الناس وفق تصنيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
الإمامة في رؤية الأئمة الأطهار
يقول كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فأخرجني إلى الجبان، فلما أصحر، تنفس الصعداء، ثم قال:"ياكميل بن زياد، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك".
ثم قسّم له الناس أوّلاً وفق التصنيف الذي عرف عنه، فقال " الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع.." ما ينبغي الالتفات إليه في هذا الكلام، هو أن من يصفه الإمام بالعالم الرباني، هو غير الوصف الذي نطلقه نحن على أي عالم بدواعي المجاملة. فمراد الإمام عليه السلام هو العالم الذي يكون ربّانياً حقّاً وخالصاً في انتسابه لله، وهذا الوصف قد لا يصدق سوى على الأنبياء والأئمة.
ثم إن صيغة التعبير في الصنف الثاني - حيث أضحى المتعلّم في مقابل ذلك العالم الرباني - تُشعر أن المقصود من العالم في الصنف الأول، هو الذي لم يتعلم من بشر.
وعليه يكون المتعلمون في الصنف الثاني، هم تلامذة علماء الصنف الأول، والمستفيدين منهم.
أما الصنف الثالث فهم همج رعاع، جاء في وصف الإمام لهم أنهم "لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ".
بدأ الإمام أمير المؤمنين بعد ذلك يشكو أهل الزمان، وأنه يحمل علما كثيرا لا يصيب له حملة: " ها إن هاهنا لعلماً جما (وأشار بيده إلى صدره) لو أصبتُ له حمَلة ".
بيدَ أنه سرعان ما يشير مستدركاً إلى أنه أصاب من الرجال من كان لقناً يفهم بسرعة، ولكن لا يُؤمَنُ عليه، لاستعماله آلة الدين للدّنيا.
وإلى جوار هذه الفئة، يشير الإمام عليه السلام إلى أُخرى، وإن بدت حسنة في انقيادها لحمَلة الحق، إلا أنها لا بصيرة لها، تنساق وراء التقليد، فلا تستوعب ما يُلقى إليها ، أو أنها تخطأ في التلقي فيسارع إليها الشك1.
يبدو كلام الإمام حتى الآن أنه يبعث على اليأس- تقريبا- من العثور على حمَلة للعلم. ولكنه يعود في نهاية حديثه مع كميل بن زياد للاستدراك بالقول2:
"اللهم بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإما خائفا مغمورا لئلا تبطل حُجَج الله وبيناته. وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك- والله - الأقلُّون عددا، والأعظمون عند الله قدراّ. يحفظ الله بهم حُججه وبيناته، حتى يُودِعوها نُظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى"3 .
ومراد الإمام عليه السلام أنه لا يمضي عن هذه الدّنيا من دون أن يقول ما عنده _ بل هو يحمله إلى قلوب أشباهه ومن ذكرهم ببقية الصفات -.
وفي وصف هؤلاء الذين يتلقون من مبدأ ملكوتي أعلى، يقول عليه السلام:
" هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ". فالعلم هو الذي هجم عليهم وليس العكس، وهذا المعنى يشعر أن علمهم إفاضي، يهبهم البصيرة بمعناها الحقيقي، فلا يداخل هذا العلم شيء من الخطأ والاشتباه، كما لا يلامسه شيء من النقص".
وقوله: " وباشروا ورح اليقين " يفيد أن لهم اتصالا بنحو ما بالعالم الآخر. وما بدا خشنا وعرا على المترفين الذي أنِسوا الترف والملذّات والنعيم، كان سهلا ليّنا عليهم. على سبيل المثال، إذا كان من الصعب على الإنسان المأنوس بالدنيا وملذاتها أن يخلو إلى الله ساعة، بل هذه الخلوة أصعب من كل شيء عليه، فإن أولئك يألفون هذه الخلوة ويأنسون بها، حتى كان من صفتهم أنهم: " أنسوا بما استوحش منه الجاهلون ".
هم مع الناس بأبدانهم وفي الوقت نفسه تهفوا أرواحهم إلى أُفق أرفع، وهي معلّقة بالمحلّ الأعلى. فالناس تتصورهم، وهم معهم، أنهم بشر مثلهم لا فرق لهم معهم، بحيث لم يخبروا باطنهم المتصل بمكان آخر.
هذا هو المنطق الذي يعكس روح الإمامة ولبّها وفي كتاب" الحجّة " من (الكافي)، باب بعنوان: " أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهُما الحجّه "4.
أي أن يكون أحدهما إنسان في مثل هذه الصفات، تمام كما كان أول إنسان وطئت قدماه الأرض، هكذا لتتعرفوا أكثر على روح هذا المنطق، جئت معي بكتاب "الحجة" من (الكافي)، لكي أتلو عليكم مقاطع مما يتصل بالموضوع، ثم أشير إلى ما تنطوي عليها من معانٍ.
والنقطة الأساسية في هذا المجال، أن بقية مسائل هذا الباب من قبيل أنه يجب على الإمام أن يحكم بالعدل بين الناس، أو أن يكون مرجعا لاختلافاتهم في أمور الدين إنما هي فرع لذلك الأصل وعيال عليه، وليس العكس. أي لا يُصار إلى جواب الإمام وضرورة الإمامة، من واقع حاجة الناس إلى حكم الإمام. ومن هنا فإن ضرورة الحكم لا تولّد ضرورة الإمام، بل إن الإمامة أرفع شأنا وأجل مقاما من هذا الكلام.
وفق هذا المنطق، تعود هذه المسائل الحكم وما شابهها لتكون فوائد استتباعية تجرها مثل تلك الإمامة.
سأنتخب لكم من كل حديث جملا تكشف طبيعة هذا المنطق في مرتكزاته ومكوناته.
الامامة،الشيخ مرتضى مطهري، المترجم:جواد علي كسّار
1- يقول الإمام عليه السلام في الإشارة إلى هاتين الفئتين: "بلى أصبت لقناً غير مأمون عليه، مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهراً بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقادا لحَمَلة الحقّ، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض شبهة. ألا لاذا ولا ذاك ! ".ينظر: نهج البلاغة، الحكمة رقم 147، صبحي الصالح، ص496. (المترجم)
2- هذا المقطع هو الذي ذكر السيد البروجردي أن الإمام عليا عليه السلام تحدث به بخطبة ألقاها في البصرة، وإلا فهو موجود في نهاية حديثه مع كميل بن زياد
3- نهج البلاغة طبعة فيض الإسلام، الحكمة رقم 139.أما في طبعة صبحي الصالح، فعلاوة على اختلاف الترقيم حيث تأخذ هذه الحكمة الرقم 147 فهناك أيضا اختلاف آخر في كلمة "استو عره" حيث جاءت في طبعة فيض بهذه الصياغة، أما في طبعة صبحي الصالح فقد وردت بصيغة " استعوره " ومعناها: عدّه وعراً خشناً (المترجم).
4- في هذا الباب خمسة أحاديث تتوحّد في المضمون وتتشابه في النصّ تقريبا، منها " لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجّة "، " لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما " وفيه أيضا: " لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام. وقال: إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل، أنه تركه بغير حجة عليه ".يُنظر: الأُصول من الكافي، ج1، كتاب الحجّة، باب " أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجّة "،ص 179-180 (المترجم)
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمامة- يوم فتح مكة
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمامة - ما المراد باليوم؟
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمامة
السنّة النبويّة تنصّ على الإمامة
القرآن ينصّ على الإمامة