه الشريف، ففجه، حينها أطلق علي الأكبر صوته بالسلام على أبيه.
(يا أبتاه عليك مني السلام. هذا جدي يقرئك السلام ويقول لك عجل القدوم إلينا).
ثم شهق شهقة فاضت أثرها روحه الزكية.
لكنهم لم يتركوه، فثمة دور ومهمة لهم. ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذي أذاقهم مر طعم المواقف المسلحة؟؟؟
الشهيد
المنتقمون
ما أن تناهى إلى مسامع أبيه الحسين صوت حبيبه وسلام ريحانته حتى طفق نحو الساحة معتلياً جواده، كأنه في سرعته طائر ينقضّ من علو الفضاء.
ولكن بأي حال وجده أم بأي وضعية رآه.
لقد وجده جسداً ممزقاً مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعض أوصاله من جانبي جواده الذي كساه الدم الزكي حلة حمراء... هكذا تركوه.
فلم يتركوه إلا بعد أن مثلوا به سريعاً، إذ إحتوشوه من كل جهة، وما أسرع ما وضعوا سيوفهم وحرابهم وسكاكينهم ليقطعوه تقطيعاً ويمزقوا جسمه تمزيقاً. ليشفوا غيظ صدورهم، ويرووا حقد قلوبهم مما أدخله عليهم من عذاب دنيوي هذا الشاب العطشان الشجاع الذي شكل جيشاً يقابلهم بمفرده، وعسكراً لوحده، وأمة بذاته.
كان (سلام الله عليه) صلباً صابراً في الباساء، شديداً في الله، غليظاً على الأعداء، الأمر الذي يفسر شوق ابن العبدي للإنتقام منه، ثم أشواق أولئك المرتزقة الذين آلوا إلا أن يشبعوا غريزة الإنتقام، وكان كل منهم أراد أن يتبرك بجسده ويتزلف للشيطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التي أذاقتهم مر الحياة، وحنظل المواقف العسكرية.
ولولا محبي الإمام الحسين (عليه السلام) لأكلوه، لأكلوا كبده وقلبه، وما يدريك؟ ولم العجب؟ ألم تلوك (آكلة الأكباد) هند الأموية كبد عمه حمزة الذي كان يجول في بطحاء الجزيرة.
أجل لولا إسراع الحسين لأتوا على أشلائه بأنيابهم فضلاً عن حرابهم، ولكان أثراً بعد عين.. وتلك سجية الأجلاف.
وصل الإمام إليه، وأخذ يطيل النظر إليه، ثم إلتحق به شباب هاشم مواقعهم حول الجسد الصريع وهم يقرؤون آيات البطولة الرسالية والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشمة.
وهدأ جيش الأعداء بعد ضجيج دام خلال الجولتين وسكن العسكر بعد اضطراب طويل، فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجر القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالية فيما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنين الشقاء يصدر منهم، بينما انشغل الباقي بتراشق التهم والعيوب وكل منهم يعيّر صاحبه بالهزيمة ويتبرأ كذباً من الهروب.