الإمامة في رؤية الأئمة الأطهار -رواية عن الإمام الصادق
ثمَّ رواية تتّصل بالأنبياء والرسل، صدرت عن الإمام الصادق عليه السلام في جوابه للزنديق 1 ، الذي سأله: من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ فأجابه الإمام مرتكزا إلى معنى التوحيد ومنطلقا منه: " إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه"2
وفي ضوء هذا النص، يجب أن يوجد إنسان له من جهة خاصية الاتصال بالله اتصالا يمكنه من تلقي الوحي، ويكون بمقدورنا - من جهة ثانية - أن نتصل به ونباشره.
ووجود إنسان مثل هذا، واجب كما أسلفنا.
ثم يقول الإمام في صفتهم"حكماء مؤدَّبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق" فهم وإن اشتركوا مع بقية الناس في الخلق والتركيب، إلا أنهم يجب أن يفترقوا عنهم في قسم من الجهات، إذ هم ينطوون على جنبة علوية، بحيث يجب أن يتخلل وجودهم روح علوية.
وفي شطرٍ آخر من كلامه يقول الإمام في صفتهم: "مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة".ثم يشير عليه السلام إلى لزوم وجود هذه الوسائط في كل الأزمنة، بقوله:"ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان" لماذا؟ "لكي لا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته"3.
زيد بن علي ومسألة الإمامة
زيد بن علي بن الحسين أخو الإمام الباقر عليه السلام هو من الأجلاء ورجل من الصالحين، ذكره أئمتنا بالتبجيل، وامتدحوا ثورته.
وفي قضية زيد ثَمّ خلاف فحواه أنه هل كان يطلب الخلافة لنفسه أم ابتغى من خلال قيامه وثورته أن يضطلع بمسئوليته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دون طمع بالخلافة، بل كان يريد الخلافة لأخيه الإمام الباقر؟
القدر المتَّفق عليه أن أئمتنا ذكروه بالتبجيل ووصفوه بأنه شهيد، ففي (الكافي) نفسه نقرأ عنهم عليهم السلام في وصفه: مضى والله شهيدا. ولكن مع حسم القضية عند هذا المستوى، تبقى هناك مسألة خلاصتها: هل كان زيد مشتبها أم لا؟ الرواية التي سنتناولها الآن تدلل على اشتباهه. أما كيف يكون مثل هذا الإنسان مشتبها، فتلك مسألة أخرى (لا شأن لنا بها الآن).
كان من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام رجل يعرف بأبي جعفر الأحول. يحدث أبو جعفر أن زيدا بعث إليه وهو مستخفٍ، حتى إذا صار إليه، قال له: يا أبا جعفر، ما تقول إن طرقك طارق منا، أتخرج معه؟ يقول أبوجعفر: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك، خرجت معه. فقال له زيد عارضا عليه نصرته: فأنا أُريد أن أخرج أُجاهد هؤلاء القوم، فاخرج معي.
رفض أبو جعفر ذلك، وقال: لا، ما افعل جعلت فداك.
ردَّ عليه زيد: أترغب بنفسك عني؟
يقول أبو جعفر: قلت إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله في الأرض حجّة فالمتخلّف عنك ناجٍ، والخارج معك هالك. وإن لا تكن لله حجّة في الأرض فالمتخلّف عنك والخارج معك سواء ".
كان أبو جعفر الأحول يعرف ما يريده زيد، لذلك ذكر له - في مفاد هذا الحديث - أن لله في الأرض حجّة، وأن الحجّة في هذا الزمان هو أخوك، لا أنت.
عند هذه النقطة، بدأ زيد يحتجّ على أبي جعفر بشدّةِ حرص أبيه عليه، فكيف لم يخبره بهذا الأمر، مع شدّة شفقته عليه؟
يحدث أبو جعفر: فقال لي - يعني زيدا -: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد، شفقة عليّ، ولم يشفق عليّ من حرّ النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟ فقلت له: جعلت فداك، من شفقته عليك من حرّ النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني أنا، فإن قبلت نجوت، وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار.
يذكر أبو جعفر، أنه سأل زيدا بعدئذ: أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء.
قلت: يقول يعقوب ليوسف: يابني لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا.
لقد كان يعقوب نبيا، ويوسف نبي وخليفة أبيه من بعده، ومع ذلك نهاه أن يقص رؤياه على أخوته، ليس لعداوة، بل لحبّه وحبّ يوسف أيضاً.
يعبر أبو جعفر الأحوال عن هذا المعنى بتتمة الحوار، حيث يقول: لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه، ولكن كتمهم ذلك، فكذا أبوك كتمك لأنه يخاف عليك.
عندما وصل الحوار بينهما إلى هذه النقطة، سُدّت الأبواب أمام زيد ولم يدرِ ما يجيب به. وقتئذ انعطف قائلا: أما والله لئن قلت ذلك، لقد حدثني صاحبك بالمدينة (ويعني به أخاه الإمام الباقر عليه السلام) أني أُقتل وأُصلب بالكناسة، وأن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي.
يبدو زيد هنا وكأنه يقرأ لأبي جعفر الأحول في صحيفة أخرى، إذ تحول في منطقه تماما متجها نحو تأييد النظرية الثانية. فقد تغافل عن الفكرة أولا، وبدا وهو يتحدث لأبي جعفر أول وهلة، وكأنه يتجاهلها. ولكن حين رأى منه هذا الرسوخ في الإمامة، عاد ليذكر له أنه ليس غافلا عن هذا المعنى للإمامة، بل هو يعتقد به.
وفي جملته الأخيرة للأحول، ما يُشعر أنه صمّم على الخروج عن علم وعمد وبتوجيه من أخيه الإمام.
يقول أبو جعفر، إنني حين ذهبت إلى الحجّ، أخبرت الإمام الصادق عليه السلام بما جرى لي مع زيد، فأيدني الإمام فيما قلته وذهبت إليه4.
الامامة،الشيخ مرتضى مطهري، المترجم:جواد علي كسّار
---------------------------------------------------------
الهوامش:
1- لم تكن كلمة "الزنديق" آنذاك مظلَّلة بإيحاءات سلبية تنمّ عن الفحش والبذاءة، كما هي في استخدامها اليوم. بل كانت في ذلك العصر عنوانا لمجموعة تعرف بهذا الوصف، ولم يكن أولئك يستشعرون الفحش أو البذاءة منها، وهي أشبه ما تكون في عصرنا الراهن بالمادية ". طبيعي أن الإنسان الموحد لا يرضى لنفسه هذا الوصف ولا يرتاح إليه، على عكس الإنسان المادي الذي يفخر بانتسابه للمادية. أما بشأن كلمة الزنديق فقد قيل فيها الكثير، وعمدة ما ذكروه أن الزنادقة كانوا مانويين، ظهروا أوائل القرن الهجري الثاني الذي يعدّ قرن الإمام الصادق. لقد بحث كثير من الدراسين الأوربيين وغيرهم في جذور الزندقة في الإسلام، وكان أهم ما انتهوا إليه أنها تعبير عن الاتجاه المانوي، على أن دين ماني لم يكن من ضروب الأديان المضادة لله، بل ذهب ماني نفسه إلى حد ادعاء النبوة، بيدَ أنه لم يكن توحيديا بل كان ثنويا.
لقد كان ماني أكثر ثنوية من زرادشت، حتى رجح كثيرون أن يكون زرادشت موحدا، أو معتقدا على الأقل بالتوحيد الذاتي، إذ يبدو أنه لا يمكن إثبات توحيد الخالقية من كلماته. ولكنه على أي حال كان يعتقد بمبدأ أزلي للعالم كله. أما ماني فقد كان ثنويا جزما، وكان يعتبر نفسه نبيا عن إله الخير، ولكن الذي حصل أن المانويين الذين ظهروا بعده مالوا نحو الاتجاه الطبيعي والمادي، حتى غدوا لا يعتقدون بشيء من الأساس
2- ينظر النص في: الكافي، ج1،كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ص 168(المترجم).
3- المصدر السابق، ص168(المترجم).
4- قال له الإمام الصادق عليه السلام حين حدثه بمقالة زيد وما كان قاله له:"أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه، ولم تترك له مسلكا يسلكه ". ينظر الحوار كاملا في: الكافي، ج1،كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، الحديث الخامس، ص 174(المترجم)
الإمامة في القرآن - الوضع الخاصّ للآيات التي ترتبط بأهل البيت
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمامة - رأي الشيعة
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمامة- يوم تبليغ أمير المؤمنين سورة براءة
الإمامة في رؤية الأئمة الأطهار- الإنسان الأوّل في القرآن
الناس وفق تصنيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام