هل المعاد جسماني أم روحاني؟
قد تعرفت على الدلائل التي أفادت ضرورة وقوع المعاد، كما تعرفت على الآيات التي تشير إلى تلك الدلائل، لكن يقع الكلام في كيفية المعاد، وهل هو جسماني وروحاني، أجسماني وروحاني معاً.وقبل بيان المراد من الجسمانية والروحانية، نشير إلى كلمات تذكر الأقوال والآراء الموجودة في الكيفية.
1- قال الرازي: "اختلفت أقوال أهل العالم في أمر المعاد على وجوه:
أ- أنّ المعاد ليس إلا للنفس، وهو مذهب الجمهور من الفلاسفة.
ب- أن المعاد ليس إلا لهذا البدن، وهو قول نفاة النفس الناطقة، وهم أكثر أهل الإسلام.
ج- أنّ المعاد للأمرين، وهم طائفة كبيرة من المسلمين "1
2- وقال العلامة الحلّي:" اتفق المسلمون على إعادة الأجسام خلافاً للفلاسفة"2.
3-وقال الدواني: "المعاد الجسماني هو المتبادر من إطلاق أهل الشرع، إذ هو الّذي يجب الاعتقاد به، ويكفر من أنكره، وهو حق، لشهادة نصوص القرآن في مواضع متعددة بحيث لا تقبل التأويل، كقوله تعالى: "وَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ... إلى قوله: بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ"(يس:77-79). قال المفسرون نزلت هذه الآية في أُبىّ بن كعب فإنه خاصم رسول الله وأتاه بعظم قد رمّ وبلى، ففتّه بيده وقال: يا محمد، أترى الله يحيي هذه بعدما رمّت، قال: نعم، ويبعثك ويدخلك النار. "وهذا مما يقلع عرق التأويل بالكلية، ولذلك قال الإمام (الرازى): إنّه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي وإنكار الحشر الجسماني"3.
4- قال صدر المتألهين: اتّفق المحققون من الفلاسفة والملّيين على أحقّية المعاد، وثبوت النشأة الباقية، لكنهم اختلفوا في كيفيته، فذهب جمهور الإسلاميين وعامة الفقهاء وأصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط، بناء على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم، والماء في الورد، والزيت في الزيتونة، وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشّائين إلى أنّه روحاني أي عقلي فقط لأنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلق النفس بها، فلا يعاد بشخصه تارة أخرى، إذ المعدوم لا يعاد، والنفس جوهر باق لا سبيل للفناء إليه، فتعود إلى عالم المفارقات لقطع التعلقات بالموت الطبيعي.
وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين كالغزالي والكعبي والحليمي والراغب الأصفهاني وكثير من أصحابنا الإمامية كالشيخ المفيد، وأبي جعفر الطوسي، والسيد المرتضى، والمحقق الطوسى، والعلامة الحلّي، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى القول بالمعادين، ذهاباً إلى أنّ النفس مجرّدة تعود إلى البدن4.
قال علامة المجلسي: "إعلم أنّ القول بالمعاد الجسماني ممّا اتفق عليه جميع المليين وهو من ضروريات الدين ومنكره خارج من عداد المسلمين، والآيات الكريمة على ذلك ناصّة لا يعقل تأويلها، والأخبار فيه متواترة لا يمكن ردّها ولا الطعن فيها"5.
إن القضاء البات في هذه الآراء يتوقف على معرفة ملاك توصيف المعاد بالجسماني والروحاني، وإليك بيانه.
ملاك كون المعاد جسمانياً أو روحانياً
إن لتوصيف المعاد بالجسماني والروحاني، أوهما معاً، ملاكين، هما
الملاك الأول: ما يرجع إلى اتخاذ موقف حاسم في حقيقة الإنسان، وأنّها ما هي، فلو قلنا بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل الجسماني، وليس للروح حقيقة وراء التفاعلات والانفعالات المادية الفيزيائية والكيميائية، وهي سارية في البدن سريان النار في الفحم، والماء في الورد "لو قلنا بهذا" فلا مناص للقائل بالمعاد من توصيفه بكونه جسمانياً فقط، إذ ليس هناك وراء الجسم، والتأثير الماديين، شيء آخر حتى يعاد.
وأما لو قلنا بأنّ وراء الجسم، ووراء التفاعلات المادية، جوهر حقيقي مدرك، له تعلق بالبدن، تعلّقاً تدبيرياً ما دامت العلقة باقية، فإذا زالت يكون له البقاء ولا يتطرق إليه الفناء. فلو قلنا بذلك، ثم قلنا بأنّه سبحانه يبعث الروح مع البدن، فالمعاد يكون جسمانياً من جهة، وروحانياً من جهة أخرى، لكون المبعوث ممزوجاً من شيئين ومؤلّفاً من أمرين، ولكل معاد.
وأما لو قلنا بأنّ الروح " بعد مفارقتها البدن" لا ترجع إليه، لعلة ما، فعندئذ تبعث الروح وحدها من دون تعلّقها بالبدن، فيكون المعاد روحانياً فقط، وهذا الملاك هو الذي يلوح من كلام صدر المتألهين، وصهره عبد الرزّاق اللاهيجي6 .
الملاك الثاني: إنّ هناك ملاكاً آخر لكون المعاد جسمانياً، وروحانياً، يلوح ذلك من كلمات الشيخ الرئيس، وهو تقسيم المعاد إلى الجسماني والروحاني، حسب الثواب والعقاب الموعودين: فلو قلنا: إنّ العذاب والعقاب ينحصران بالجسماني منهما، كنعيم الجنّة وحرّ الجحيم، فيكون المعاد معاداً جسمانياً فقط، وأما لو قلنا بأنّ هناك "وراء ذلك" ثواباً وعقاباً عقليين لا يمتّان إلى البدن بصلة، بل يلتذ ويعاقب بهما الروح فقط، فيكون المعاد، وراء كونه جسمانياً، روحانياً أيضاً، وبعبارة أخرى: التذاذ النفس وتألّمها باللذات والآلام العقلية، فهذه أملاك كون المعاد، روحانياً.
قال الشيخ الرئيس: "يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع، ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الّذي للبدن عند البعث، وخيراته وشروره معلومٌ لا يحتاج إلى أن يعلم، وقد بسطت الشريعة الحقّة التّي أتانا بها سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله، حال السعادة والشقاء التي بحسب البدن.ومنه ما هو معلوم مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس إلى نفس الأمر، وإن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصورهما الآن. والحكماء الإلهيون، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أكثر من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يتلفتون إلى تلك وإن أعطوها، فلا يستعظمونها في جنب السعادة التّي هي مقاربة الحق الأول"7 .
قال الإمام الرازي: "أمّا القائلون بالمعاد الروحاني والجسماني معاً… فقد أرادوا ان يجمعوا بين الحكمة والشريعة فقالوا: دلّ العقل على أنّ سعادة الأرواح بمعرفة الله تعالى ومحبّته، وأنّ سعادة الأجساد في إدراك المحسوسات، والجمع بين هاتين السعادتين في هذه الحياة غير ممكن، لأن الإنسان مع استغراقه في تجلّي أنوار عالم القدس، لا يمكنه أن يلتفت إلى شيء من اللذات الروحانية، وإنما تعذر هذا الجمع، لكون الأرواح البشرية ضعيفة في هذا العالم، فإذا فارقت بالموت، واستمدت من عالم القدس والطهارة،قويت وصارت قادرة على الجمع بين الأمرين، ولا شبهة في أنّ هذه الحالة هي الحالة القصوى من مراتب السعادات "8 .
قال الحكيم السبزواري: "القول الفحل والرأي الجزل، هو الجمع بين المعادين لأن الإنسان بدن ونفس، وإن شئت قلت نفس وعقل، فللبدن كمال، ومجازاة، وللنفس كمال ومجازاة وكذا للنفس وقواها الجزئية كمالات وغايات تناسبها وللعقل والقوى الكلية كمال وغاية، ولأنّ أكثر الناس لا يناسبهم الغايات الروحانية العقلية، فيلزم التعطيل في حقهم في القول بالروحاني فقط، وفي القول بالجسماني فقط يلزم في الأقلين من الخواص والأخصّين "9.
الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
-------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- نهاية العقول. نقله المجلسي في البحار، لاحظ ج7،ص48.
2-شرح الياقوت، ص 191.
3-شرح العقائد العضدية، ج2،ص 247.
4-الأسفار،ج9،ص 165.
5-بحار الأنوار، ج 7، ص 46. ولاحظ حق اليقين، للسيد شبّر، ج2ص 52. ولا نطيل الكلام بنقل كلمات الآخرين.
6-الأسفار ج 9، ص 165. و"دوهرمراد" المقالة الثالثة، الباب الرابع، ص 449.فارسي.
7-النجاة، ص 291. والشفاء، قسم الإلهيات، المقالة التاسعة، الفصل 7. والظاهر من كلام الشيخ الرئيس أنه لا سبيل إلى المعاد الجسماني إلا بالشريعة وتصديق خبر النبوة، وقد فسّر كلامه بأنه لا يمكن إثبات المعاد الجسماني وعود البدن مع الروح في النشأة الأخرى بالبرهان، وإنما الطريق إليه هو الشريعة. ولكنه تفسير خاطئ، كيف والأقلون من هذا الشيخ الإلهي مرتبة يثبتون ذلك بالبراهين الفلسفية، وإنما مراده من المعاد الجسماني هو اللذات والآلام الجسمانية من الجنة ونعيمها والنار ولهيبها، فإن إثبات خصوص هذه اللذات يرجع إلى السمع وعالم الوحي، ولولا السمع لما قدرنا على الحكم بأنّ لله سبحانه في النشأة الأُخرى هذه النعم والنقم، بل أقصى ما يمكن إثباته هو أن حشر الأجساد يمتنع أن يكون بلا غاية وبلا جهة، وبلا ثواب ولا عقاب، وأما أن الثواب هو نفس ما ورد في الكتاب من الحور العين والفواكه والثمار وغيرها، وأنّ العقاب هو النار ولهيبها. فلا يثبته البرهان. ويؤيد ما ذكرنا أنّه يقول: "وهو الذي للبدن عند البعث وخيراته وشروره معلوم". فالشيخ الرئيس إنما رمي بذلك لعدم تفريقهم بين الملاكين في توصيف المعاد بالجسماني والروحاني، فزعموا أنّ الملاك عنده هو الأول منهما وغفلوا عن أنّ الملاك هو الثاني منهما كما يعلم من التأمل في كلامه.
8-شرح العقائد العضدية للمحقق الدواني، ج1، ص 262-263.
9-الأسفار ج 9، ص 165. تعليقة المحقق السبزواري.
عقيدتنا في البعث والمعاد
حقيقة الشفاعة وأقسامها
المعاد والإيمان وأحكامه (2)
محكمة الآخرة
في اعماقنا مثال لمحكمة القيامة
المعاد و التقية