برهان الإِمكان ( 1 )
• مقدمات برهان الامكان
من البراهين على وجود الله برهان الامكان وتوضيحه يتوقف على بيان أمور:
الأمر الأول: تقسيم المعقول إلى الواجب والممكن والممتنع.
إنَّ كل معقول في الذهن إذا نسبنا إليه الوجود والتحقق، فإما أن يَصِحَّ اتصافُه به لذاته أو لا.
الثاني هو ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين.
والأَول: إما أَنْ يقتضي وجوبَ اتصافه به لذاته أو لا. والأول هو واجب الوجود لذاته.
والثاني، هو ممكن الوجود لذاته، أعني به ما تكون نسبة كل من الوجود والعدم إليه متساوية.
وبعبارة أخرى: إذا تصورنا شيئاً، فإما أنْ يكون على وجه لا يقبل الوجود الخارجي عند العقل أو يقبله. والأول هو الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، واجتماع الضدين، ووجود المعلول بلا علة.
والثاني، إما أنْ يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده ولزوم تحققه في الخارج، فهذا هو الواجب لذاته. وإما أَنْ يكون متساوي النسبة إلى الوجود والعدم فلا يستدعي أَحدهما أَبداً، ولأجل ذلك قد يكون موجوداً وقد يكون معدوماً، وهو الممكن لذاته، كأفراد الإِنسان وغيره.
وهذا التقسيم، دائر بين الإِيجاب والسلب ولا شق رابع له، ولا يمكن أَنْ يُتصور معقول لا يكون داخلا تحت هذه الأَقسام الثلاثة.
الأَمر الثاني: وجود الممكن رهن علّته.
إِنَّ الواجب لذاته بما أَنَّه يقتضي الوجود من صميم ذاته، لا يتوقف وجوده على وجود علة توجده لا ستغنائه عنها. كما أَنَّ الممتنع حيث يستدعي من صميم ذاته عدم وجوده فلا يحتاج في الإِتصاف بالعدم إلى علة. ولأَجل ذلك قالوا إِنَّ واجب الوجود في وجوده، وممتنع الوجود في عدمه، مستغنيان عن العلة، لأن مناط الحاجة إلى العلة هو الفقر والفاقة، والواجب، واجبُ الوجود لذاته. والممتنع، ممتنعُ الوجود لذاته. وما هو كذلك لا حاجة له في الإِتصاف بأَحدهما إلى علة. فالأَول يملك الوجود لذاته، والثاني يتّصف بالعدم من صميم الذات.
وأما الممكن فبما أَنَّ مَثَلَه إلى الوجود والعدم كَمَثَلِ مركَزِ الدائرةِ إلى محيطها لا ترجيحَ لواحد منها على الآخر، فهو في كلٍّ من الإِتصافين يحتاج إلى علة تخرجه من حالة التساوي وتجرُّه إما إلى جانب الوجود أَو جانب العدم.
نعم، يجب أن تكون علة الوجود أمراً متحققاً في الخارج، وأما علة العدم فيكفي فيها عدمُ العلة. مثلا: إن طردَ الجهل عن الإِنسان الأُمّي وإحلال العلم مكانَه، يتوقفُ على مبادىء وجودية، وأما بقاؤه على الجهل وعدم العلم فيكفي فيه عدم تلك المبادئ.
الأمر الثالث: في بيان الدور والتسلسل وبطلانهما.
الدور عبارة عن كون الشيء مُوجِداً لشيء ثانِ، وفي الوقت نفسه يكون الشَّيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأَول. وهذا باطل لأنَّ مقتضى كونِ الأَول علة للثاني، تقدُّمُه عليه وتأخُّرُ الثاني عنه: ومقتضى كون الثاني علة للأول تقدُّمُ الثاني عليه. فينتج كونُ الشيء الواحد، في حالة واحدة، وبالنسبة إلى شيء واحد، متقدِّماً وغير مُتَقَدِّم، ومتأخراً وغير متأخر. وهذا هو الجمع بين النقيضين، وبطلانه كارتفاعهما من الضروريات البديهية. فينتج أنَّ الدّورَ وما يستلزمه محال.
ولتوضيح الحال نمثل بمثال: إِذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة واشترط كلُّ واحد منهما لإِمضائها، إمضاءَ الآخر، فتكون النتيجة توقُّفُ إمضاء كلٍّ على إمضاء الآخر وعند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاةً إلى يوم القيامة، لما ذكرنا من المحذور.
وهاك مثالا آخر: لو أَراد رجلان التعاون على حمل متاع، غيرَ أَنَّ كلاًّ يشترط في اقدامه على حمله إِقدام الآخر. فلن يحمل المتاع إلى مكانه أَبداً.
وأما التسلسل فهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة، مترتبةً غير متناهية، ويكون الكل متَّسِماً بوصف الإِمكان بأَنْ يتوقف (أ) على (ب)، والثاني على (ج)، والثالث على رابع وهكذا دواليك تتسلسل العلل والمعاليل من دون أَنْ تنتهي إلى نقطة.
وباختصار: حقيقة التسلسل لا تخرج عن حدود تَرَتُّبِ علل ومعاليل، تكون متناهيةً من جانب - أعني آخرها - وغيرَ متناهية من جانب آخر، أعني أوّلها. وعلى ذلك، يتسم الجزء الأخير بوصف المعلولية فقط بخلاف سائر الأَجزاء، فإِنَّ كلا منها مع كونه معلولا لما فوقه، علة لما دونه، فالمعلولية وصف مشترك بين الجميع، سائدة على السلسلة وعلى أجزائها كلها بخلاف العلية فهي غير صادقة على الجزء الأخير. هذا واقع التسلسل وأما بيان بطلانه:
إِنَّ المعلولية كما هي وصف عام لكل جزء من أجزاء السلسلة، وصف لنفس السلسلة أَيضاً. وكما أَنَّ كلِّ واحدة من الحَلقات معلولة، فهكذا مجموعها الذي نُعبِّر عنه بسلسلة المعاليل المترتبة، أَيضاً معلول. فعندئذ يَطرَحُ هذا السؤال نفسَه: إِذا كانت السلسلةُ الهائلة معلولةً، فما هي العلةُ التي أَخرجَتها من كَتْمِ العَدَمِ إلى عالم الوجود، ومن الظُّلْمَةِ إلى عالم النور؟ مع أَنَّ حاجَةَ المعلول إلى العلّةِ أَمرٌ بديهي. وقانونُ العليّةِ من القوانينِ الثابتة لا ينكره إِلاّ الغبي أَو المجادل في الأمور البديهية، هذا من جانب. ومن جانب آخر إِنَّ السلسلة لم تقف ولن تقف عند حدّ حتى يكونَ أولُ السلسلة علةً غيرَ معلول، بل هي تسير وتمتد بلا توقف عند نقطة خاصة، وعلى هذين الأمرين تتسم السلسلة بسمة المعلولية من دون أنْ يكونَ فيها شيءٌ يَتَّسِمُ بِسِمَةِ العليَّةِ فقط. وعندئذ يعود السؤال: ما هي العلة المحققة لهذه السلسلة المعلولة، المخرجة لها عن كتم العدم إلى حيّز الوجود؟
ولك إجزاءُ هذا البيان في كل واحدة من حلقات السلسلة، كما أُجْرِيَ في نفسِ السلسلة بعيِنها وتقول: إذا كان كلُ واحد من أَجزاءِ السلسلة معلولا ومتسِماً بِسِمَةِ المعلولية، فيطرح هذا السؤال نَفْسَهُ: ما هي العلة التي أخرجت كلَّ واحدة من هذه الأجزاء الهائلة الموصوفة بوصف المعلولية، من حَيِّزِ العدم إلى عالَم الوجود.
وإذا كانت المعلولية آيةَ الفقر وعلامة الحاجة إلى العلة، فما تلك العلةُ التي نفضت غبار الفقر عن وجه هذه الحلقات والبَسَتْها لِبَاسَ الوجود والتحقّق وصيّرتها غنية بالغَير؟.
إِنَّ معلولية الأَجزاء التي لا تنفك عن معلولية السلسلة آية التعلق بالعلة، وعلامة التدلي بالغير، وسمةُ القيام به. فما هي تلك العلة التي تتعلق بها الأَجزاء؟ وما ذاك الغير الذي تتعلق به السلسلة؟
وأنت إذا سألت كل حلقة عن حالها لأجابتك بلسانها التكويني بأنها مفتقرة في وجودها، متعلقة في جميع شؤونها بالعلة التي أوجدتها. فإذا كان هذا حال كل واحدة من هذا الحلقات، كان هذا أيضاً حال السلسلة برمّتها. وعندئذ نخرج بهذه النتيجة: إنَّ كلَّ واحدة من أجزاءِ السلسلة معلولة، والمركب من المعاليل (السلسلة) أيضاً معلول. والمعلول لا ينفك عن العلّة، والمفروض أنَّه ليس هنا شيء يكون علّة ولا يكون معلولا وإلاّ يلزم انقطاع السلسلة وتوقفها عند نقطة خاصة قائمة بنفسها أعني ما يكون علة ولا يكون معلولا، وهذا خلف.
فإنْ قلت: إِنَّ كلَّ معلول من السلسلة مُتَقَوِّم بالعلّة التي تتقدمه، ومتعلق بها، فالجزء الأَول من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني، والثاني بالثالث، وهكذا إلى ما شاء الله من الأَجزاءِ غير المتناهية والحلقات غير المحدودة. وهذا المقدار من التعلّق يكفي في رفع الفقر والحاجة.
قلت: إِنَّ كل معلول، وإِن كان يستند إلى علة تتقدمه ويستمد منها وجودَه، ولكن لما كانت العلل في جميع المراحل متسمةً بسمة المعلولية كانت مفتقرات بالذات، ومثل هذا لا يوجد معلولَه بالإستقلال، ولا ينفض غبار الفقر عن وجهه بالأَصالة، إذْ ليسَ لهذه العلل في جميع الحلقات دور الإِفاضة بالأَصالة ودور الإِيجاد بالإِستقلال بل دور مثل هذه العلل دور الوسيط والأَخذ من العلة المتقدمة والدفع إلى معلوله، وهكذا كل حلقة نتصورها علة لما بعدها. فهي عند ذاك لا تملك شيئاً بذاتها وإنما تملك ما تملكه من طرف العلة التي تتقدمها ومثلها حال العلل الأخرى من دون استثناء في ذلك. ومثل هذا لا يصيِّر السلسلة ولا أَجزاءَها غنية بالذات بل تبقى على ما وصفناها به من كونها مفتقرات بالذات ومتعلقات بالغير. فلا بدّ أَنْ يكون هناك علة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها وتكون سناداً لها.
وبعبارة أخرى: اِنَّ كلَّ حلقة من هذه الحلقات (غير الأخيرة) تحمل سمتين: سمة العلية، وبهذه السمة تُوجِدُ ما قبلها، وسمةِ المعلولية وبهذه السمةِ تعلن أَنَّهَا لم تملك ما ملكَتْهُ ولم تدفع ما دفعَتْهُ إِلى معلولها إِلاَّ بالاكتساب مما تقدمها من العلّة. وهذا الأَمر جار وسائدٌ في كل حلقة وكل جزء يقع في أفق الحس أو الذهن. فإِذاً تصبح نفسُ السلسلة وجميعُ أَجزائِها تحمل سمة الحاجة والفقر، والتعلّقِ والرَّبطِ بالغير. ومثل تلك السلسلة لا يمكن أَنْ تُوجَد بنفسها إلاَّ بالإِستناد إلى موجود يحمل سمةً واحدة وهي سمةُ العلية لا غير ويتنزه عن سمة المعلولية. وعند ذاك تنقطع السلسلة وتخرج عن كونها غير متناهية إلى التناهي.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني. ج 1 . ص61-72 .
إِشكال على برهان النَّظم
الدليل الفلسفي على وجود الله وموقف المادية ( 1 )
الإيمان بالله تعالى بين النظرة الالهية والمادية
ما هو معني عبادة الله تعالي؟
اثنان وعشرون سوالا
التوحيد الذاتي