من خالف التقية في محل وجوبها
أنه لا ريب في تحقق التقية مع الخوف الشخصي : بأن يخاف على نفسه أو غيره من ترك التقية في خصوص ذلك العمل ، ولا يبعد أن يكتفى بالخوف من بناؤه على ترك التقية في سائر أعماله أو بناء سائر الشيعة على تركها في العمل الخاص أو مطلق العمل النوعي في بلاد المخالفين ، وإن لم يحصل للشخص بالخصوص خوف ، وهو الذي يفهم من إطلاق أوامر التقية وما ورد من الاهتمام فيها.
ويؤيده ، بل يدل عليه إطلاق قوله عليه السلام : « ليس منا من لم يجعل التقية شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيته (1) مع من يحذره » (2).
نعم ، في حديث أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه معاتبا لبعض أصحابه الذين صحبهم : « إنكم تتقون حيث لا تجب التقية وتتركون حيث لابد من التقية » (3).
ومن مواضع عدم البطلان : ترك التكفير في الصلاة ، فإنه وإن حرم لا يوجب البطلان ، لان وجوبه من جهة التقية لا يوجب كونه معتبرا في الصلاة لتبطل بتركه.
وليحمل على بعض ما لا ينافي القواعد
أنه لو خالف التقية في محل وجوبها فقد أطلق بعض بطلان العمل المتروك فيه.
والتحقيق : أن نفس ترك التقية في جزء العمل أو في شرطه أو في مانعه لا يوجب بنفسه إلا استحقاق العقاب على تركها ، فإن لزم عن ذلك ما يوجب بمقتضى القواعد بطلان الفعل بطل ، وإلا فلا.
فمن مواقع البطلان : السجود على التربة الحسينية مع اقتضاء التقية تركه ، فإن السجود يقع منهيا عنه ، فيفسد الصلاة.
ومن مواضع عدم البطلان : ترك التكفير في الصلاة ، فإنه وإن حرم لا يوجب البطلان ، لان وجوبه من جهة التقية لا يوجب كونه معتبرا في الصلاة لتبطل بتركه.
وتوهم أن الشارع أمر بالعمل على وجه التقية.
مدفوع بأن تعلق الامر بذلك العمل المقيد ليس من حيث كونه مقيدا بتلك الوجه ، بل من حيث نفس الفعل الخارجي الذي هو قيد اعتباري للعمل لا قيد شرعي.
وتوضيحه : أن المأمور به ليس هو الوضوء المشتمل على غسل الرجلين ، بل نفس غسل الرجلين الواقع في الوضوء ، وتقييد الوضوء باشتماله على غسل الرجلين مما لم يعتبره الشارع في مقام الامر ، فهو نظير تحريم الصلاة المشتملة على محرم خارجي لا دخل له في الصلاة.
فإن قلت : إذا كان إيجاب الشئ للتقية لا يجعله معتبرا في العبادة حال التقية ، لزم الحكم بصحة وضوء من ترك المسح على الخفين ، لان المفروض أن الامر بمسح الخفين للتقية لا يجعله جزءا ، فتركه لا يقدح في صحة الوضوء ، مع أن الظاهر عدم الخلاف في بطلان الوضوء.
قلت : ليس الحكم بالبطلان من جهة ترك ما وجب بالتقية ، بل لان المسح على الخفين متضمن لاصل المسح الواجب في الوضوء مع إلغاء قيد مماسة الماسح للمسوح ، كما في المسح على الجبيرة الكائنة في موضع الغسل أو المسح ، وكما في المسح على الخفين لاجل البرد المانع من نزعها ، فالتقية إنما أوجبت إلغاء قيد المباشرة ، وأما صورة المسح ولو مع الحائل فواجبة واقعا لا من حيث التقية ، فالاخلال بها يوجب بطلان الوضوء بنقض جزء منه.
ومما يدل على انحلال المسح إلى ما ذكرنا من الصورة وقيد المباشرة قول الامام عليه السلام لعبد الاعلى (4) مولى آل سام ، سأله عن كيفية مسح من جعل على إصبعه مرارة : « أن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله ، وهو قوله تعالى ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) » (5) ثم قال : « امسح عليه » (6).
وكذلك الكلام في غسل الرجلين للتقية ، فإن التقية إنما أوجبت سقوط الخصوصية المائزة بين الغسل والمسح ، وأما ايصال الرطوبة إلى الممسوح فهو واجب لا من حيث التقية ، فإذا أخل به المكلف فقد ترك جزءا من الوضوء ، فبطلان الوضوء من حيث ترك ما وجب لا لاجل التقية ، لا ترك ما وجب للتقية.
فإن معرفة وجوب المسح على المرارة الحائلة بين الماسح والممسوح من آية نفي الحرج لا تستقيم إلا بأن يقال :
إن المسح الواجب في الوضوء ينحل إلى صورة المسح ومباشرة الماسح للممسوح ، ولما سقط قيد المباشرة لنفي الحرج تعين المسح من دون مباشرة ، وهو المسح على الحائل ، وكذلك فيما نحن فيه سقط قيد المباشرة ولا تسقط صورة المسح عن الوجوب.
وكذلك الكلام في غسل الرجلين للتقية ، فإن التقية إنما أوجبت سقوط الخصوصية المائزة بين الغسل والمسح ، وأما ايصال الرطوبة إلى الممسوح فهو واجب لا من حيث التقية ، فإذا أخل به المكلف فقد ترك جزءا من الوضوء ، فبطلان الوضوء من حيث ترك ما وجب لا لاجل التقية ، لا ترك ما وجب للتقية.
ومما يؤيد ما ذكرنا ما ذكره غير واحد من الاصحاب : من أنه لو دار الامر بين المسح على الخفين وغسل الرجلين قدم الثاني ، لان فيه إيصال الماء ، بخلاف الاول ، فلو كان نفس الفعل المشتمل على القيد ـ والمقيد إنما وجب تقية ـ لم يعقل ترجيح شرعي بين فعلين ثبت وجوبهما بأمر واحد ، وهو الامر بالتقية ، لان نسبة هذا الامر إلى الفردين نسبة واحدة ، إلا أن يكون ما ذكروه فرقا اعتباريا منشؤه ملاحظة الاسباب العقلية.
لكن يبقى على ما ذكرنا في غسل الرجلين أنه لو لم يتمكن المكلف من المسح تعين عليه الغسل الخفيف ، ولا يحضرني من أفتى به ، لكن لا بأس باعتباره ، كما في عكسه المجمع عليه ، وهو تعين المسح عند تعذر الغسل ، ويمكن استنباطه من رواية عبد الاعلى المتقدمة.
ولو قلنا بعدم الحكم المذكور فلا بأس بالتزام عدم بطلان الوضوء فيما إذا ترك غسل الرجلين الواجب للتقية ، لما عرفت من أن أوامر التقية لم تجعله جزءا ، بل الظاهر أنه لو نوى به الجزئية بطل الوضوء ، لان التقية لم توجب نية الجزئية ، وإنما أوجب العمل الخارجي بصورة الجزء.
الشيخ مرتضى الانصاري
---------------------------------------------------------
الهوامش:
1 ـ في ( ط ) : سجية له.
2 ـ ونص الحديث كما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن الامام الصادق عليه السلام قال : « عليكم بالتقية ، فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ... » امالي الطوسي 1 / 299.
3 ـ الاحتجاج 2 / 441 ، باب احتجاج الامام الرضا عليه السلام.
4 ـ هو عبد الاعلى مولى آل سام الكوفي ، من أصحاب الامام الصادق عليه السلام ، وقد اختلف علماؤنا في اعتباره وعدمه.
رجال الشيخ : 238 ، معجم رجال الحديث 9 / 2560.
5 ـ الحج 22 / 78.
6 ـ الكافي 3 / 33 حديث 4 باب الجبائر والقروح والجراحات ، التهذيب 1 / 363 حديث 1097.
اعتبار المندوحة وعدمه (1)
التقية ومقامتها
فلسفة الحج في الأحاديث الشريفة
ما أكثر الضجيج و أقل الحجيج
آداب الإفطار والسحور
استهلال شهر رمضان
رجب ،أفضل أوقات العمرة