القرآن والدّعوى الكاذبة (2)
دلالةُ الإعجاز على صدق دعوى النبوّة
صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من الله والإنباء عنه، عن كذب وافتراء، ولم يكن لهم متاع غير التزوير، ولا هدف سوى السلطة والرئاسة.
ومن هنا كان لا بدّ من معايير وضوابط لتمييز النبي عن المتنبي، ومن جملتها تَجهّز المدّعي بالإعجاز، وإتيانه بخوارق العادة، متحدياً بها غيره على وجه لايقدر أحد على مقاومته، حتى نوابغ البشر.
ويظهر من الآيات الواردة في القرآن الكريم أن طلب الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي، كان أمراً فطرياً، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوّة والسفارة الإلهية، ولأجل ذلك لمّا ادّعى "صالح" عليه السَّلام، النبوّة، قوبل بجواب قومه:(مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(الشعراء:154).
وقد يخبر الإنبياء الناس بتجهيزهم بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوة، قبل أن يطلبها الناس منهم، كما قال موسى مخاطباً الفراعنة: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَة فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(الاعراف:105-106).
وكما جاء في عيسى المسيح عليه السَّلام، من قوله تعالى: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ)(آل عمران:49).
ولكن الكلام في وجه دلالة الاعجاز على صدق قولِ المدعي، فهل هو دليل برهاني بحيثُ يكون بين المعجزة وصدق المدّعي رابطةٌ منطقيةٌ، تستلزم الأولى معها، وجود الثانية؟ أو هو دليل إقناعي، يرضي عامة الناس وسوادهم ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي؟.
هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبي، دلالة إقناعية لا برهانية، ويستدلّ هؤلاء المتوهمون، على مقالتهم، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المّدَّعَي والدليل، وتلك الرابطة غير موجودة في المقام.
هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبي، دلالة إقناعية لا برهانية، ويستدلّ هؤلاء المتوهمون، على مقالتهم، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المّدَّعَي والدليل، وتلك الرابطة غير موجودة في المقام. إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة، دليلاً على صدق المدّعي في كونه نبيّاً وحاملاً لشريعة إلهية. إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال: إنّ قيام الطبيب بعملية جراحية بديعة، دليلٌ على صدق مقاله في المسائل النجومية والفلكية. أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية. ومن المعلوم، انتفاء الرابطة المنطقية بينها.
ولأجل ذلك يضيف المتوهم لا يدلّ قيام المسيح بإحياء الموتى وإبراء المرضى، على صدق ما يدّعيه، بدلالة برهانية. وإنّما يُكتفى به، لأنّ مشاهدة هذه الأعمال العظيمة تجعل للقائم بها في نفوس الناس مكانةً عالية، بحيث يأخذ مجامع قلوبهم ويستولي على ألبابهم، فيقنعهم، ويجلب يقينهم بصدق دعواه.
هذا، ولكن الحق وجود الرابطة المنطقية بين الإعجاز ودعوى النبوة، ويمكن إثبات ذلك ببيانين:
البيان الأول لوجود الرابطة المنطقية
ويتّضح بملاحظة الأمور التالية، الّتي يسلمها الخصم أيضاً:
الأول: أنّ الخالق عادلٌ لا يجور، وحكيمٌ لا يفعل ما يناقض الحكمة.
الثاني: أنّه سبحانه يريد هداية الناس، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم.
الثالث: أنّ المعجزة إنّما تعدّ سنداً لصدق دعوى النبوة إذا كان حاملها واجداً لشرطين:
1- أن تكون سيرته نقية الثوب، وبيضاء الصحيفة، لم يُسَوِّدها شيء من الأعمال المشينة.
2ـ أن تكون شريعته مطابقة للعقل، وموافقة للفطرة. أو على الأقل، لا يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة.
فلو أنتفى الشرط الأول، بأن كانت سوابقه سيئة، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه.
وكذا لو انتفى الشرط الثاني، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة، لما تَقَبَّلها أصحاب العقول السليمة.
وأمّا لو توفّر الشرطان فيه، فتتطاول إليه الأعناق، وتنقاد له القلوب، ولشرعه العقول، فيسلّمون ما يقول، ويطيعون ما أمر.
وهنا نقول: لو كانت دعوة هذا المدّعي، صادقة، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب والخوارق، مطابق للحكمة الإلهية.
وأمّا لو كانت دعواه كاذبة، فإعطاؤه تلك القدرة، وتسخير عالم التكوين له، في تلك الظروف، على خلاف الحكمة، وعلى خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس، ولا يرضى بإضلالهم، وذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف تُوجِدُ في الناس خضوعاً لهذا الشخص، فيكون إقداره على الاعجاز، مع كونه كاذباً، إغراءً بالضلالة، وصدّاً عن الهداية، والله تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك؟.
ولك أن تصب هذا الإستدلال في قالب القياس المنطقي، فتقول:
إنّه سبحانه حكيم، والحكيمُ لا يجعل الكون ولا بعضَه مُسَخَّراً للكاذب، فالله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخراً للكاذب. ولكن المفروض أنّ هذا المدّعي مُسَخِّر للكون، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق.
ولا بُدّ من الإشارة هنا إلى أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقف على القول بالحسن والقبح العقليين، وأمّا الذين أعدموا العقل ومنعوا حكمه بهما، فيلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز، لأنّ الإعجاز إنّما يكون دليلاً على صدق النبوّة، إذا قَبُح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب، فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه، واحتمل صحة إمكان ظهوره على يد الكاذب، لا يَقْدِرُ على التمييز بين الصادق والكاذب1.
وفي بعض كلمات المتكلمين إشارة إلى ما ذكرنا. يقول القوشجي: "إنّما كان ظهور المعجزة طريقاً لمعرفة صدقه لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق2، كما إذا قام رجل في مجلس مَلِك بحضور جماعة، وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم، فطالبوه بالحجة، فقال: هي (الحجة) أن يخالف هذا الملك عادته، ويقوم على سريره، ثلاث مرّات ويقعد، ففعل. فإنّه يكون تصديقاً له، ومفيداً للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب"3.
وقال المحقق الخوئي: "إنّما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي، لأنّ المعجز فيه خرقٌ للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلاّ بعناية من الله تعالى وإقدار منه. فلو كان مدّعي النبوّة كاذباً في دعواه، كان إقداره على المعجز من قِبَل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادةً بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوّته.
وهذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، ولا يشكون فيها أبداً. فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه اولاً أن يقيم على دعواه دليلاً يعضدها، حين تشكّ الرعية بصدقه، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غداً سيحييني بتحيته الخاصة الّتي يحيي بها سفراءه الآخرين، فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية، كان فِعْلُ الملك هذا تصديقاً للمدعي في السفارة.
ولا يرتاب العقلاء في ذلك، لأنّ الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذباً، لأنّه يريد إفساد الرَّعيّة"4.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
---------------------------------------------------
الهوامش:
1- وإن للفضل بن روزبهان الأشعري كلاماً في الخروج عن هذا المأزق، غير تام، فمن أراد فليرجع إلى دلائل الصدق، ج 1 ص 366، وقد أوردناه في الجزء الأول من كتاب الالهيات وأجبنا عليه لاحظ ص 247 ـ 248
2- هذا التعبير صحيح على منهج الأشاعرة من أنّ أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، ولكن الحق أنّ هذا العلم يوجَدُ في الإنسان بعد عدّة عوامل.
3- شرح القوشجي على التجريد، ص 465 الطبعة الحجرية، ايران
3- البيان في تفسير القرآن، ص 35 ـ 36، الطبعة الثامنة، 1401 هـ ـ بيروت
4- البيان في تفسير القرآن، ص 36، الطبعة الثامنة، 1401 هـ ـ بيروت
الإمامة في رؤية الأئمة الأطهار - الإنسان..أيّ موجود هو
ما هي العلةُ المحدثةُ للمعجزة ؟ (2)
خصائص الأنبياء (2)
هداية الفطريات وتعديل الغرائز
المسلمون ووحي القرآن (7)