• عدد المراجعات :
  • 7111
  • 12/10/2003
  • تاريخ :

الجار في الإسلام (1)

الجار

للجار في التصوّر الإسلامي مفهوم يرتبط بالخطّ الأخلاقي الذي يجمع الإنسان بأخيه الإنسان.

لهذا حفلت النصوص الشرعية بضرورة تعميق أواصر الجيرة من خلال كفّ الأذى ، وتحمل الأذى المقابل ، في ظل سيادة منطق التسامح.

وصل الجار بالمعونة

قد كثرت الأحاديث التي تربط بين الإيمان وبين مساعدة الجار في معيشته، كما تنزع الإيمان عمّن يكون جاره جائعاً وهو شبعان. حيث ورد في الحديث عن رسول الله (ص) أنه قال: ((ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره المسلم جائع)). فالنبي (ص) بحسب هذا الحديث يربط بين الإيمان وبين إشباع الجار الذي إذا لم يشبعه جاره بات جائعاً. وعنه (ص) أيضاً: ((من منع الماعون عن جاره منعه اللّه خيره يوم القيامة)). فإذا كنّا محتاجين إلى الخير في الدنيا من اللّه تعالى فما أحوجنا إلى الخير في الآخرة { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار:19].

ويتابع(ص) في حق الرعاية بقوله: ((ووكله إلى نفسه ـ أي يتركه لنفسه فلا يرعاه ولا يتعهده ـ ومن وكله إلى نفسه فما أسوأ حاله))لأننا جميعاً ننطلق في الحياة - في أمورنا كلّها - من خلال رعاية اللّه سبحانه وتعالى، ومن خلال إيكال أمورنا وتفويضها إليه، فإذا حجب عن أحد من عباده رعايته فمن ذا الذي يرعاه من دون اللّه؟ وفي حديث آخر: ((ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه)). وفي حديث غيره ((ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره طاو)) أي جائع، وفي حديث آخر: ((ما آمن بي من بات كاسياً وجاره عارٍ)). وهنا تنتقل المسألة من الجوع والشبع إلى العري والاكساء، فإذا كان جار الإنسان المسلم لا يجد ما يلبسه من ثياب تستره أو تجمّله، فلابد لجاره المتمكّن من ذلك أن يغطّي حاجته من ذلك حسب استطاعته.

وقال رسول اللّه (ص) كما يروي الإمام الباقر(ع): ((ما من أهل قرية يبيتون وفيهم جائع لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة)). فإذا عرفنا أنّ حدّ الجوار أربعون داراً من كلّ جانب فإنّ الجوار يعني القرية.

وعن مولانا أمير المؤمنين (ع) أنّه سمع النبي (ص) يقول لأصحابه يوماً: ((ما آمن باللّه واليوم والآخر من بات شبعاناً وجاره جائع، فقلنا: هلكنا يا رسول اللّه؟! قال: من فضل طعامكم ومن فضل تمركم وورقكم وخلقكم وخرقكم)). أي ليس معنى ذلك أنّ المطلوب منك أن تتولّى جميع شؤون جارك بنحو تعوله كما تعول عيالك، بل بالأشياء الفاضلة عن حاجاتك مما يمكن أن يسدّ حاجته ((تطفئون بها غضب الربّ)).

التكافل الاجتماعي

إننا نفهم من ذلك كلّه أنّ الإسلام يؤكّد على التكافل الاجتماعي في المجتمعات الصغيرة كما في مجتمع الجوار، كعنوان من العناوين التي يرتبط بها معنى أنّ يكون الإنسان مؤمناً أو لا يكون، وهذا ما نستوحيه من الحديث: ((ما آمن بي مَن بات شبعاناً وجاره المسلم جائع)) معناه أنّ التكافل الاجتماعي، وبحسب القدرة والاستطاعة، يرتبط بالجانب الإيماني للإنسان ولا يتأكّد بالجانب الاستحبابي والأخلاقي فقط، فلابدّ لنا من أن ندرس المسألة دراسة دقيقة، وإذا كانت المسألة تركّز على المبدأ وهو أن لا يبقى بعض الجيران في حالة جوع أو في حالة عري، فمن الممكن أن تمتد هذه الحالة إلى الحاجات الحيوية الأخرى من غير الطعام واللباس.

وهناك طريقتان في التعامل مع هذه الحالة:

فإمّا أن تقدّم المعونة بشكل فردي لهذا الجار أو ذاك ممّا يسدّ جوعه أو يكسو عريه، وهناك أسلوب آخر يعتمد قيام الجيران كجماعة مؤتلفة بالتعاون لسدّ هذه الحاجات من خلال تشكيل صندوق ضمان يشارك فيه كلّ الجيران، ليدرسوا الحالات الصعبة الموجودة لدى بعضهم، وليخصّصوا لهم راتباً أو مساعدة شهرية أو أي شيء يرونه مناسباً لعلاج حالات العوز التي يعاني منها بعض جيرانهم بحيث تسد حاجات هؤلاء من خلال التكافل الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع.

إن الزمن يتطور - أيّها الأحبّة - ونحن حينما نقرأ الأحاديث التي تتحدث عن الصدقة، نرى أنّ الفهم الساذج لها هو أنّ الإنسان يقدّم شيئاً من المال إلى الفقير، في حين يمكن أن تتمثل الصدقة بإيجاد هيئات اجتماعية تتعاون في دفع مقدار من المال شهرياً أو أسبوعياً لمواجهة الحالات الصعبة التي يمرّ بها بعض من يجاورونه من الفقراء، ويقدمونها بشكل يحفظ كرامة هذا الجار الفقير حتى لا يضطروه إلى السؤال فيبذل ماء وجهه للناس.

حقّ الجار

وفي إطار الحديث عن حق الجوار هناك حديثان أحدهما للنبي (ص) والآخر للإمام علي بن الحسين (ع). ففي الحديث عن الرسول (ص) ((إنْ استغاثك أغثته وإنْ استقرضك أقرضته، وإنْ افتقر عدت إليه ـ أي تساعده بكل ما تستطيع أن تقدمه له من أمور مادية وغيرها فلا تهمله لأنّه أصبح فقيراً، بل لابدّ أن تقتنع بأن الغنى والفقر لا يؤثران على طبيعة العلاقة الإنسانية بين الأفراد ـ وإنْ أصابه خير هنّأته ـ لتشاركه فرحته بهذا الخير ـ وإن مرض عدته، وإنْ أصابته مصيبة عزّيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلاّ بإذنه ـ فما أصعب ذلك في أيامنا هذه، فقد يريد الجار أن يبني بيتاً من عدة طوابق وبيت جاره من طابق واحد، فيحجب عنه الشمس والهواء، في الوقت الذي ينبغي أن يأتي إلى جاره ويستأذنه في ذلك فإنْ أذن له فبها، وإلاّ فلا ينبغي له أن يستطيل ببنائه عليه فذلك حقّ من حقوقه، بحيث يعيش المجتمع نوعاً من الاحترام المتبادل ـ وإذا اشتريت فاكهة فأهدها إليه، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً ـ بحيث لا يتسبب ذلك في إحراجه حيث يجد نفسه غير قادر على توفير ما توفره لعائلتك ـ ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده ـ ففي ذلك نوع من الإذلال، فالطفل الصغير لا يحمل روح الاحترام للآخرين وتقدير مشاعرهم، من خلال عقليته الطفولية، فربّما يشعر أنّه يمتاز على أطفال الجيران ما يُشعر الآخرين من صغار الجيران بالمهانة، فإمّا أن تقدّم لهم مما أعطيته أو لا تدعه يخرج عليهم بها فيغيظهم، فربما يخلق ذلك نوعاً من الضغط النفسي على الطفل الآخر بحيث يجبر أهله على شراء ما لدى ابن الجيران، وقد لا يستطيعون ذلك ـ ولا تؤذه بريح قدرك الاّ أن تغرف له منها ـ والحال واحدة، فكما كانت الريح تنقل روائح القدور التي تطبخ في العراء، فكذلك الآن، وخاصة في الشقق السكنية حيث تدخل الروائح إلى كلّ دور العمارة لاسيما الروائح التي لا يرتاح لها الجار ـ إلاّ ان تغرف له منها )) فكأنّ النبي (ص) يقول إنّ كفّارة ذلك هو أنّ تغرف له من قدرك وتقدم له من طعامك. وربما كان معنى الايذاء هنا هو حالة الاشتهاء التي تسبّبها الروائح الزكية التي يثيرها الطعام اللذيذ مما قد لا يستطيع الجار أن يوفّره، فإذا ما قدّمت له من طعامك فإنّك تكون قد أشركته في طعام تسبّبت في تحريك شهيته إليه.

وأمّا في (رسالة الحقوق) فيقول الإمام علي بن الحسين (ع): ((امّا حقّ جارك فحفظه غائباً ـ بأن تحفظ سمعته من أن تُنال بسوء، وعياله من أن يتعرّضوا إلى مكروه ، وداره من أن تسرق ـ وإكرامه شاهداً ـ أي حاضراً ـ ونصرته إذا كان مظلوماً ـ بأن تنصره بكلّ الوسائل التي تنصر بها نفسك ـ ولا تتبع له عورة ـ لأنّ الجار يطّلع عادة على عيوب وعورات جيرانه فهو أمين عليها ولا يجوز له أن يتتبّعها أو يتجسّس عليه في ذلك ـ فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ـ فإذا اطلعت عن طريق الصدفة على عيب أو نقص أو مثلبة سترتها عليه فلا تفضحه بها ولا تعيّره بها ولا تكتمها اليوم لتكشفها غداً أو تطلع غيرك عليها ـ وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته ما بينك وبينه ـ أي ليس أمام الناس أو الجيران الآخرين، فإنّ ذلك مما يزينه ولا يشينه كما حدّث الإمام الصادق(ع) في ذلك ـ ولا تسلمه عند شديدة ـ أي عندما يشتدّ عليه الزمان والمشاكل والظروف الصعبة، بل حاول أن تعينه على اجتياز مصاعبه ـ وتقيل عثرته ـ إذا أخطأ، فلا تتركه يمضي في خطئه، بل حاول أن تسدّده وتهديه إلى الصواب وأن تأخذ بيده إلى ما فيه صلاحه ـ وتغفر ذنبه ـ فإذا أذنب معك أو أساء اليك فمن حقه عليك أن تصفح عنه وتسامحه ـ وتعاشره معاشرة كريمة)) كما يعاشر الكرام بعضهم البعض.

الجار في الإسلام (2)

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)