• عدد المراجعات :
  • 1013
  • 3/28/2004
  • تاريخ :

الأئمة و دورهم في حفظ السنة النبوية

يا قائم ال محمد

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يكاد المسلمون يجمعون أن القرآن الكريم قد جمع وكتب على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما روى ذلك عدة من المسلمين منهم: ابن أبي شيبة وأحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي والضياء المقدسي عن ابن عباس، وروى ذلك الطبراني وابن عساكر عن الشعبي، كما رواه قتادة عن أنس بن مالك، وأخرج ذلك النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر(1).

وهناك عدة أدلة أخرى ذكرت في هذا المجال، وكلها توجب القطع بأن القرآن قد جمع في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحيث أطلق عليه اسم الكتاب كما ورد ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ".. إني تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي..." والكتاب لا يطلق إلاّ على ما كان محفوظا بين الدفتين، ويكفيك التحدّي الذي كان في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) من قبل القرآن نفسه في الإتيان بمثله، ولا يصح التحدي إلاّ أن يكون القرآن مجموعا متميزا في زمانه (صلى الله عليه وآله).

قال تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا»(2).

أقول: بعد أن ثبت أن القرآن قد جمع في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يبق من الشريعة مما يستوجب الحفظ والاهتمام به إلاّ السنة النبوية الشريفة، لأن الاكتفاء بالقرآن لا يمكننا من أن نستنبط حكما واحدا بكل ماله من شرائط وموانع، حيث أن أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتصل بالحكم، وإنّما هي واردة في بيان أصل التشريع كآية: ?وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة...?(3).

وآية ?.. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا...?(4).

وآية: ?...كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم...?(5).

وآية: ?واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل...?(6).

وآية ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها...?(7)، كل هذه الآيات الواردة في أهم أحكام الشرع من صلاة وصيام وحج وخمس وزكاة لا يمكن أن نستفيد منها حكما محددا إذا تجردنا عن تحديدات السنة لمفاهيمها وأجزائها وشرائطها وموانعها.  لهذا نرى أنه لا يمكن أن يفهم معنى للإسلام بدون السنة الشريفة، لذا كان لحفظها الأثر الكبير في حفظ الإسلام.

تحديد السنة

السنة في اللغة:

هي الطريقة المسلوكة أو الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة. وفي اصطلاح الفقهاء: تطلق السنة على ما يقابل البدعة. ويراد بها كل حكم يستند إلى أصول الشريعة، في مقابل البدعة. فإنها تطلق على ما خالف أصول الشريعة، وقد تطلق السنة على المستحب والنافلة في العبادات من باب إطلاق العام على الخاص، كما تطلق على ما واظب على فعله النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مع عدم تركه بلا عذر.

وتطلق السنة عند الأصوليين: ـ بالاتفاق ـ على ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قول أو فعل أو تقرير غير ما اختص به (صلى الله عليه وآله).

ويدور كلامنا في هذا المقال حول دور الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) في حفظ السنة بمفهومها عند الأصوليين.

حجّية السنة النبوية

من نافلة القول التأكيد على حجية السنة النبوية والتماس دليل لها، لأنها ضرورة دينية أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن الكريم بقوله ?... أطيعوا الله وأطيعوا الرسول...?(8)?... وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا...?(9) ?وما ينطق عن الهوى. إن هو إلاّ وحي يوحي?(10). وقد تقدم القول منا بأنه لا يكاد يفهم معنى للإسلام بدون السنة النبوية.

ثم إن العصمة الثابتة للنبي (صلى الله عليه وآله) تقتضي أن تكون أقواله وأفعاله وتقريراته من قبيل التشريع أو موافقة للشريعة.

اتجاهان مختلفان حول السنة النبوية

هناك اتجاهان متفاوتان بالنسبة إلى السنة النبوية حدثا في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته:

الاتجاه الأول: ينحو لعدم الاهتمام بحفظ وكتابة السنة النبوية وحتى يمنع من نشرها، خشية أن تختلط مع القرآن الكريم؛ وقد أدى هذا الاتجاه إلى صدور النهي عن كتابة الحديث(11) مثل ما حدث به عبد الله بن عمر حيث قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول (صلى الله عليه وآله) أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: أكتب؛ فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلاّ حق) (12)، كما نسبت في ذلك روايات إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ تنهى عن كتابة الحديث.

ومن الجدير بالذكر: تنبه الاتجاه المانع (وهو الاتجاه الحاكم آنذاك) بعد قرن من الزمان إلى خطل الفكرة، فدعوا إلى كتابة الحديث، بعد أن أصبح واضحا أن القرآن لا يمكن أن يختلط مع غيره الذي لا يكون معجزاً، ولا ينقص الاهتمام بالقرآن نتيجة كتابة الحديث. قال السيد رشيد رضا: (ونحن نجزم بأننا نسينا وأضعنا من حديث نبينا حظا عظيما لعدم كتابة علماء الصحابة كل ما سمعوه)(13).

الاتجاه الثاني: وهناك اتجاه آخر حفظ السنة وكتبها ونشرها وتوارثها وأمر المسلمين بكتابتها.

وهذا الاتجاه قام به الإمام علي (عليه السلام) ومن بعده من أئمة أهل البيت الذين صرحوا بأن ما يقولونه هو عبارة عن السنة النبوية التي كانت محفوظة عندهم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

واليك نموذجا من الأدلة على ذلك من الروايات التي تواترت في هذا الأمر المهم:

أولا: ما ذكره في كتاب الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: "قلت للإمام الصادق (عليه السلام): الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك، أو أسمعه من أبيك أرويه عنك؟

قال (عليه السلام): سواء، إلاّ أنك ترويه عن أبي أحب إلي)(14).

ثانيا: ما رواه في الكافي عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمد عن عمر بن عبد العزيز عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره قالوا:

(سمعنا الإمام الصادق (عليه لسلام) يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز وجل)(15).

ثالثا: ما رواه في المجالس عن الحسين بن أحمد بن إدريس عن أبيه عن محمد بن أحمد عن محمد بن علي عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن آبائه عن الإمام علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم ارحم خلفائي: قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال (صلى الله عليه وآله): الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي ثم يعلمونها)(16).

رابعاً: روى محمد بن محمد بن النعمان (الشيخ المفيد) في المجالس عن جعفر بن محمد بن قولويه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن هارون بن مسلم عن ابن اسياط عن سيف بن عميرة عن عمرو بن شمر عن جابر قال: (قلت للإمام الباقر عليه السلام إذا حدثتني بحديث فأسنده لي:

فقال عليه السلام: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى، وكلما أحدثك بهذا الإسناد)(18).

خامسا: روى علي بن موسى بن جعفر بن طاووس في كتاب الإجازات، قال: مما رويناه من كتاب الشيخ الحسن بن محبوب عن ابن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: سمعته يقول: (ليس عليكم فيما سمعتم مني أن ترووه عن أبي عليه السلام، وليس عليكم جناح فيما سمعتم من أبي أن ترووه عني، ليس عليكم في هذا جناح) (19).

سادسا: روى علي بن موسى بن جعفر بن طاووس قال: ومما روينا من كتاب حفص بن البختري قال: قلت للإمام الصادق عليه السلام نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ؟

فقال عليه السلام: (ما سمعته مني فاروه عن أبي، وما سمعته مني فاروه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ(20).

سابعاً: وروي في الكافي عن محمد بن يحيى عن عبد الله بن محمد عن علي بن الحكم

عن أبان بن عثمان عن عبدالله بن أبي يعفور قال:

وحدثني الحسين بن أبي العلا أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس، قال: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن اختلاف الحديث يروه من نثق به ومنهم من لا نثق به ؟

قال عليه السلام: (إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، و إلاّ فالذي جاءكم به أولى به). ورواه البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم مثله (21).

والظاهر أن المراد من قول رسول ـ صلى الله عليه وآله ـ خصوص قوله ولو بالواسطة فلا يشمل قول غيره.

ثامناً: روى في عيون الأخبار عن أبيه ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد جميعا عن سعد ابن عبد الله عن محمد بن عبد الله المسمعي عن أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الإمام الرضا عليه السلام يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في الشيء الواحد، فقال عليه السلام: (... لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلاّ لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أو نحرم ما استحل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فلا يكون ذلك أبدا؛ لأنا تابعون لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مسلمون له كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ تابعا لأمر ربه مسلما له. وقال الله عز وجل: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(22).

تاسعاً: روى محمد بن الحسن بن قروخ الصفار القمي (ت 290 هـ. ق) في كتابه بصائر الدرجات، قال: حدثنا أحمد بن محمد عن البرقي عن إسماعيل بن مهران عن سيف بن عميرة عن أبي المعزا عن سماعة عن أبي الحسن (الامام الرضا عليه السلام) قال: قلت له: كل شيء تقول به في كتاب الله وسنته أو تقولون فيه برأيكم ؟

قال عليه السلام: (بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيه) (23).

عاشرا: روى محمد بن الحسن الصفار القمي قال: حدثنا أحمد بن محمد عن البرقي عن صفوان عن سعيد الأعرج قال: قلت للإمام الصادق عليه السلام إن من عندنا من يتفقه، يقولون: يرد علينا مالا نعرفه في كتاب الله ولا في السنة تقول فيه برأينا.

فقال الإمام الصادق عليه السلام: (كذبوا، ليس شيء إلاّ جاء في الكتاب وجاءت فيه السنة) (24).

والظاهر أن المراد بالسنة هي سنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ

الحادي عشر: روى الصفار قال حدثنا احمد بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه عن أبي المعزا عن سماعة عن العبد الصالح (الامام موسى بن جعفر عليه السلام) قال: سألته فقلت: إن أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك وسمعوا منهما الحديث، فربما كان الشيء يبتلى به بعض أصحابنا وليس عندهم في ذلك شيء يفتيه، وعندهم ما يشبهه، يسعهم أن يأخذوا بالقياس ؟

فقال عليه السلام: (إنه ليس بشيء إلاّ وقد جاء في الكتاب والسنة) (25).

والظاهر أن المراد بالسنة هي سنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ

الثاني عشر: روى محمد بن الحسن الصفار قال: حدثني السندي محمد بن صفوان بن يحيى عن محمد بن حكيم عن أبي الحسن (موسى بن جعفر عليه السلام)، قال: قلت له: تفقهنا في الدين وروينا، وربما ورد علينا رجل قد ابتلي بشيء صغير، ما عندنا فيه بعينه شيء، وعندنا ما هو يشبهه مثله، افنفتيه بما يشبهه ؟

قال عليه السلام: (لا، ومالكم والقياس في ذلك، هلك من هلك بالقياس).

قال: قلت: جعلت فداك، أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بما يكتفون به ؟

قال عليه السلام: "أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بما استغنوا به في عهده وما يكتفون به من بعده إلى يوم القيامة"

قال: قلت: ضاع منه شيء ؟

قال: (لا، هو عند أهله) (26).

الثالث عشر: روي في الكافي عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال: (سمعت الامام الصادق عليه السلام يقول: من خالف كتاب الله وسنة

محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ فقد كفر) (27).

الرابع عشر: روى الشيخ الطوسي في أماليه وروى الصفار في بصائر الدرجات وروي في ينابيع المودة ـ واللفظ للأول ـ عن أحمد بن محمد بن علي الباقر عليه السلام عن آبائه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي:

أكتب أملي عليك.

قال: يا نبي الله: أتخاف علي النسيان ؟

قال ـ صلى الله عليه وآله ـ لست أخاف عليك النسيان وقد دعوت الله لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن أكتب لشركائك.

قال: قلت ومن شركائي يا نبي الله ؟

قال ـ صلى الله عليه وآله ـ الأئمة من ولدك؛ بهم تسقى أمتي الغيث، وبهم يستجاب دعاؤهم، وبهم يصرف الله عنهم البلاء، وبهم تنزل الرحمة من الماء، وأومأ إلى الحسن عليه السلام وقال: هذا أولهم، وأومأ إلى الحسين عليه السلام وقال الأئمة من ولده) (28).

وقد وردت روايات كثيرة في شأن الصحيفة التي أملاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ على علي عليه السلام وقد خطها علي بيده وتوارثها الأئمة عليهم السلام، وهذه الروايات فيها تفصيل لما ذكر في إملاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ على علي عليه السلام وقد خطها علي بيده وتوارثها الأئمة عليهم السلام، وهذه الروايات فيها تفصيل لما ذكر في إملاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي عليه السلام، إذ فيها "كل حلال وحرام حتى أرش الخدش".

منها: ما رواه الصفار قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عن سليمان بن خالد قال:

"سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول: إن عندنا الصحيفة سبعين (سبعون) ذراعا، إملاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وخط علي عليه السلام بيده، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى أرش الخدش" (29).

ومنها: قال النجاشي: أخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد عن محمد بن أحمد بن الحسن عن عباد بن ثابت عن أبي مريم عبد الغفار بن القاسم عن عذافر الصير في قال:

"كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر عليه السلام (الإمام الباقر) فجعل يسأل، وكان أبو جعفر له مكرما. فاختلفا في شيء، فقال أبو جعفر: يا بني قم فأخرج كتاب علي، فأخرج كتابا مدروجا عظيما ففتحه وجعل ينظر فيه حتى أخرج المسألة، فقال أبو جعفر: هذا خط علي عليه السلام وإملاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد إذهب أنت وسلمة وأبو المقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فو الله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل عليه السلام" (30).

وقد عبر عن هذه الصحيفة في بعض الروايات بالجامعة؛ فقد روى الصفار عن أبان بن عثمان عن علي بن الحسين (زين العابدين عليه السلام) عن الإمام الحسين بن علي عليه السلام قال:

(إن عبد الله بن الحسن يزعم أنه ليس عنده من العلم إلاّ ما عند الناس، فقال عليه السلام: صدق ـ والله ـ عبد الله بن الحسن، ما عنده من العلم إلاّ ما عند الناس، ولكن عندنا ـ والله ـ الجامعة فيها الحلال والحرام.. كيف يصنع عبد الله إذا جاء الناس من كل أفق ويسألونه ؟)(31).

الخامس عشر: روي في كتاب الاختصاص عن حمزة بن يعلى عن أحمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: يا جابر إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهو أنا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم) (32).

الخلاصة

إن كثيرا من الروايات المتقدمة مختلفة من ناحية السند في تمام الطبقات، كما أن بعضها عن الإمام الصادق وبعضها عن الإمام الباقر وبعضها عن الإمام الرضا وبعضها عن الإمام الحسين عليهم السلام، وبعضها عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فهي تورث القطع بمضمونها الذي يقول: إن كل ما يقوله الأئمة هو عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إما قد كتب عندهم بواسطة الكتب التي ورثوها عن آبائهم، أو تعلموه من آبائهم ورووه إلى الناس لأجل أن تتضح معالم الشريعة المستفادة من القرآن الكريم وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وإذا كان حديث كل إمام من الأئمة الاثني عشر، هو عن آبائه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ

حسب الروايات المتقدمة فيجب التسليم لهذه الأحاديث والأخذ بها. ولذا قال (الإمام) أحمد وهو يعلق على حديث الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه حين مر بنيسابور: (لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته) (33)

ومن هذا الذي تقدم نفهم أن مدرسة أهل البيت قد تحملت العبء الثقيل في نشر سنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وحفظها من الضياع في مقابل الاتجاه الآخر، الذي كان يرى في حفظ أو نشر السنة النبوية اختلاط القرآن بغيره، فصدرت النواهي عن كتابة الحديث النبوي أو نشره بين الأمة.

لماذا لم يكن لروايات كتاب الإمام علي (الجامعة) ذكر في كتب أهل السنة ؟

وقد يتساءل المتسائل المنصف عن علة عدم وجود أثر للروايات التي ترويها الشيعة (وهي متواترة) عن كتاب الإمام علي (عليه السلام) الذي كتبه بيده بإملاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والذي فيه كل حلال وحرام إلى يوم القيامة، بل وجد ما يخالف هذه الروايات وبنفيها ويثبت كتابا لعلي عليه السلام صغيرا موجودا في ذؤابة سيفه قد أملاه عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ. وقد ذكر هذه الروايات النافية لكتاب علي الجامعة كل من البخاري ومسلم وذكرت أيضاً في مسند أحمد وفي سنن البيهقي وسنن النسائي. واليك خلاصتها كما في البخاري بحاشية السندي:

1 ـ قال البخاري: (حدثنا محمد بن سلام قال أخبرنا وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب ؟

قال: لا، إلاّ كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة.

قال: قلت فما في هذه الصحيفة ؟

قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر) (34).

2 ـ قال البخاري: (حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي عليه السلام قال:

ما كتبنا عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلاّ القرآن وما في هذه الصحيفة قال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ المدينة حرام ما بين عامر إلى كذا فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف. وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) (35).

3 ـ وروى البخاري قال: (حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا ابن عيينة حدثنا مطرف قال سمعت الشعبي قال سمعت أبا جحيفة قال: سألت عليا عليه السلام: هل عندكم شيء ما ليس في القرآن ؟ (وقال مرة ما ليس عند الناس ؟).

قال: والذي فلق الحب وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن إلاّ فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة.

قلت: وما في الصحيفة ؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر) (36).

4 ـ وروى البخاري قال: (حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني إبراهيم التيمي حدثني أبي قال: خطبنا علي عليه السلام على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وإذا فهيا: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) (37).

5 ـ وفي مسند أحمد (الذي بهامشه منتخب كنز العمال) يقول:

حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب قال: شهدت عليا يقول: (... والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة...)(38).

وفي حدود تتبعي في كتاب البخاري ومسند أحمد وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وسنن البيهقي، فقد رأيت كل الروايات ترجع إلى ثلاثة أسانيد:

السند الأول: عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة.

السند الثاني: الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه

السند الثالث: عن شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب.

ولكن السند الأول والثاني فيهما سفيان فهما رواية واحدة لها أسناد متعددة فهي خبر واحد. ورواية الامام أحمد هي رواية ثانية لأن سندها يختلف عما سبقها.

في كل واحدة من هاتين الروايتين من لم يوثق أو مجهول فلا تصلح حجة؛ فأبو جحيفة، وهو وهب بن عبد الله السوالي، لم يوثق في الكتب التي رجعت إليها، وكذا الشعبي الذي هو عامر بن شرحبيل، رغم عده من الفقهاء، وأما إبراهيم التيمي فهو لم يذكر في كتب الرجال التي رجعت إليها، وكذا لم يوثق كل من شريك وطارق بن شهاب، ولم أجد لمخارق ذكرا في الكتب التي رجعت إليها أيضاً مع هذا فقد يدور في الذهن عدم صحة الروايات المتقدمة في وجود كتاب لعلي فيه كل حلال وحرام إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش.

اللهم صل علي محمد وال محمد

والجواب

1 ـ بعد الإغماض عن سند الروايتين المتقدمتين اللتين فيهما من لم يوثق والمجهول، فإن لسانهما وأمثالهما من الروايات التي فيها يمين مغلظة على النفي يدل على أن هناك حديثا حول كتاب خص به علي (فيه أحكام الدين وقواعده) دون بقية المسلمين وكان مشهورا، الأمر الذي دعا بعض المسلمين إلى السؤال عن هذا الكتاب (الجامعة) فنفى هذه الروايات باليمين المغلطة.

انظر إلى اليمين (والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة...) (والذي فلق الحب وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن.. وما في الصحيفة...) وفي رواية (من زعم أن عندنا شيء نقرأه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب)، وانظر إلى السؤال عن أبي جحيفة (هل عندكم كتاب ؟ قال: لا (فهو يدل على وجود حديث حول كتاب قد خص به علي عليه السلام.

وحينئذ يتوجه السؤال لمن نقلوا هذه الروايات فقط، فيقال لهم: ما هي تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث

حولها ؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي يدعى أن عليا عليه السلام قد كذبها في هذه الروايات ؟

2 ـ ثم لو تنزلنا عما تقدم يكون أمامنا طائفتان من الروايات.

الأولى: تزعم أن هناك كتابا خص به علي والأئمة من ولده دون بقية الناس (وهي متواترة كما تقدم).

الثانية: تزعم نفي ذلك.

فما علينا إلاّ أن نقول: إن الروايات المتواترة توجب علما بالصدور عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بخلاف الروايات غير المتواترة فإنها لا توجب علما بالصدور، وحينئذ يتعين الأخذ بالعلم، وترك غير العلم عند التعارض.

أما عدم ذكر الروايات المتواترة في كتب أهل السنة فهو لا يدل على عدم صدورها ولا يقلل من العلم الحاصل من التواتر.

3 ـ ولعل سر ترك كتب السنة للروايات المتواترة (التي تصرح بوجود كتاب خص النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ به عليا دون بقية الناس فيه كل حلال وحرام إلى يوم القيامة) يعود إلى الجو الحاكم في ذلك الوقت، فقد كان ضد أهل البيت وضد علي، بحيث جعل سب علي سنة تعبد بها الناس والتزم بها الخطباء وأهل المنابر أكثر من أربعين سنة، فكتمت فضائل أهل البيت وعلي، ووضعت فضائل لغيرهم. الجو الذي ساد في ذلك الزمان أوجب أن توضع روايات لتغيير ما كان مسموعا ومألوفا في حق أهل البيت عليهم السلام وتبعدهم عن الساحة السياسية، كما حدث في زمان معاوية، خصوصا إذا علمنا أن مرحلة تدوين الحديث حصلت في تلك الأجواء المعادية لعلي عليه السلام وأهل بيته.

وبهذا يتضح سر عدم ذكر الروايات (القائلة بان كتابا أملاه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وخطه علي بيمينه بتفاصيلها المتقدمة) في كتب أهل السنة ووجدت متواترة في كتب الشيعة الإمامية.

والظاهر أن هذه الروايات مثل رواية عكرمة ومقاتل (في شأن نزول آية التطهير) حيث كان عكرمة ينادي في السوق (39).

ويقول: (من شاء باهلته، إنها نزلت في نساء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ خاصة) أو يقول: (ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو نساء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ (40).

على أن هذه الروايات التي تذكر كتاب علي (الجامعة) لو لم تتم فرضا فيكفينا الروايات الأخرى الكثيرة والمتواترة أيضاً القائلة بأن الأئمة عليهم السلام يروون سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ عن آبائهم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وبعد أن اتضح نهج أهل البيت في حفظ السنة النبوية ونشرها يبقى علينا أن نبحث الروايات الواردة في كون الأئمة مشرعين لنرى مدى انسجامها مع الروايات المتقدمة أو عدم انسجامها، ولكن قبل ذلك لابد من بيان:

1 ـ معنى تشريع الحكم.

2 ـ وهل إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مشرع للأحكام ؟

3 ـ ما يقال من دلالة الروايات على تشريع الأئمة عليهم السلام.

1 ـ معنى تشريع الحكم.

إن الأحكام الشرعية يمكن تقسيمها على قسمين:

أ ـ الأحكام الواقعية.

ب ـ الأحكام الحكومية.

أما الأحكام الواقعية: فهي الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم وجاء فيها الأثر القائل: (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة).

وهذه الأحكام الواقعية تنقسم على قسمين:

أولا: الأحكام الواقعية الأولية.

ثانيا: الأحكام الواقعية الثانوية.

أما الأحكام الواقعية الأولية: فيراد بها الأحكام المجعولة للشيء أولا وبالذات، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليها من عوارض أخر، مثل وجوب الصلاة والصوم وإباحة شرب الماء وإباحة النوم في النهار وحلية بيع الطعام وحرمة شرب الخمر بالعناوين الأولية، وما إلى ذلك من أحكام واقعية تكليفية أو وضعية.

وأما الأحكام الواقعية الثانوية: فيراد بها ما يجعل للشيء من الأحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير الحكم الأولي؛ فالصوم إذا كان مضرا بالمكلف ينقلب حكمه إلى الحرمة أو عدم الوجوب، وشرب الماء إذا كان لإنقاذ الحياة يكون واجبا، والنوم في النهار إذا كان فيه خيانة للجيش الإسلامي يكون محرما، وشرب الخمر إذا كان لإنقاذ النفس من الموت يكون واجبا، وهكذا أكثر الأحكام الأولية إذا طرأت عليها عناوين ثانوية تبدل واقعها وحكمها الأولي إلى حكم ثانوي.

وهذه الأحكام هي أحكام شرعية واردة على موضوعاتها الأولية والثانوية، لا تتغير ولا تتبدل إلى يوم القيامة. فإذا ثبت أن هناك تشريعا من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ (كما هو ثابت) فهو في هذه الأحكام، وكذا ما يقال عن تشريع الإمام المعصوم.

أما الأحكام الحكومية: فهي الأحكام التي ترك الإسلام مهمة ملئها إلى ولي الأمر الذي يكون على رأس السلطة في الدولة الإسلامية، سواء كان ولي الأمر هو النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو الامام المعصوم أو الفقيه الذي تصدى لإقامة دولة إسلامية ونجح في ذلك، وحينئذ يقوم ولي الأمر بتنظيم أحكام تسمى بالأحكام الحكومية (تمييزا لها عن الأحكام الشرعية الواقعية) حسب المصلحة التي تتطلبها الدولة أو المجتمع الإسلامي في كل زمان.

وهذه الأحكام:

1 ـ ليست لها صفة الثبوت إلى الأبد، بل هي أحكام متحركة موقتة يمكن تبديلها أو إلغاؤها حسب المصلحة التي يراها ولي الأمر، لأنها ليست أحكاما صدرت من ولي الأمر بما أنه مبلغ للأحكام العامة الثابتة، بل صدرت من ولي الأمر بما أنه حاكم وولي على المسلمين.

2 ـ كما أن هذه الأحكام لا توجد إلاّ على أساس وجود جهاز حاكم يتولى شؤون الدولة الإسلامية، فيمنح هذه الصلاحية في إيجاد أحكام حكومية بما تفرضه المصالح والأهداف الإسلاميّة حسب الظروف التي تعيشها الدولة الإسلاميّة.

3 ـ وهذه الأحكام تغطي حاجة تطور علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة عبر الزمن والتي قد تكون مهددة للعدالة الاجتماعية، إن لم تكن هناك أحكام متحركة يفرضها ولي الأمر؛ فمثلا هناك الحكم القائل: (بأن من سبق إلى معدن فهو أحق به) قد صدر في زمان كان النص فيه حكما عادلا، لان من الظلم أن يساوي بين السابق إلى المعدن وغير السابق، إلاّ أن قدرات الإنسان السابقة في الاستفادة من المعدن كانت محدودة، أما في زمان تكون فيه القدرات كبيرة بحيث يمكن لقلة قليلة حرمان الآخرين من الاستفادة من المعادن الكثيرة باستخدام الآلات التقنية المتطورة للسيطرة على المعادن فقد يؤدي الأمر إلى تزعزع العدالة الاجتماعية في الدولة الإسلامية.

لهذا جعل الإسلام لولي الأمر صلاحية أن يشرع في منطقة الفراغ التي سنحددها أحكاما حكومية مؤقتة تمنع في العصر المتطور من تطبيق: (من سبق إلى معدن فهو أحق به).

وهكذا نقول في ما شرعه الإسلام من حرمة احتكار أمور معينة في صدر الإسلام (من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح)، أما في زماننا هذا فيمكن لجماعة قد أتيحت لها قدرة مالية معينة أن تحتكر سلعة معينة كالحديد أو الإسمنت بحيث يرتفع سعرها بما يخل بموازين العدالة الاجتماعية، فيتمكن ولي الأمر أن يتدخل هنا ويمنع من احتكار الحديد أو الإسمنت ويعاقب عليه، حتى تتمكن الدولة من تنظيم أمور المسلمين. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...) (41).

أما حدود هذه المنطقة التي يملؤها الحاكم الشرعي ورئيس الدولة فهو الفعل المباح تشريعيا بطبيعته، فيحق لولي الأمر إعطائه حكما بالوجوب أو الحرمة، وهذا الوجوب أو الحرمة لا يتصف بالبقاء إلى يوم القيامة، بل هو تابع للمصلحة التي يراها ولي الأمر للمجتمع، فقد يغير بعد مدة من الوقت أو يرفع حسب ما يراه الحاكم من المصلحة.

دور النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في التشريع

إن المشرع الأول هو الله سبحانه وتعالى، ويكون دور النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في تبليغ ما شرعه الله ووصل إليه عن طريق الوحي إلى الناس. وهذا مما اتفق عليه المسلمون، وقد ذكرت ذلك الآية القرآنية القائلة: ?وما ينطق عن الهوى. إن هو إلاّ وحي يوحى?(42)، والنطق في الآية مطلق ورد عليه النفي ومقتضاه نفي الهوى عن مطلق نطقه ـ صلى الله عليه وآله ـ (43).

ثمة روايات فوضت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر الخلق ليسوس الناس والأمة بالعدل والحق ويحكم فيهم بما أراد الله سبحانه، وقال تعالى: ?أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...?، وفوض الله سبحانه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر الدين في ناحية خاصة وفي منطقة فراغ معينة ليملأها بنفسه فملأها ـ صلى الله عليه وآله ـ وأقره الله سبحانه وتعالى على ذلك، وقال تعالى: ?ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا?؛ فمثلا ورد أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ سأل ربه في أن يخفف جعل عدد الصلاة على أمته، فجعلها خمس صلوات ثم فوض إليه أن يزيد عليها، فزاد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأقره الله عليها. وكما ورد في حرمة الخمر:?... إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان...?(44).

وفوض إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أن يزيد فحرم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كل مسكر وأقره الله تعالى عليه، وهذا التفويض من قبل الله سبحانه وتعالى لرسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ هو في دائرة خاصة فملأها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بنفسه؛ فما دل عليه الدليل بأن الله سبحانه قد فوض الأمر فيه إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأقرَّه على تشريعه يثبت فيه حق النبي في تشريع بعض الأحكام التي ترجع في النهاية إلى تشريع الله تعالى بعد إقراره عليه. واليك بعض الروايات الدالة على ذلك:

1 ـ صحيحة الفضيل بن يسار، فقد روى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل بن يسار قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول لبض أصحاب قيس الماصر (45): إنّ الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال : ?وإنك لعلى خلق عظيم?(46). ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عبادة فقال عز وجل: ?ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا? ورسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كان مسددأ وموفقا مؤيدا بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق، فتأدب بآداب الله، ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى الركعتين ركعتين والى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلاّ في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك كله، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ثم سن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة. فأجاز الله عز وجل له ذلك. والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعد بركعة مكان الوتر. وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان، وسن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله عز وجل له ذلك. وحرم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ المسكر من كل شراب فأجاز الله له ذلك كله وعاف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أشياء وكرهها لوم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة: ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يرخص لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فيما نهاهم عنه نهي حرام، ولا فيما أمر به أمر فرض لازم؛ فكثير المسكر من الاشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد، ولم يرخص رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل، بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلاّ للمسافر، وليس لأحد أن يرخص (شيئا) ما لم يرخصه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ! فوافق أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر الله عز وجل، ونهيه نهي الله عز وجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى) (47).

2 ـ عن زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (وضع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ دية العين ودية النفس، وحرم النبيذ وكل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من غير أن يكون جاء فيه شيء ؟ قال عليه السلام: نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه)(48).

وهناك روايات أخرى تؤدي نفس المضمون المتقدم في نفس المصدر المذكور.

مما تقدم نفهم أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.

1 ـ مبلغ عن الله سبحانه ما شرعه الله للناس عن طريق الوحي.

2 ـ حاكم على الناس.

3 ـ مشرع لأحكام خاصة (وهي التي فوض الله فيها أمر التشريع إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في دائرة خاصة وملأها النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بنفسه وأقره الله عليها).

روايات التفويض إلى الأئمة

وهناك روايات تقول: إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قد أعطى ما فوضه الله إليه إلى الأئمة عليهم السلام أو إلى علي عليه السلام، وهي عبارة عن خمس روايات أربع منها غير حجة (49). وواحدة لها سند معتبر عن الإمام الباقر (عليه السلام).

وهي: روى الشيخ الكليني في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي إسحاق قال: سمعت الإمام الباقر عليه السلام يقول: (إن الله عز وجل أدب نبيه على محبته، فقال: ?وإنك لعلى خلق عظيم? ثم فوض إليه فقال عز وجل: ?وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا? وقال عز وجل ?من يطع الرسول فقد أطاع الله? قال: ثم قال: وإن نبي الله فوض إلى علي وائتمنه، فسلمتم وجحد الناس، فو الله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا، وأن تصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل ما جعل الله لأحد خيرا في خلاف أمرنا) (50).

وهذه الرواية ظاهرة في إعطاء الولاية والحكومة إلى الأئمة، حيث يقول إلى بعض أصحابه: (فسلمتم وجحد الناس). ونحن نعلم أن الذي جحده الناس هو الحكومة والولاية.

أما رواية الأئمة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فمن يجحدها الناس.

ثم لو تنزلنا وقلنا إن هذه الرواية مطلقة شاملة لإعطاء الولاية وحق التشريع، فلابد من تخصيصها:

1 ـ بطائفة الروايات المتقدمة القائلة على لسان الأئمة عليهم السلام: (كل ما أحدثك هو عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

2 ـ والروايات القائلة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أملى على علي وكتب لشركائه كل شيء من حلال وحرام حتى أرش الخدش؛ ومعنى ذلك أن كل أحكام الإسلام قد أملاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي وشركائه، فلا حاجة إلى تشريع من قبل الأئمة عليهم السلام. وقد ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقال: (ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم من النار إلاّ أمرتكم به).

3 ـ والآية القرآنية التي نزلت في حجة الوداع ?... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا...? (51)، فقد تم الدين في زمن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فلا حاجة إلى مشرع بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وحينئذ يكون معنى روايات التفويض إلى الأئمة عليهم السلام ناظرة إلى الحكومة وتبليغ الأحكام وحفظها.

ومما يؤيد هذا هو استبعاد أن يكون أمر عظيم الأهمية (كحق التشريع للأئمة عليهم السلام) في حياة المسلمين وفي مسيرتهم قد دل عليه خبر واحد، بل لابد أن يكون مبينا بالدليل الواضح (كالدليل على حاكميتهم في الخلافة العامة مثلا) الواصل بحيث لا يكون فيه غموض ولا إبهام فيكون من خالف قد خالف عن بينة.

يبقى علينا أن نجيب عن سؤال قد يوجه إلينا وهو:

لماذا فوض النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر التبليغ إلى الأئمة دون غيرهم ؟

أو لماذا فوض أمر الحكم والتبليغ من بعده ؟

والجواب: أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه. فيما يرجع إلى أمور الشريعة بالاتفاق لأنه (لا ينطق عن الهوى. إن هو إلاّ وحي يوحى)، ومع هذا نتمكن أن نجيب على ذلك من باب حكمة هذا التفويض إلى الأئمة دون غيرهم، إذ نقول:

يمكن أن تكون الحكمة هي عصمة (52) هؤلاء الأئمة دون غيرهم؛ فهم الأجدر بتحمل مسؤولية التبليغ لأحكام الله وحفظها من الضياع، وهم هو الأجدر بحكومة الناس ـ من حيث عصمتهم من الوقوع في الخطأ أو الاشتباه أو النسيان ـ في تطبيق أحكام الله تعالى. وقد أثبت لنا التاريخ أنهم الأجدر في حفظ سنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ حيث منع من كتابة وحفظ الحديث في زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وبعد وفاته كما تقدم ذلك، فإن قريش (ومن تسلم الحكم بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ) قد منعوا من كتابة الحديث خشية اختلاطه مع القرآن الكريم ! ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والأئمة من بعده هم الذين حفظوا حديث رسول الله وكتبوه وتوارثوه ونشروه كما دلت على ذلك الروايات المتقدمة.

خطأ فظيع

قد ينسب البعض إلى الطائفة الإمامية القول: إنهم يقولون بان الأئمة (عليهم السلام) مشرعون.

أقول: وهذا من الخطأ بمكان، لأن مسألة ما يوهم تشريع الأئمة للأحكام الشرعية قد ورد فيها (كما تقدم) أخبار آحاد لم يسلم من عدم الحجية إلاّ رواية واحدة كانت ظاهرة في تفويض أمر الخلق إلى الأئمة ليسوسوا الناس بالحق، ومع التنزل وافتراض إطلاقها لتفويض أمر الدين والخلق، فبناء على حجية خبر الواحد الثقة (وهو الصحيح) تمكنا أن نجمع بين هذه الرواية وبين الروايات المتقدمة التي أوجبت القطع بكون الأئمة (عليهم السلام) رواة وحفظة للسنة النبوية، فكانت النتيجة هي: إن الأئمة قد فوض إليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، الحكم على الأمة وتبليغ أحكام الشريعة التي تمت زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وهذا رأي نلتزم به والتزمناه وكتبناه في كتابنا الحلال والحرام في الإسلام.

وهناك من علماء الإمامية من ذهب إلى عدم حجية خبر الواحدة منهم:

1 ـ نسب إلى السيد المرتضى وأتباعه بأن الخبر الواحد إذا كان متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية فهو حجة ويجوز العمل به وإلا فلا.

2 ـ نسب إلى المحقق الحلي بان الخبر الواحد إن عمل به المشهور فهو حجة وإن كان ضعيف السند، وإن لم يعمل به المشهور فليس بحجة وإن كان صحيح السند.

3 ـ نسب إلى صاحب المدارك وغيره بأن الخبر الواحد إن كان رجال سنده عدولا أخذ به وإلا فلا، وإن كان رجال سنده من الثقات وحينئذ: فعلى هذه المسالك الثلاثة لا يكون الخبر الواحد، بما أنه خبر واحد، حجة.

إذن لا يمكن ولا يصح أن ينسب إلى الطائفة الإمامية اعتقادها بتشريع الأئمة للأحكام الشرعية الواقعية (الأولية والثانوية) وأنه أمر مجمع عليه، فإن هذا من الخطأ الفظيع، فتنبه !!

الفرق بين الأئمة وغيرهم كأئمة المذاهب والرواة

ذكرنا فرقا بين الأئمة من أهل البيت وغيرهم أدى إلى توجيه إعطاء ولاية الحكم والتبليغ إلى الأئمة دون غيرهم بعد زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ. أما هنا فنريد بيان فرق آخر بعد التسليم بإعطاء ولاية التبليغ إليهم دون غيرهم؛ إذا ليس المراد بإعطاء ولاية التبليغ لهم دون غيرهم هو حرمة أن يكون المكلف مبلغ لأحكام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ عن طريق نشرها بين الناس، فإن هذا أمر لا يمكن أن يلتزم به أحد، بل المراد هو إعطاء الولاية في التبليغ لهم (مع ضم عصمتهم التي أوجبت أو سوغت ذلك) هو الاطمئنان بعدم إمكان تطرق الريب إليهم في الرواية عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ولذا قال الامام أحمد وهو يعلق على حديث الإمام الرضا عليه السلام المعروف بـ (سلسلة الذهب) عن آبائه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حين مر بنيسابور: (لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته) (53).

وحينئذ يكون النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قد تلقى الوحي من السماء، بينما يتلقى الأئمة عليهم السلام ما يوحى به إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ عن طريقه ـ صلى الله عليه وآله ـ، وهم منفردون بمعرفة جميع الأحكام (كما تقدمت الروايات الدالة على ذلك). ولذا اشتهر في زمان الخليفة عمر بن الخطاب قوله: (لو لا علي لهلك عمر). وقوله: (معضلة وليس لها أبو الحسن)، حينما ترد المعضلة ولا يجد الحل الصحيح لها.

وعلى هذا فسيكون قولهم عليهم السلام حجة يجب الأخذ به. ويكون ما ذكره الأئمة عليهم السلام من قواعد وطرق استنباط وترجيح للتعارض بين الأخبار وما إلى ذلك لا يعدو أن تكون من تعاليم الإسلام نفسه قد وصلت إلى الأئمة عليهم السلام عن طريق النبي صلى الله عليه وآله بينما يكون دور أئمة المذاهب أو غيرهم من المجتهدين هو الاجتهاد في كل ما يأتون به من أحكام، فقد يصيبون كما قد يخطئون، فليسوا هم مصدرا من مصادر التشريع، ولذا لا يكون قولهم حجة على لمجتهدين الآخرين، كما يمكن النظر فيما يأتون به من أصل الاستنباط للحكم الشرعي فلا يكون حجة على الغير.

وأما فرق الأئمة عليهم السلام من غيرهم من الرواة فهو في عصمة الأئمة التي دل عليها الدليل، بخلاف غيرهم الذي يكون في معرض الخطأ والنسيان إذا كانوا عدولا، كما أن احتمال الدس والكذب بسبب الأهواء يكون موجودا إذا لم يكونوا عدولا.

وعلى ما تقدم: فلا يمكن أن نسمي الشيعة الإمامية مذهبا في مقابل بقية المذاهب، لأن ما يأتي به أئمة الشيعة ليس رأيا لهم، وإنما هو تعبير عن واقع الإسلام من أصفى منابعه؛ فقد ذكر المحدث أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمي (ت 290 هـ. ق) قال: (حدثنا أحمد بن محمد عن البرقي عن إسماعيل بن مهران عن سيف بن عميرة عن أبي المعزا عن سماعة عن أبي الحسن (الرضا عليه السلام) قال: قلت له: كل شيء تقول به في كتاب الله وسنته، أو تقولون فيه برأيكم ؟

قال (عليه السلام): بل كل شيء نقوله في كتاب الله وسنة نبيه)(54).

ويتفرع على ما تقدم كون المجتهد من الشيعة الإمامية إن اجتهد في ضمن إطار الإسلام فقد يخطئ وقد يصيب كالأئمة المجتهدين الأربعة (أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل ومالك).

وأخيرا نسأل الله سبحانه التأييد والتسديد وأن يحفظنا من الزلل والزيغ وأن ينفع بنا الإسلام والمسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش:

1ـ الروايات في كتاب البيان في تفسير القرآن الإمام الخوئي / 258 وما بعدها.

3ـ الإسراء / 88.

4ـ البقرة / 43.

5ـ آل عمران / 97.

6ـ البقرة / 183.

7ـ الأنفال / 41.

8ـ التوبة / 60.

9ـ النساء / 59.

10ـ الحشر / 7

11ـ النجم / 3 ـ 4.

12ـ كتاب الغدير، للعلامة الاميني 6 / 298، 295 نقلا عن تاريخ ابن كثير 8 / 107. الروايات في كتاب تنوير الحوالك. للسيوطي 1 / 4. ومستدرك الصحيحين، للحاكم 1 / 102. وراجع تذكرة الحفاظ 1 / 7.

13ـ المدخل للفقه الإسلامي، لمحمد سلام مذكور) / 184، نقلا عن ابن عبد البر في جامعه وأبي داود في سننه والحاكم وغيرهم.

14ـ تفسير القرآن، للامام محمد عبده والسيد رشيد رضا 6 / 288.

15ـ وسائل الشيعة 18 / باب 8 من أبواب صفات القاضي، حديث 11 عن الكافي.

16ـ المصدر نفسه / 26.

17ـ وبما أن الأئمة من أهل البيت هم خلفاء رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالنص الوارد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فهم المقصودون في هذا الحديث وهم رواة السنة وهم الذين يعلمونها الناس. المصدر نفسه: حديث 5. وقد ورد الحديث عن الفقيه مرسلا وعن المجالس مسندا بالسند المتقدم، وورد هذا الحديث بنفس المضمون في كتاب معاني الأخبار بسند آخر وهو: صاحب معاني الأخبار عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن اليعقوبي عن عيسى بن عبدالله العلوي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام وله أسانيد أخرى عن الإمام الرضا عليه السلام. عن آبائه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ

18ـ المصدر نفسه / حديث 67، عن مجالس المفيد.

19ـ المصدر نفسه / حديث 85 عن كتاب الإجازات للسيد بن طاووس (مخطوط).

20ـ المصدر نفسه / حديث 86 عن كتاب الإجازات للسيد بن طاووس (مخطوط).

21ـ المصدر نفسه / باب 9 من أبواب صفات القاضي، حديث11. فالإمام الصادق الذي يقول بإن الميزان هو الشاهد من كتاب الله وقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فهو لم ير لقوله الذي ليس هو قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أية ميزة.

22ـ المصدر نفسه / حديث 21. عن عيون الأخبار.

23ـ بصائر الدرجات 6 / باب 15، ص 301 الحديث الأول.

24ـ المصدر نفسه / الحديث الثاني.

25ـ لمصدر نفسه / الحديث الثالث.

26ـ بصائر الدرجات 6 / باب 15، الحديث الرابع. فإذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قد أتى بما يستغني به المسلمون إلى يوم القيامة، ولم يفقد منه شيء، وهو عند أهله الذين لا يقيسون، وهم الأئمة عليهم السلام إذن ما يقولونه هو عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

27ـ وسائل الشيعة 18 م باب 9. من صفات القاضي، الحديث السادس عشر، ولا يضر إرسال ابن أبي عمير عن بعض أصحابه لشهادة الشيخ الطوسي بأنه لا يرسل إلاّ عن ثقة.

28ـ أمالي الشيخ الطوسي 2 / 56 ط النجف 1284 هـ. اذن؛ كتب علي لشركائه وهم الأئمة من ولده، فما يقولونه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ

29ـ بصائر الدرجات 3 / 142، باب 12، الأحاديث 24 حديثا فراجع.

30ـ رجال النجاشي / 255، ترجمة محمد بن عذافر.

31ـ بصائر الدرجات 3 / 147، باب 14، حديث 19.

32ـ بحار الأنوار 26 / 28.

33ـ الأصول العامة للفقه المقارن / 181، نقلا عن الصواعق المرحقة / 293، وراجع أصل الحديث مع سنده في آخر هذا البحث.

34ـ صحيح البخاري 1 / 31، 32، باب كتابة العلم.

35ـ المصدر نفسه 2 / 205، باب إثم من عاهد ثم غدر.

36ـ المصدر نفسه 4 / 192 و 194 باب العاقلة.

37ـ المصدر نفسه / 260.

38ـ مسند أحمد 1 / 100.

39ـ الواحدي، أسباب النزول / 268.

40ـ الدرر المنثور 5 / 198، عكرمة: خارجي معاد لعلي، ومقاتل: خارجي معاد لعلي. راجع ترجمتهما في ميزان الذهبي، وكان مقاتل يقول لأبي جعفر المنصور: أنظر ما يمكن أن أحدثه فيك حتى أحدثه...).

41 ـ النساء / 59.

42ـ النجم / 3، 4.

43ـ وهناك رأي آخر يقول بأن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لا ينطق عن الهوى فيما يقول من أمر الشريعة ويستفاد هذا من قرينة خطاب الآيات القرآنية للمشركين الذين يرمون الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بالافتراء والتقول على الله سبحانه.

44ـ المائدة / 90.

45ـ قيس الماصر: (من المتكلمين، تعلمه من علي بن الحسين (زين العابدين) وصحب الصادق عليه السلام وهو من أصحاب مجلس الشامي) عن جامع الرواة ترجمة قيس بن الماصر.

46ـ القلم : 4.

47ـ أصولي الكافي 1 / كتاب الحجة، باب التفويض إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والى الأئمة، الحديث الرابع.

48ـ المصدر نفسه / الحديث السابع.

49ـ لأنها بين مرسل أو مسند في بعض رجال سنده ضعف أو جهالة. راجع الروايات في أصول الكافي 1 / 265، كتاب الحجة، باب التفويض إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والى الأئمة عليهم السلام، تجد الرواية الأولى هي المعتبرة بسندها الثاني، وأما الرواية الثانية فضعيفة بابن أشيم، والرواية الثامنة فيها محمد بن سنان فهي ضعيفة، والرواية التاسعة فيها الحسن بن زياد ومحمد بن الحسن الميثمي وهما لم يوثقا، والرواية العاشرة مرسلة.

50ـ المصدر نفسه / الحديث الأول.

51ـ لمائدة / 3.

52ـ الأدلة على عصمة الأئمة عليهم السلام من القرآن والسنة كثيرة منها:

أ ـ آية التطهير: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

ب ـ ومنها حديث الثقلين المتواتر بين المسلمين حيث جعل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أهل البيت عدلا للقرآن، وأنهما (القرآن والعترة) لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض في يوم القيامة، والقرآن لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (ذلك الكتاب لاريب فيه) وقد صرح الحديث بعدم افتراق أهل البيت عن القرآن. ومن البديهي أن صدور أية مخالفة للشريعة (سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة) تعتبر افتراقا عن القرآن وإن لم ينطبق عنوان المعصية عليها كما في الغافل والساهي ! وقد صرح الحديث بأن التمسك بالقرآن والعترة يكون عاصما من الضلالة دائما وأبدا، ولا يمكن ذلك إلاّ بأن نفترض عدم صدور أي ذنب منهم، وأن عملهم مطابق للشريعة دائما وهو معنى العصمة.

53ـ الأصول العامة للققه المقارن / 181 نقلا عن الصواعق المحرقة / 203 وسند الحديث وأصل الحديث هو: حينما وصل الإمام الرضا عليه السلام إلى نيسابور وقد خرج إليه العلماء يستقبلونه ن فلما صاروا إلى المربعة تعلقوا بلجام بغلة شهباء وقالوا: يا ابن رسول الله حدثنا بحق آبائك الطاهرين حديثا عن آبائك صلوات الله عليهم أجمعين، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز فقال:

حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال أخبرني جبرئيل الروح الأمين عن الله تقدست أسماؤه وجل وجهه: (إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي، عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلاّ الله مخلصا بها أنه دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي..) بحار الأنوار 49 / 120 وما بعدها عن كتاب عيون أخبار الرضا عليه السلام

54ـ بصائر الدرجات 6: 7 الباب 15 الحديث الأول.


من هم أهل البيت؟

 

 

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)