هداية الفطريات وتعديل الغرائز
تقرير هذا الدليل يحتاج إلى تقديم أمرين
الأمر الأول: الإنسان مجبور على فطرياته وغرائزه
لا تكتمل وتتوازن حياة الإنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة ومتوخيات الغرائز، بل العيش على خلاف هذه المتقضيات يؤدي بالحياة البشرية إلى الهلاك، وما مثل هذا إلا كالسابح في عكس تيار الماء، لن تكون عاقبته إلا الإرهاق وانهيار القوى فيتوقف عن السباحة ويبتلعه الماء.
فحاجة الخلايا إلى الغذاء، والبدن إلى الراحة والنوم، حاجة ضرورية لا بد من تلبيتها. كما أن الحاجة إلى اطفاء الشهوة بالزواج حاجة فطرية لا يمكن إهمالها، وإلا صار الإنسان موجوداً عصبياً، وكانت الحياة كالعلقم في فمه.
ومن جملة الفطريات المودعة في وجود الإنسان، والمكتوبة على جبينه بقلم القضاء والخلقة، و الّتي تتفجر في أوائل بلوغ الإنسان عمر الشباب، معرفةُ الله سبحانه، والميل إلى الأمور الحسنة، والإنزجار عن الأمور السيئة، ولأجل ذلك لاترى إنساناً لم يقع تحت تأثير الأهواء وعوامل الانحراف يَعُدُّ ردّ الامانة قبيحاً، والخيانة بها كرامة، كما لا يعد العمل بالعهد أمراً سيئاً، ونقضه أمراً حسناً، وهكذا الكثير من الأمور كالميل إلى العفة والعدالة والإنزجار عن الدناسة والخيانة. وكل ذلك ممّا يلمسه الإنسان في حياته ويعايشه في وجدانه، وقد كشف عنه العلم الحديث وأيّده.
الأمر الثاني: حاجة الفطريات إلى الهداية والغرائز إلى التعديل
إن إعمال الغرائز والفطريات وإن كان به قوام الحياة إلا أنَّه لا يصح في المقابل تركها وحالها وإفساح المجال لها، وإلا أَدّى ذلك بالحياة البشرية إلى الفناء والهلاك. وإنما تتحق سعادة الإنسان بهداية فطرياته هداية صحيحة وتعديل غرائزه على وجه يفي بحاجاته ولا يخرجه عن طور إنسانيته.
لا تكتمل وتتوازن حياة الإنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة ومتوخيات الغرائز، بل العيش على خلاف هذه المتقضيات يؤدي بالحياة البشرية إلى الهلاك، وما مثل هذا إلا كالسابح في عكس تيار الماء، لن تكون عاقبته إلا الإرهاق وانهيار القوى فيتوقف عن السباحة ويبتلعه الماء.
بيان ما ذكرنا: إن الثلوج المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الإنتفاع بها إذا كان هناك جداول وقنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة به، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج. وفي غير تلك الصورة يسيل الماء كيف كان، جارفاً في طريقه الاحجار والصخور، وربما أنقلب إلى سيل جارف يدمّر كلَّ شيء أمامه.
وكذلك الفِضَل المغروسة، أو البذور المنثورة على الأرض، تحمل في ذواتها قوى واستعدادات، إلا أنَّ تفجُّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها حراسةً وسقايةً وعنايةً على النحو المأنوس، وعندها تصير الفِصل أشجاراً مثمرة، والبذور سنابل ذهبية.
ثم نقول: إذا كانت الإستفادة من الثلوج المتراكمة على الجبال، والفصل المغروسة والبذور المنثورة على الأرض، متوقفاً على هداية خاصّة، حتى تصب في مجراها الصحيح، وتَرْشُدَ على نهجها الطبيعي، فكذلك الأمر في السجايا الإنسانية والغرائز البشرية الكامنة في وجود الإنسان، فإنها لن تعود عليه بالنفع والصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط والتفريط، وتسيّرها في ما هو صالح البدن والروح.
وخذ على ذلك مثالاً، معرفة الله والميل إلى عوالم الغيبية، فان لها جذوراً في عمق وجود الإنسان، ولم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالاً إلى تلك العوالم، شغوفاً بحب الاطلاع عليها، والخضوع لها.
ولكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار الهداية والتوجيه الإلهي، يسفّ بالإنسان إلى الحضيض، ويصنع منه عابداً للحجر والخشب والعجماوات، خاضعاً للشمس والقمر والنار. ألاترى صانعي الآلات ومخترعي العقول الالكترونية كيف طفقوا يخضعون للأصنام والأبقار؟!
ولكنها إذا كانت تحت ظل هداية إلهية، تتجلى بمظهر التوحيد، وأَنّ للعالم بأسره إلها واحداً أحداً عالماً، قادراً، محيطاً بكل شيء، جامعاً لكل صفات الكمال والجمال.
إن الميول الطبيعية، كالميل إلى الزواج والتسلط على المناصب والتكاثر في الأموال، ممّا خُمّر عليه الإنسان، ولا بقاء لحياته إلا به، ولو سلبت عنه لصار موجوداً مهملاً خاملاً طالباً للموت وجانحاً إلى الفناء.
ولكن لو تركت هذه الغرائز ومجالها، لآل الإنسان إلى حيوان ضار، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال والإستبداد بالمناصب.
وأما لو كبح جماحها، وعدّلت ميولها بهداية تحدد مجاريها وتُرشد صاحبها إلى كيفية الإستفادة منها، لصار موجوداً عاقلاً متكاملاً سعيداً في حياته، متآلفاً ومتآزراً مع سائر بني نوعه، لبناء المجتمع الصالح.
إن الميول الطبيعية، كالميل إلى الزواج والتسلط على المناصب والتكاثر في الأموال، ممّا خُمّر عليه الإنسان، ولا بقاء لحياته إلا به، ولو سلبت عنه لصار موجوداً مهملاً خاملاً طالباً للموت وجانحاً إلى الفناء. ولكن لو تركت هذه الغرائز ومجالها، لآل الإنسان إلى حيوان ضار، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال والإستبداد بالمناصب.
وهكذا، فقد عُلم من هاتين المقدمتين أن وجود الفطريات والغرائز في الإنسان، وحاجتها إلى الهداية والتعديل أمر لا ينكر، وإنّما الكلام كلّه في تعيين من يقوم بهذه المهمة:
فهل المحاسبات العقلية كافية في حمل الإنسان على هداية فطرياته. وكبح جماح غرائزه عن الإفراط والتفريط؟
أم هل الشخصيات الممتازة في عالم الإجتماع، الموصوفة بالعقل والدراية والتجربة قادرة على القيام بهذه المهمة؟
أم أنّ الَمْرجِعَيْن المتقدمين مع تقدير عملهما والاعتراف بانتفاع الإنسان من هدايتهما في مسير حياته قاصران عن القيام بهذه المهمة، ولا بدّ من مرجع ثالث له الإحاطة الكاملة بالفطريات والغرائز البشرية وما يصلحها ويقوّمها، وهم الأنبياء والرسل الإلهيون المعصومون من الخطأ والزلل، والمؤيدة هدايتُهم بضمانات إجرائية قاهرة؟.
نحن نعتقد أن الأمر الثالث هو المتعين، وأن المرجعين الأوَّلَين غيرُ وافيين بمعالجة المشكلة.
أما العقل، فمع الإعتراف بأنه يضي الطريق أمام الإنسان، ويأخذ بيده في المزلاّت والمزالق، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة وكبح ثورانها. فإن كلَّ إِنسان يعلم من نفسه أن غرائزه وميوله الشهوية إذا تفجرت، لم تترك للعقل ضياءً ولا للفكر نوراً، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإنسان المبصر إذا وقع في مهب الرياح والزوابع الرملية، فإنها تَكُفُّ بَصَرَه عن الرؤية وتُعَرْقِل مسيرهُ.
وفي تلك الحالات، لا ينفك العقل عن خداع صاحبه وإراءة المحاسبات الكاذبة لتبرير عمله، وإيجاد الذرائع لارتكابه، بحيث لوكان هذا الإنسان في موقف عادي خال عن ذلك الثوران في العواطف والغرائز لما اعتنى بشي من تلك التسويلات، ولذلك لا تجد مجرماً يقوم بجناية إلاّ وهو يلقي لنفسه الأعذار والتبريرات حين إقدامه عليها.
وكيثراً ما يستسهل الإنسان في تلك الحالات على فرض إلتفاته إلى خطورة وقبح ما يقوم به يستسهل ما يترتب عليه من الذم واللوم والعقاب، قضاءً لوَطره منه، وإشباعاً لشهوته ممّا يناله من اللذائذ المادية.
وأما رجالات الأخلاق والإجتماع، فمع أنّ لهم دوراً في تهذيب النفوس ودفعها إلى الكمال، وكبح جماح غرائزها على الإجمال، إلا أَنّ عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تَذْهَبُ بأعمالهم أدراج الرياح.
أما أولاً: فلأنَّ شرط التربية، الوقوف على رموز الخلقة، والتعرف على خصوصيات من ترجى تربيته. وليس لهذه الشخصيات، العلم المحيط بخصوصيات الإنسان، لا لقلة عملهم وضيق أَفكارهم، بل لعظمة الإنسان في روحه ومعنوياته، وغرائزه وفطرياته، وهو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله، ولا يضاء محيطه. وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده، حتى لقُّب بـ "الموجود المجهول"1.
ويُصدِّق ضالة هذه المعرفة، تزايدُ الفساد وارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر نفس المناهج التربوية الّتي تصّوبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية.
وأما ثانياً: فَلأن الحجر الأساس لتأثير التربية، أنْ يكون المربي إنساناً كاملاً وموجوداً مثالياً، يتمتع بسمو الأخلاق والملكات، فيجذب بها القلوب، ويشد إليها النفوس.
ومن المعلوم أن واضعي المناهج التربوية في العالم، وإن كانوا خبراء في مجال تخصُّصِّهم، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس. ألاترى أَنَّهم يوصون ببسط العدل، وحماية المستضعف، وترك الخمر والقمار وو... ومع ذلك فهم مرتكبون لها، واقعون فيها.
ولا يشذ عنهم إلا من كان مراعياً للدين متمسكاً بأهدابه، ولكن الفضل حيئنذ لا يعود إليه بل إلى صاحب الشريعة الّذي سَنَّ تلك البرامج والمناهج.
وأما ثالثاً: فلأن المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى الخالق سبحانه، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإجراء والتجسّد في المجتمع لارتباطهابعوامل التشويق إلى الثواب والتحذير من العقاب، وإلا فلن تعدو مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول الشهوة الثائرة.
ومجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة هداية الغرائز والفطريات، الّتي تصنع من الإنسان موجوداً عارفاً بالنُّظُام، مؤمناً بالمناهج، مجرياً لها في ليله ونهاره، وسّره وإعلانه، لا تتم إلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر، بمناهج كاملة أنزلها إليهم، وحفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب والمحذّرات من العقاب.
قال الشيخ الرئيس في بيان ما يلزم أن تشتمل عليه الأفعال الّتي يسنها النبي للبشر، أفراده ومجتمعاته حتى تأخذ لنفسها طريقاً إلى التطبيق ومسلكاً إلى البقاء:
"ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكّر الله تعالى والمعاد لا محالة، وإلا فلا فائدة فيها.
والتذكير لا يكون بالفاظ تقال أو نيات تنوى في الخيال، وأَنْ يقال لهم: إن هذه الأفعال يتقرب بها إلى الله ويستوجب بها الخير الكريم"....إلى ان قال: "وبالجملة يجب أَنْ يكون فيها منبّهات"2.
الأنبياء والفطرة في الحديث
إنّ الإمام أمير المؤمنين علياً عليه السَّلام يصوّر الإنسان موجوداً يجمع في ذاته دفائن العقول وأنوار العرفان.
غير أنّ إثارة تلك المعارف الكامنة، وإبراز تلك الأسرار الدفينة، يحتاج إلى إنسان كامل يقوم بتلك المهمة وهو النبي.
فدور الأنبياء دور التذكير والتنبيه، لا دور التعليم والتأسيس، لأن كل ما يلقيه الأنبياء من أُصول ومعارف مختمر في وجود الإنسان بعلم فطري وقضاء خلقي، لكنه لا يلتفت إليها إلا بفضل من يوجّهه.
يقول عليه السَّلام: "فبعث فيهم رُسُلَه، وواتر إليهم أَنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم مَنْسِيَّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول..."3.
فمثل الانباء على هذا التقدير، مثل المنهدس الزراعي، فكما أنه ليس له دور في خلق الثمار على الأشجار وإظهارها على الاغصان، وانما ينحصر دوره في إخصاب الأرض وتهيئتها لتُظهِر الشجرة ثمارها وفواكها، فهكذا الأنبياء بتعاليمهم السماوية، فإن دورهم تهيئة الإنسان لُيبرز ما تعلّمه في مدرسة الفطرة من الأصول والمعارف الّتي تدعو إلى العدل والقسط، ونبذ الظلم والتعدي وغيرها.
نعم، للأنبياء على تقدير آخر دور التعليم، وذلك في الوظائف الفرعية في مجال العبادات والمعاملات إذ لولاهم لما وقف الإنسان على طرق عبادة الله تعالى، وكيفية سلوكه مع بني نوعه في مقام المعاملة.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.
--------------------------------------------------------------------------------
1- وقد ألف الفيلسوف الفرنسي الكسي كارل، كتاباً خاصاً حول الإنسان وغرائزه وفطرياته، أسماه "الإنسان ذلك الموجود المجهول".
2- "النجاة" في الحكمة الإلهية، للشيخ الرئيس، ص306، الطبعة الثانية 1357 هـ ـ 1938 م.
3- نهج البلاغه، ج1.
قرائن والشواهد النبي الصادق
القرآن والدّعوى الكاذبة (1)
الإعجاز شبهات وحلول
صدق دعوى الأنبياء
خصائص الأنبياء (1)
ما هي العلةُ المحدثةُ للمعجزة؟ (1)
هل الإعجاز يخالف أصل العليّة؟