التشيّع في الشرق الأقصى
الهند والپاكستان
يُطلق اسم « الهند » تاريخياً على مناطق جغرافيّة واسعة تشمل الپاكستان وبنغلادش، وقد تعرّف المسلمون على شبه القارّة الهنديّة عن طريق الفتوحات التي كانت في أواخر القرن الأوّل الهجري من منطقة « سيستان »، ثمّ توسّع فيها الغَزنَويّون خلال القرون اللاحقة.
وكان انتشار الإسلام في هذه المناطق قد قام بحضور العرب في هذه المناطق، ثمّ إنّ السلطان محمود الغَزنَويّ ـ إبّان حكمه بعد عدّة قرون ـ قد تابَعَ الفتوحات في هذه المناطق، فكان انتشار الإسلام في تلك البلاد انتشاراً سريعاً جداً، واستمر الحكم الإسلاميّ في تلك المناطق مدّة من الزمن، حتّى تسلّط الانجليز على تلك البلاد، فأخرجوها من يد المسلمين وجعلوا حكمها بيد الهندوس.
تتوفّر معلومات مفصّلة عن تاريخ الشيعة في الهند، على الرغم من ندرة هذه المعلومات في بعض المراحل التاريخية.
وترجع نواة أوّل تواجد شيعيّ في الهند إلى مودّة أهل البيت عليهم السّلام التي ترسّخت في قلب رجل هندي يدعى « شنسب » أسلم في عصر أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، وكان هذا الرجل محبّاً لأهل البيت عليهم السلام، وقد أعطاه أمير المؤمنين عليه السّلام عهداً توارثه أبناؤه من بعده، وعُرف أولاده وأحفاده بالأسرة الشنسبانيّة. وقد اشترك أحفاد شنسب في أواخر الحكم الأموي مع أبي مسلم الخراسانيّ في حركته التي حملت شعار « الرضا من آل محمّد عليهم السّلام » وقد بقيت هذه المودّة والمحبة في قلوب طائفة من الأشراف والحكّام في منطقة الغور، تعرّض كتاب « منهاج سراج » لذِكرهم (1).
تواجد الزيديّة في بلاد السند
يعود العامل الآخر للوجود الشيعيّ في الهند إلى تواجد الزيديّة الذين جاءوا إلى أطراف بلاد السند مع ابن محمّد النفس الزكيّة ( الذي قُتل سنة 145 هـ )، وقد تمكّن هؤلاء الزيديّة من التأثير على الحكّام العرب في تلك البلاد، فأضحى أولئك الحكّام من أتباع الزيديّة.
وكان حاكم تلك البلاد عمر بن حفص من أتباع محمّد بن عبدالله بن الحسن المثنّى ( النفس الزكيّة )، ولهذا ارسله المنصور إلى إفريقية، وأرسل إلى السند ـ بدلاً منه ـ هشام بن عمرو التغلبيّ، فامتنع الأخير من إلقاء القبض على ابن محمّد النفس الزكيّة، إلى أن حاصر أخو هشام التغلبيّ ابنَ محمّد وقتله (2)، وكان مع ابن محمّد ما يقرب من 400 نفر من الزيديّة، ويُحتمل أنّ أغلبهم قُتل في المعركة المذكورة.
الإسماعيليّة وإرساء قواعد الوجود الشيعيّ
ويرجع الفضل في إرساء أوّل وجود منظّم للشيعة في بلاد الهند إلى الإسماعيليّين، وكان أوّل دعاتهم يُدعى « ابن حَوشَب » الذي سافر إلى بلاد السند سنة 270 هـ. وقد تمكّن الإسماعيليّون في بداية أمرهم من السيطرة على مدينة « ملتان »، وكانوا في عصر العزيز حاكم مصر الفاطميّ ( 365 ـ 396 هـ ) يخطبون باسمه (3).
وذكر المقدسيّ في كتابه « أحسن التقاسم » أنّ غالبيّة سكّان هذه المدينة كانوا من العرب، وأنّ حكّامهم كانوا حكّاماً عادلين، وأنّ نساءهم ملتزمات برعاية الحجاب الإسلاميّ، فلم يكن المارّ في أسواقهم ليشاهد امرأة واحدة متبرجّة، وذكر أنّ أهالي مدينة ملتان كانوا من الشيعة، وأنّهم كانوا يؤذّنون بـ « حيّ على خير العمل »، ويذكرون فقرات الإقامة لصلاتهم مَثْنى مَثْنى، وأنّهم كانوا يخطبون باسم الحاكم الفاطميّ، ولا يَصدُرون إلاّ عن أمره وحُكمه، وأنّ الحاكم الفاطميّ كان يعمل فيهم بالقسط والإنصاف (4).
وقد هاجم السلطان محمود الغزنويّ ـ وكان مشهوراً بتعصّبه الشديد للمذهب السنّيّ ـ مدينة « ملتان » وضمّها إلى نفوذه، وقد تمكن الإسماعيليون بعد ذلك من استعادتها (5)، ثمّ إنّ هؤلاء الفاطميين انضموا بالتدريج إلى طائفة صوفيّة تنتمي إلى الشيخ بهاء زكريّا ( ت 661 هـ )، والتحق بعضهم بالمذهب الإمامي (6).
وقد بقيت هذه المدينة في عداد المناطق الشيعيّة الهنديّة، جاء في بعض التقارير أنّ نسبة السكّان الشيعة في مدينة ملتان في حدود 30 في المائة من مجموع سكانها، وأنّ نسبة الشيعة في عموم تلك المناطق تقرب من 20 في المائة من مجموع السكّان، وذُكر أنّ سكّان « شيعة مياني » التي تبعد عن مدينة ملتان أربعة أميال ينتمون بأجمعهم إلى المذهب الشيعيّ (7).
وقد أفضى وجود الشيعة الإسماعيليّة في مدينة ملتان إلى امتداد هذا المذهب إلى « المنصورة »، و « كجرات »، و « دَهلي » أيضاً.
ومن العوامل التي ساهمت في انتشار المذهب الشيعيّ في شبه القارّة الهنديّة نشوء الفرق الصوفيّة:
كالفرقة السَّهْرَوَرديّة والفرقة الجشتيّة، وهما فرقتان لهما ميول إلى مذهب أهل السنّة، لكنّهما ـ في الوقت نفسه ـ تحملان محبّة كبيرة لأئمّة الشيعة، أيّ ان أفراد هاتين الفرقتين كانوا يعتقدون بمشروعية الخلفاء، ويوالون ـ في الوقت نفسه ـ الأئمّة الاثني عشر عليهم السّلام، ثمّ إنّ هؤلاء الأفراد انتمَوا بعد فترة طويلة إلى مذهب أهل البيت عليهم السّلام، فأضحوا في عداد الشيعة الاثني عشريّة (8).
وقد حمل أفراد هاتين الفرقتين منذ القرن السابع الهجريّ فصاعداً مودّة شديدة للنبيّ صلّى الله عليه وآله ولأمير المؤمنين والسيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السّلام، وكانوا يشيرون إليهم بوصفهم « الخمسة » (9).
وفي القرن السابع الهجريّ انتشرت الطرق الصوفية متأثرّةً برجال الشيعة؛ لِما كانوا يتمتعون به من تقوى وتهذيب خلقيّ، فكان رجال الصوفيّة يعتبرون رجال الشيعة الكبار من نسل رسول الله صلّى الله عليه وآله رأساً لسلسلتهم، ومن هنا غَلَبت صبغة التشيّع على هؤلاء الصوفيّة وفق المثل المشهور « أرني شيعيّاً صغيراً أُرِكَ رافضيّاً كبيراً » (10)، إثر تنامي مودّة أهل البيت عليهم السّلام بينهم. ومن جملة هؤلاء: علاء الدولة السَّمنانيّ ( ت 739 هـ )، وشاه نعمة الله وليّ ( ت 834 هـ )، والسيّد علي الهَمَدانيّ، والسيد محمد نور بخش ( ت 869 هـ ) وابنه شاه قاسم فيض بخش ( ت 928 هـ ) (11)، فقد كان هؤلاء المذكورون ينشرون محبّة أهل البيت عليهم السّلام على الرغم من اتّجاهاتهم الصوفيّة واتّباعهم للمذهب السنيّ في الظاهر. وقد انتشر تلامذة هؤلاء الأعلام في بلاد الشرق، ثمّ غدوا من الإماميّة خلال حكم الدولة الصفويّة، ودعوا أتباعهم إلى هذا الاتجاه.
وأورد القاضي نور الله الشُّوشتري الشهيد ( ت 1109 هـ ) في خصوص منطقة كشمير: ومنذ أن أقام السيّد الأجلّ العارف السيّد محمد الخلف الصالح لسيّد المتألّهين السيّد علي الهمداني قُدّس سرّهما في تلك الديار ( كشمير )، انتمى بعض أهالي تلك الديار إلى المذهب الشيعيّ، ثمّ إنّ المير شمسي العراقيّ ـ من خلفاء شاه قاسم نور بخش ـ قَدِم إلى كشمير فتوطّن فيها، فلمّا أضحى الحكم في كشمير في يد طائفة حك تره كام ( قرية من قرى كشمير ) ودعم رجالها السيّد المذكور، أدّى ذلك إلى رواج المذهب الشيعيّ أكثر من السابق.
ثمّ ذكر القاضيّ الشهيد نور الله أسماء المناطق الكشميريّة التي ينتمي سكّانها إلى المذهب الشيعيّ (12).
وتُعدّ هجرة العلويين إلى الهند من العوامل الأخرى التي مهّدت لانتشار الإسلام في هذه البلاد، وكان لتواجد هؤلاء السادة العلويّين ـ ومعظمهم من الشيعة ـ في مختلف مناطق شبه القارّة الهنديّة الدور الفاعل في انتشار التشيّع فيها (13).
ذكر الدكتور الرضويّ في كتابه أنّ محبّة عليّ عليه السّلام وأهل البيت قد تضاعفت بين مسلمي كشمير بعد قدوم السيّد محمود السبزواريّ والسادات البيهقيّين. ثمّ ذكر بياناً مفصّلاً عن معاشرة السيّد محمود السبزواريّ للسلطان اسكندر ( 1389 ـ 1437 م ) وابنه زين العابدين (14).
وبعد تعاظم عدد الشيعة في منطقة كشمير، نشبت نزاعات بينهم وبين أهل السنّة إلى أن سقطت سلسلة كاك chak سنة 1586م وبدأ الحكم المغوليّ في تلك المنطقة. وكان معظم حكّام المغول من أهل السنّة، يقابلهم عدد قليل من الحكّام الشيعة، إلاّ أنّ الشيعة في كشمير حافظوا ـ على الرغم من ذلك ـ على وجودهم وقوّتهم (15).
ويمكن القول (16) إن الحكومات الشيعيّة في الهند قد بدأت منذ أن قامت بعض الحكومات السنيّة في الهند ـ من أمثال الحكومة البهمنيّة ـ باعتناق عقيدة تفضيل الإمام عليّ عليه السّلام وسائر الأئمّة عليهم السّلام على الخلفاء الثلاثة، على الرغم من حفظ هذه الحكومات لانتمائها مذهبيّاً إلى الاتجاه السنّي.
ثمّ جاءت سنة 833 هـ ( 1429 م ) فأعلن أحمد شاه ولي بهمن انتماءه إلى المذهب الشيعيّ، وكان يوسف عادل شاه ( 895 ـ 916 هـ ) وهو مؤسس الملكيّة البيجابوريّة قد تبع الملوك الصفويّين، فأضفى صبغة شيعيّة على طقوس العبادة العامّة في مملكته، على الرغم من أنّه كان يتحرّز من اظهار موقف سلبيّ حاد تجاه العقائد السنيّة.
ثمّ أعقبه ابنه إسماعيل عادل شاه ( 916 ـ 941 هـ ) فوطّد أُسسَ التشيّع في النظام الاداريّ، بحيث أن الخطباء كانوا يخطبون خطبة الجمعة باسم الملك الصفويّ.
وفي عصر إبراهيم الأوّل ( 941 ـ 966 هـ ) سادت منطقة كشمير حالة من الصفاء والسلم بين السنّة والشيعة، إلاّ أنّها لم تَدُم طويلاً.
هذا وكان قُلي قُطب شاه ( 918 ـ 950 هـ ) قد أسس في حيدرآباد مملكة كُلْنكُنْده باعتبارها حكومة شيعيّة، وكان يُخطَب في مملكته باسم الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السّلام الذين يأتمّ بهم الشيعة، وقد جعل ملوك سلسلة القطب شاهيّة منطقة حيدرآباد مركزاً للتشيّع فترةً من الزمن.
وكان برهان الأوّل ( 915 ـ 961 هـ ) وهو الحاكم الثاني لمنطقة أحمد نگر ( الواقعة في جنوب غرب الهند ) قد انتمى إلى المذهب الشيعيّ بتأثير من وزيره المتّقي العابد « شاه طاهر » (17). وكان تشيّعه أقوى من تشيّع حكومات « الدكن » الأخرى.
وقد أظهر بابر ( 934 ـ 937 هـ ) وابنه همايون ( 937 ـ 964 هـ ) تأييدهما للشيعة نظراً للمساعدة التي تلقّوها من الايرانيين، لكنّهما ظلاّ ينتميان ـ في الباطن ـ إلى المذهب السنّيّ (18). وكان بابر وابنه ـ وهما من أصل مغوليّ ـ قد استعانا بالشاه إسماعيل الصفويّ في الحروب التي خاضاها مع أعدائهما. وأعقبهما في الحكم أكبر شاه، وكان المذهب الرسميّ للدولة في عهده هو المذهب السنّي، إلاّ أنّ الشيعة ظلّوا يحافظون على قوّتهم وموقعهم. وكان القاضي نور الله الشوشتري الشهيد يتصدّى لمنصب القضاء في عصر أكبر شاه وجِهانگيرشاه، وكان يعمل بالتقية، ثمّ ظهر أمر تشيّعه فاستُشِهد (19).
وجسّدت أسرة ملوك « أَوَده » ـ ومركزها في مدينة « لكنهو » ـ استمراراً للتاريخ الشيعيّ، وظلّت رامبور ( في شمال الهند ) التي أعقبت لكنهو مركز حكومة شيعيّة محليّة في الهند إلى عصر قريب.
وكان أحمد علي شاه ( 1258 ـ 1264 هـ ) قد استبدل في فترة حكمه بالقوانين الحنفيّة السائدة في « اَوَده » قوانين مستنبطة من المذهب الشيعيّ.
وفي عصر هؤلاء الملوك استطاع عالم شيعيّ جليل، هو السيد دِلْدار عليّ ( ت 1235 هـ ) ـ ويُعرف باسم « غفران مآب » ـ أن ينشر المذهب الشيعيّ في الهند، وكان له دور كبير في نشر التشيّع في شمال الهند، وكان له نشاطات هامّة في منابذة التصوف هناك.
ومن أهم معالم التواجد الشيعيّ في الهند: إقامة مراسم العزاء في شهر محرّم الحرام، وهي شعائر اشترك في إحيائها وإقامتها حتّى أهل السنّة.
وأبنية « الحسينيّات » العديدة في بلاد الهند التي كانت تبنى تحت اسم « إمام باره » شاهدٌ حيّ على ازدهار الأدب الشيعيّ في بلاد الهند. وهناك أعداد كبيرة من هذه الحسينيّات في المدن والمراكز الشيعيّة، يزيد عددها أحياناً على عدد المساجد.
-------------------------------------------------------------
الهوامش
1- منهاج السراج
2- مقاتل الطالبيين- تاريخ الطبري
3- Rizvi asocio
4- احسن التقاسيم
5- ؤين الاخبار
6- Rizvi asocio
7- دائرة المعارف الشيعية
8- Rizvi asocio
9- "خمسة اصحاب الکساء"انظرتفسير الاية 33 من سورة الاحزاب
10- ميزان الاعتدال
11- مجالس المؤمنين
12- مجالس المؤمنين
13- دائرة المعارف الشيعية
14- Rizvi asocio
15- Rizvi asocio
16- التفکر الاسلامي
17- طرائف الحقائق لمحمد معصوم الشيرازي
18- Rizvi asocio
19- Rizvi asocio
المصدر:شبکة الامام الرضاعليه السلام