مثال من نظام الخلق دال على الله
صديقان حميمان قديمان
من المستحسن أنَّ تزوروا في أحد أيّام الربيع الدّافئة البساتين والمزارع الخضر اليانعة. هنالك ستلاحظون مجموعات من الحشرات الصغيرة، كالنحل، والذباب، والفراشات، والبعوض، وكلها تتطاير في اتجاهات مختلفة، تنتقل من زهرة الى اُخرى ومن غصن الى آخر.
إنَّها منهمكة في حركاتها هذه حتى ليخيل إليك أنَّ قوّة غامضة تقف على رأسها مثل صاحب العمل مع عماله لا تكف عن اصدار الأوامر إليها. إنَّ أرجل بعضها وأجنحتها تتلوث بالدقيق الاصفر على الزهور فتبدو كأنَّها من العمال الذين يرتدون رداء العمل الاصفر وهم منشغلون بأداء أعمالهم.
في الواقع أنّها تقوم باعمال مهمة فعلاً، إنَّ أعمالها من الأهمية بحيث أنَّ البروفسور ليون برتن يقول: "قلّما يعرف الناس أنَّه لولا الحشرات لبقيت سلالنا خالية من الفواكه".
ونحن نضيف الى قوله ذلك قولنا: "ولفقدت بساتيننا ومزارعنا لعدّة لسنوات ماكان لها من خضرة وطراوة".
فالحشرات، إذن، هي التي تنمي الفواكه وتهيىء بذور الزهور.
لاشك أنَّكم سوف تسألون: كيف؟
والجواب. إنَّ أهم عمل حياتي في النبات، وهو عمل "اللقاح"، يتحقق بمعونة الحشرات. لعلكم تعلمون أنَّ الأزهار، كالكثير من الحيوانات، تنقسم الى الذكر والانثى، ومالم يتم اتصال وتلقيح بينهما فلن تكون هناك بذرة ولا ثمرة.
ولكن هل خطر لكم أنْ تفكروا في أقسام النبات المختلفة، التي لا تحس ولا تتحرك، كيف ينجذب بعضها نحو بعض وكيف أنَّ المسحوق الذكري، الذى يمثل حيامن الرجل يتحد مع البيضة الانثوية في النبات كمقدمة للتزواج؟
هذه العملية في كثير من الحالات منوطة بالحشرات، وفي حالات اُخرى منوطة بالرّياح، ولكنها ليست بهذه البساطة التي تبدو لنا، فهذا الزّواج المبارك الكثير الخيرات، والذي يتمّ بوساطة الحشرات، له تاريخ ومراسيم وتطورات طويلة مثيرة للعجب، سوف نتناول هنا جانباً منها:
صديقان حميمان قديمان
بعد كثير من البحوث والدّراسات، توصل علماء الطبيعة الى أنَّ النباتات والازهار ظهرت في النصف الثاني من العصر الجيولوجي الثاني. والعجيب أنَّ تلك المرحلة شهدت ظهور الحشرات أيضاً، ومنذ ذلك اليوم وعلى امتداد تاريخ الخليقة الطويل استمرت النبتة والحشرة صديقتين حميمتين وفيتين، تكمل أحدهما وجود الاُخرى.
فلكي تستأثر الزهرة بحب صديقتها الحشرة وتجتذبها نحوها وتحلّي فمها كما يقولون، فإنَّها تختزن رحيقاً عذباً، طيب الطعم في داخلها. فعندما تقوم الحشرات بالتنقل من زهرة الى اُخرى تمهيداً لعملية اللّقاح، تضع أرجلها في الزّهرة وتدخلها، فتُستقبل هناك برحيق حلو لذيذ الطعم بحيث أنَّ الحشرة تنجذب إليه دون اختيار.
يرى بعض علماء النبات أنَّ للون الزهرة ورائحتها دوراً مهماً في اجتذاب الحشرات إليها، فقد أثبتت التجارب التي اُجريت على النحل قدرة هذه الحشرة على تمييز الألوان والرّوائح.
وفي الحقيقة أنَّ الأزهار هي التي تتزين وتتجمل من أجل الحشرات لكي تجلب انتباه الفراشات والنحل التي يعجبها اللون والرّائحة والطعم، فتستقبلها في أحضانها وتهيىء الامور لعملية الزواج وتتناول طعام العرس أيضاً.
إنَّ حلاوة العرس هذه من أفضل الطعام للحشرات، وبخاصة النحل، وبتراكمه يكثر العسل. فالحشرات عند حضورها حفلة العرس تأكل شيئاً من طعام العرس، وكالضيف الصفيق، تاخذ بعضاً من ذلك الطعام معها أيضاً الى بيتها تختزنه فيه.
إنَّ عهد الصداقة بين الزهرة والحشرة، والقائم على تبادل المصالح المشتركة، كان وسيبقى كذلك.
درس في التّوحيد: عند ما يلاحظ الانسان هذه العلاقة العجيبة بين حياة الحشرات والأزهار، يتساءل دون اختيار: ترى من الذي عقد عهد الحبّ والصداقة بين الأزهار والحشرات؟
هذه الحلاوة الخاصة والرحيق اللذيذ، وهذه الألون الزاهية المختلفة الجذابة، وهذا العطر المهيّج، من ذا الذي وهبها الأزهار؟ ومن ذا الذي هدى الحشرات إليها، وجعلها تتذوقها؟
من الذي أعطي لهذه الحشرات وللفراشات، وللنحل، وللذباب الذهبي، أرجلها اللطيفة الظريفة وجهزها بما يتيح لها أن تنقل لقاح الأزهار من مكان الى مكان؟
لماذا يتّجه النحل في فترة معينة الى نوع معين من الأزهار؟ لماذا بدأ تاريخ حياة الحشرات والأزهار في وقت واحد في عالم الخلق؟
أهناك من يمكن أنْ يصدق مهما يكن معانداً لجوجاً أنَّ كل هذه الامور قد جرت على غير خطة موضوعة من قبل؟ أيعقل أنْ يحدث كل هذا الذي يحير العقول بقوانين عشوائية تضعها طبيعة عمياء لاتدرك شيئاً؟ كلا، بالطبع!
يقول القرآن الكريم: ?وأوحَى رَبُّكَ اِلى النَّحْلِ أنِ إتّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمِّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً?(النحل:68-69).
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية، آية الله مكارم الشيرازي ، مؤسسة البعثة، ط2، ص50-54
الدوافع الفطرية لمعرفة الله
الفطرة والعادة
أمثلة من نظام الخلق الدالة على وجود الله
معرفة الله في حياتنا
الطّرق إلى معرفة الله
برهان الإِمكان ( 1 )
ما هي جذور الدين في الفطرة الانسانية؟