برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة
ويمكن تقرير برهان النَّظم بصورة رابعة وليست هي دليلا مستقلا وإِنما هو اختلاف في التقرير، فروح البرهان واحدة، وصور التقرير مختلفة، وهذا التقرير ما نسميه بـ "برهان حساب الإِحتمالات في نشأة الحياة".
• الحياة رهن قيود وشروط
إِنَّ تكوّن الحياة فوق الأرض نتيجة اجتماع شروط عديدة يكون كل شرط منها بمثابة جزء علّة لوجود ظاهرة الحياة، وتكون ظاهرة الحياة مستحلية بفقدان واحد منها فضلا عن كثير منها أو جميعها، وهذه الشروط منها ما يرتبط بالفلك، ومنها ما يرتبط بالهواء المحيط والغازات، ومنها ما يرتبط بالأرض وما فيها من نبات وحيوان وجماد. وقد تكفلت العلوم الطبيعية بتبيين تلك الشروط ونحن في غنى عن سردها، غير أَنَّا نقول: إِنَّ هذه الشروط من الكثرة إلى درجة يكون احتمال اجتماعها بالترتيب والنسق الذي يؤدي إلى استقرار ظاهرة الحياة عن طريق الصدفة، احتمالا في مقابل ما لا يحصى من الإِحتمالات، ويكون الإِحتمال في الظآلة على وجه لا يعتمد عليه. مثلا إِنَّ تحقق الحياة يحتاج إلى عوامل وأَسباب نشير إلى أَقل القليل منها:
1ـ يحيط بالأَرض التي نعيش على متنها غلاف سميك من الغازات يسمى بالغلاف الجوي يبلغ سمكه ثمانمائة كيلومتر وهو بمثابة مظلة واقية تصون الكرة الأَرضية من التعرض لخطر النيازك التي تنفصل يومياً من الكواكب وتتناثر في الفضاء منذ ما يقرب من عشرين مليوناً من السنين ولولا هذا الغلاف لسقطت على كل بقعة من الأَرض ملايين النيازك المحرقة.
2ـ الأَرض تبعد عن الشمس مسافة 93 مليون ميلا، ولأجل ذلك تكون الحرارة التي تصل إليها من الشمس بمقدار يلائم الحياة، ويتناسب مع متطلباتها، فلو زادت المسافة بين الشمس والأرض على المقدار الحالي إلى الضعف مثلا لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس، ولو نقصت هذه المسافة إلى النصف لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض الضعف، وفي كلتا الصورتين تصير الحياة غير ممكنة.
3ـ إِنَّ الهواء الذي نستنشقه مزيج من غازات شتى منها النيتروجين 78% والأوكسيجين 21%، فلو تغير المقدار وصارت نسبة الأُوكسيجين في الهواء 50% لتبدلت جميع المواد القابلة للإِشتعال إلى مواد محترقة، ولبلغ الأَمر إلى درجة لو أَصابت شرارة غابة، لأحرقت جميع ما فيها دون أَنْ تترك غصناً يابساً، ولو تضاءلت نسبة الأُكسجين في الهواء وبلغت 10% لفقدنا أكثر العناصر التي تقوم عليها حضارتنا اليوم.
هذه نماذج من الشروط العديدة التي يتوقف عليها إِمكان الحياة في هذه الكرة، وهي إلى درجة من الكثرة تكاد لا تعد فيها ولا تحصى. وعلى هذا الأَساس نرجع إلى صلب الموضوع فنقول: إِنَّ لظهور الحياة على وجه البسيطة عوامل ضرورية لا بدّ منها فإِذا ما فقدت عاملا من عواملها اللامتناهية انعدمت الحياة واستحال على الكائنات الحية استمرارها.
وعلى ذلك فإِنَّ فرض توفر هذه الشروط اللازمة المتناسقة، بانفجار المادة العمياء بنحو الصدفة، احتمال ضئيل لا يعتمد عليه، لأن المادة الأولى عند انفجارها كانت تستطيع أن تظهر بما لا يحصى. من الصور المختلفة التي لا تستقر فيها الحياة إلاّ بصورة خاصة أو بحالة واحدة، فعندئذ يتساءل كيف تفجّرت المادة الأولى بلا دخالة شعور وعقل واسع إلى هذه الصورة الخاصة التي تمكّن الحياة من الإِستقرار.
فلنأخذ من جميع الظواهر الحيوية حشرة صغيرة بما تحويه من ملايين العناصر المختلفة وقد ركبت بنسبها المعينة الخاصة. فبوسع المادة الأُولى أَنْ تظهر بأَشكال مختلفة غير صالحة لحياة الحشرة، وإِنَّما الصالحة لها واحدة منها. وعندئذ نتساءل: كيف استطاعت المادة الأُولى عن طريق "الصدفة"، من بين الصور الكثيرة الخضوع لصورة واحدة صالحة لحياتها؟!
وهذا البرهان هو البرهان المعروف في العلوم الرياضية بحساب الإِحتمالات، وعلى توضيحه نأتي بمثال:
نفترض أَنَّ شخصاً بصيراً جالساً وراء آلة طابعة ويحاول بالضغط على الأزرار، وعددها مائة بما فيها الحروف الصغيرة والكبيرة، أَنْ يحرر قصيدة لشاعر معروف كقصيدة لبيد التي يقول فيها: ألا كُلُّ شَيء مَا خلا الله باطلُ وَ كُلُّ نَعيم لا محالةَ زائلُ.
فاحتمال أَنَّ الضربة الأُولى أَصابت صدفة الحرف الأَول من هذه القصيدة (أ)، والضربة الثانية أصابت كذلك الحرف الثاني منها (لا)، والضربة الثالثة أَصابت صدفة الحرف الثالث منها (كـ)، وهلم جرّاً....هو احتمال في مقابل احتمالات كثيرة لا يمكن بيانها بالأرقام الرياضية المقروءة. وإِنْ أرْدتَ تحصيل ذلك الرقم الرياضي فعليكَ أَنْ تضرب عدد حروف الآلة الطابعة في نفسها بقدر عدد حروف القصيدة المراد تحريرها، فلو كانت حروف الآلة الطابعة مائة، وعدد حروف البيت من القصيدة (38) فسوف يكون عدد الاحتمالات واحد أمامه (76) من الأصفار.
ولو أَضفنا إلى البيت الأول بيتاً آخر، فإِنَّ احتمال تحرير هذين البيتين على يد صاحبنا الأعمى صدفة، سيصل إلى عدد يقرب من الصفر.
ويستحيل على المفكر أَنْ يتقبل هذا الإِحتمال الضئيل "الذي هو المناسب لتحقق المراد" من بين تلك الإِحتمالات والفرضيات الهائلة. وكل من يرى البيتين وقد حُرّرا بالآلة الطابعة وبصورة صحيحة، يقطع بحكمة وعلم محررها. ولم تكن لتحدث عن طريق الصدفة العمياء.
هذا بالنسبة إلى قصيدة فكيف بالكون والحياة الناشئين من اجتماع ملايين الملايين من الشرائط والعوامل بنسب معينة في غاية الإِتقان والدّقة، فهل يصح لعاقل أَنْ يتفوه بأَنَّ هذه الشرائط للحياة تواجدت عند انفجار المادة الأُولى وتحققت صدفة من بين هذه الاحتمالات الكثيرة. ويعد الإِعتماد على هذا الإِحتمال، رياضياً، اعتماداً على صفر، وفي ذلك يقول العلامة (كريسي موريسن):
"إِنَّ حجم الكرة الأَرضية وبعدها عن الشمس، ودرجة الحرارة في الشمس، وأَشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأَرض، وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد الكاربون، وحجم النيتروجين، وظهور الإِنسان وبقاءه على قيد الحياة كل هذه الأُمور تدل على خروج النظام من الفوضى (أَي إِنَّه نظام لا فوضى)، وعلى التصميم والقصد. كما تدل على أنه "طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة" ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة. كان يمكن أَنْ يحدث هكذا، ولكن لم يحدث هذا بالتأكيد".
وتقرير هذا البرهان وهذه الصورة الرياضية، يدل على أنَّ برهان النَّظم يتماشى مع جميع العصور، ويناسب جميع العقول والمستويات، ولا ينحصر تقريره بصورة واحدة. وبهذا يعلم سر تركيز القرآن على ذاك البرهان، وفي الآية التالية إشارات إليه. قال سبحانه: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الاَْرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة وَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الاَْرْضِ لآَيَـات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ?(البقرة:164).
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني. ج 1 . ص43-55.
--------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- العلم يدعو للإِيمان، ص 159.
2- وهو من أَمراض سوء التغذية وينشأ عن نقص فيتامين (ث).
الفطرة والعادة
أمثلة من نظام الخلق الدالة على وجود الله
معرفة الله في حياتنا
الطّرق إلى معرفة الله
برهان الإِمكان ( 1 )
بُرهانُ حدوث المادة
الهادفية آية تدخل الشعور في تطور النظم