السيدة زينب (عليها السلام).. الأدوار والمهام
لا شك ، إن لزينب (عليها السلام) مزايا ، و صفات ميزتها عن النساء ، و جعلتها سيدتهن و النموذج المتعالي في سماء المجد و البطولة و الافتخار، فهي السيدة التي فاقت الفرسان في عزيمتهم ، و الصناديد في شكيمتهم، إنها المرأة الحية، اليقضة، التي أبانت عن عزمها ، و صلابتها لحظة بدأ الطغيان، لقد اعادت زينب حقاً لهذه الأمة الإحساس بكرامتها، فيما كانت فلول الرجال ، تبيعها مقابل بضع ثمرات من دنيا يزيد.
فليس من اليسير ، أن يصف المرء حال السيدة زينب (عليها السلام) يوم عاشوراء ، تلك المرأة ، التي وقفت بصلابة و شموخ ، و هي ترى أقرب الخلق إليها ، يُذبحون كالأضاحي، فيما هي بقيت تكافح كشجرة وحيدة في مهب رياح عاتية، و جل غايتها ، أن تحمل الرسالة التي سلمها إياها أخوها ، الحسين (عليه السلام) ، و هو يتهاوى على رمضاء كربلاء.
و ما ،إن سقط الحسين (عليه السلام) في أرض المعركة ، حتى تدافع جيش عمر بن سعد نحو الخيام، و كانت تلك الأوقات من أشدها على العقيلة ، فصاحت يا ابن سعد: « إذا كان جيشك يبغي السلب، فنحن ندفع إليه كل ما بأيدينا، ولكن كف رجالك عنا، ثم جمعت الأطفال و النساء و أمرتهم بإلقاء ، كل ما عندهم في زاوية، و إلى جانب مسؤوليتها في حفظ النساء و الأطفال، حملت مسؤولية كبرى، هي الحفاظ على حياة ابن أخيها العليل ، علي بن الحسين (عليه السلام)، فكانت تحول بينه و بين الأعداء، و تواجههم بكل شجاعة.
زينب (عليها السلام) و الاختيار الصعب
لقد اختارت السيدة زينب (عليها السلام) ، دورها في ثورة الحسين بوعي سابق ، و إدراك عميق، حيث إنها كانت المبادرة للمشاركة ، كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقف و الوقائع الثورية. و لأنها كانت مختارة و مبادرة عن سابق ، وعي و تصميم، فإنها كانت تنظر الى ما واجهته من آلام ، و مآس قاسية ، تتصدع لهولها الجبال الرواسي، بإيجابية و اطمئنان، و تعتبرها ابتلاءاً و امتحاناً إلهياً ، لابد لها من النجاح فيه.
و حينما حدثت الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين (عليه السلام) ، بعد قتل كل رجالات بيتها و أنصارها ، خرجت السيدة زينب (عليها السلام) ، تعدو نحو ساحة المعركة ، تبحث عن جسد أخيها الحسين ، غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجج بالسلاح، فلما وقفت على جثمان أخيها العزيز ، الذي مزقته السيوف ، جعلت تطيل النظر إليه ، ثم رفعت بصرها نحو السماء ، و هو تدعو بحرارة ولهف: (اللهم تقبل منا هذا القربان). إن ذروة المأساة ، و قمة المصيبة ، هو مورد للتقرب الى الله تعالى عند السيدة زينب (عليها السلام) ، و ذلك هو قمة الوعي ، و أعلى مستويات الإرادة و الاختيار.
و حينما يسألها عبيد الله بن زياد ، أمير الكوفة ، و واجهته السلطة الأمية في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً: (كيف رأيت فعل الله بأخيك؟) ، فإنها تجيبه فوراً بجرأة ، و ثقة ، و ثبات ، و صمود قائلة: (ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم، و سيجمع الله بينك و بينهم، فتحاج ، و تخاصم ، فانظر لمن الفلج ، يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة).
و تختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية ، بتأكيد رؤيتها الإيجابية ، لما حصل لها ، و لأهل بيتها من مصائب و آلام ، حيث تقول: ( و الحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة، و لأخرنا بالشهادة و الرحمة، و نسأل الله ، أن يكمل لهم الثواب، و يوجب لهم المزيد، و يحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود، و حسبنا الله ، و نعم الوكيل).
زينب (عليها السلام) و الامتداد الحسيني
يقترن دور زينب (عليها السلام) في التاريخ الإسلامي بموقعة كربلاء، فكما أن للحسين (عليه السلام) حقاً على المسلمين، كان لعقيلة بني هاشم حق على المسلمين الى يوم الدين،
فلولا شهادة الحسين (عليه السلام) ، و لولا وجود من يبلغ رسالته ، التي اطلقها في عاشوراء ، لما كان من بعده ، و لا قيم إيمان ، و لا سلام ، و لا صلة ، تربط الإنسان بالدين.
و من المعروف قدرة يزيد و أعوانه عل طمس موقعة كربلاء ، و خنق أدائها، لولا جهود زينب (عليها السلام) ، التي بذلتها في مسيرتها الطويلة من كربلاء الى الكوفة ، ثم الى الشام و منها الى المدينة. و كان بوسع الأمويين، لولا ذلك، أن يتهموا الإمام الحسين (عليه السلام) بالخروج لطلب الدنيا، و أن الله خذله و نصرهم، أو أنه أراد الفتنة في بلاد المسلمين ، فقطع الله دابر الفتنة. ولكن حاملة الرسالة العقيلة زينب (عليها السلام) ، هي التي أفشلت خططهم، و ردت كيدهم الى نحورهم ، و رفعت راية عاشوراء عالية ، ترفرف في كل مكان ، و الى يوم الدين.
موكب الأسرى في الكوفة
دخل موكب أسرى آل بيت (عليهم السلام) مدينة الكوفة، فاستقبلته النساء بالبكاء و العويل و الطم على الخدود. فانزعجت العقيلة كثيراً، و قد رأت هؤلاء القوم ، و هم يخذلون أباها، ثم ينقلبون على أخيها الحسن (عليه السلام) ، و يستدعون بعد ذلك أخاها الحسين (عليه السلام)، حتى إذا أجاب دعوتهم خرجوا عليه بسيوفهم ، فقتلوه و أهله و صحبه، ثم هم يأسرون نساءه و أطفاله في موكب ذليل، و يستقبلونهم، بعد ذلك، بالبكاء و العويل، فانطلقت زينب (عليها السلام) تهدر فيهم بخطبة مجلجلة ، تسمعهم فيها أنواع التأنيب و التقريع على مواقفهم المخزية ، و تخاذلهم المشين.
و ما زالت تواصل إبلاغها رسالتها في حلها ، و ترحالها، حتى بلغت الشام ، و دخلت مجلس يزيد ، فخطبت خطبتها العصماء ، التي أرهبت قلوب الظالمين، و زعزعت عروشهم، فحاول يزيد التخلص من هذا الخطر المحدق به، و من معها الى المدينة المنورة.
زينب (عليها السلام) في مدينة جدها
كان بقاء زينب (عليها السلام) في المدينة ، بمثابة مرحلة غرس بذور الثورة على الحكم الأموي ، و لا سيما في الأوساط النسائية، فقد كانت السيدة العقيلة تهيج الرأي العام في المدينة ، ببياناتها الحماسية و خطبها الصاعقة ، التي تفضح ممارسات الأمويين ، و استهانتهم بمقدرات الأمة و تعاليم الدين ، و كانت خلال ذلك ، تزرع حب أهل البيت و الحسين (عليهم السلام) في نفوس الناس.
و حين تفاقم الأمر كتب والي المدينة الى يزيد ، يحذره عاقبة إبقاء زينب في المدينة، و لم يكن يزيد ، قد نسي خطبتها في مجلسه، فأمر بتفريق أهل البيت في أماكن شتى، و كان له ذلك ، ولكن خاب ظن يزيد، ورد كيده الى نحره، فقد استطاعت السيدة العقيلة (عليها السلام) ، أن تزلزل عرشه، و أن توهن دعائم الحكم الأموي، لتتقوض بعد حين. و هكذا كانت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) ، نموذجاً حياً و خالداً للمرأة الرسالية الثائرة ، التي تدرك عمق مسؤوليتها و أهمية دورها، و كانت بحق أسوة لكل امرأة، فحري بالمسلمات جميعاً ، أن يقتدين بها في كل جوانب الحياة.
لقد كانت زينب (عليها السلام) نموذج المرأة القدوة في جيلها ، و كل الأجيال اللاحقة. و إن الحاجة إلى هذا النموذج ، تكثفت في هذا العصر، حيث نواجه حالة الردة ، التي اصبت المرأة المسلمة، فزيبنب (عليها السلام) تعاصرنا من خلال أبعاد شخصيتها النوعية ، التي من أهمها بعدها الإنساني، إنهم كثيراً ما يعيبون على مواقفنا من المرأة.. لكأنما الإسلام، هو سليل تلك الجاهلية الجهلاء، حينما كانت تسلب المرأة كامل حقوقها، و تجعلها متاعاً ، يورث و دولة بين رجال قومها.
و يتناسون أن رسالة الإسلام ، جاءت لتوقف هذه العنجهية الجاهلية، ليعيد الكرامة إلى هذه المرأة ، و تنهض بها باتجاه إنسانيتها ، أو كما نطق أبوها (عليه السلام): (النساء في شقائق الرجال).. ، ويتناسون أيضاً ، أن مصدر التصور الإسلامي و واقعه التنفيذي ، يجب أن يؤخذ من هذا البيت النبوي ، و ليس من هذا القطيع الشارد ، الذي لم يقطع حبله السري بأنماط الحياة الجاهلية.
إننا أما زينب (عليها السلام) نموذج المرأة المسلمة كما أردها الإسلام، و كما جعلها حجة حية، ناضبة بالحياة ، أما اجيال المسلمين. و هكذا فحينما نريد ، أن نتعرف على المرأة المسلمة النموذجية ، كما دعا إليها الإسلام، نقرأ في شخصية زينب (عليها السلام).
لقد قدمت زينب (عليها السلام) من خلال عاشوراء ، مثالاً حياً عن الإنسانية الساكنة في أعماق امرأة رسالية، تنتظر بعين الله ، و تناضل من أجل رسالته. و قد مثلت جانب المرأة ، التي يأوى اليها الفرسان من ذوي القربى، فإذا بها تزوهم بكل المعنويات ، و تمدهم بعناصر القوة و الصبر و الاستماتة.