التنمية العربية نحو حضارة عالمية جديدة
لا يمكن تحديد أثر المتغيرات العالمية المعاصرة على مستقبل الوطن العربي ، بغير قراءة تحليلية و نقدية لهذه المتغيرات. و هذه القراءة تحتاج بالضرورة إلى منهج ، و منهجنا الذي نعتمد عليه هو ما يمكن أن نسميه المنهج التاريخي النقدي المقارن ، مع تركيز خاص على ما يطلق عليه منظور التحليل الثقافي.
ولعل السؤال الرئيس الذي يفرض نفسه:
ما الذي جرى في العالم ؟ ، و ما هو تفسيره ، و ما هي صورة النظام العالمي الجديد الآخذ في التشكل الآن ببطء ولكن بثبات؟
ما الذي جرى في العالم؟
يمكن القول بأن أهم تغير حدث هو سقوط الأنظمة الشمولية التي كانت تقوم على احتكار الحزب الواحد للسلطة، و صعود موجة الليبرالية و التعددية السياسية من خلال حركة الجماهير السلمية الإيجابية ، التي خرجت - مستفيدة من تيار البروسترويكا الذي أطلقه جورباتشوف - لكي تقضي على الاغتراب السياسي و الاقتصادي و الثقافي الذي عانت منه طويلاً.
و معنى ذلك سقوط الأنساق السياسية المغلقة ، و التي كانت تحتكر الحقيقة السياسية ، و ظهور أنساق سياسية مفتوحة ، تتعدد فيها الأصوات ، و تبرز المعارضة وتتنافس الأحزاب و الجماعات السياسية.
و قد ترتب على سقوط الأنظمة الشمولية صعود موجة القومية التي كانت مكبوتة تحت غطاء الإتفاق الشكلي و الرضا بالوضع القائم ، و بروز الصراعات الإثنية ، و كأن الصراع الطبقي قد أخلى سبيله للصراع الاثني و القومي ، و السؤال هنا :
هل كان يمكن لهذه التغييرات العميقة أن تحدث فجأة ، أم أنه كانت لها مقدمات منذ أمد بعيد؟
لو راجعنا بدقة الأدبيات الخاصة بمشكلات التطور في كل من المجتمعات الرأسمالية المتقدمة و المجتمعات الاشتراكية في العقود الماضية ، لوجدنا مفهوماً مسيطراً ، هو مفهوم الأزمة التي تمر بها كل من الرأسمالية و الاشتراكية.
غير أن الفرق الجوهري هو أن التصدي للأزمة في المجتمعات الرأسمالية بكل جوانبها الاقتصادية و السياسية و الثقافية ، كان متاحاً للمفكرين من كافة الاتجاهات بما فيها الاتجاه الماركسي ، فذلك يعد من قبيل النقد الاجتماعي المشروع ، الذي يتيح الفرصة للنخبة السياسية أن ترى البدائل المتاحة أمامها من ناحية ، و يرفع مستوى الرأي العام من ناحية أخرى.
في حين أن التعرض للأزمة في المجتمعات الاشتراكية الشمولية في أوروبا الشرقية ، كان يعد من قبيل الانشقاق و المعارضة غير المشروعة ، و التي يلاحق من يمارسها بكل صور الملاحقة ، و هكذا في الوقت الذي كان فيه جيل كامل من المفكرين الغربيين المختلفين في مشاربهم السياسية ، يمارسون النقد العلني للنظام الرأسمالي و يشخّصون أزمته الاقتصادية و السياسية و الثقافية ، كان جيلاً كاملاً من المفكرين الماركسيين يُضطهدون اضطهاداً شديداً من قبل السلطات الرسمية.
و كلنا نذكر مصير المفكر جيلاس اليوغوسلافي الذي مارس النقد للنظام الاشتراكي مبكراً بكتابه "الطبقة الجديدة"، و سجن بسببه ، و المؤرخ السوفييتي الشهير روي ميدفيديف الذي اضطهد بسبب تزعمه للتيار المعادي للشمولية، و الذي أصبح الآن من أبرز نجوم العهد الجديد.
مفهوم الأزمة إذاً كان هو المفهوم المسيطر في تحليل مشكلات المجتمعات المعاصرة . و بالرغم من أن الأزمة و التغير في نظر بعض الباحثين هي عمليات أساسية دائمة تصاحب أي وجود إنساني ، غير أنه مع ذلك لابد في مجال تعريف الأزمة من التفرقة بين الأزمات الظرفية ، و الأزمات الهيكلية. الأولى يمكن مواجهتها بتعديل بعض السياسات القائمة ، و الثانية أخطر لأنها تتعلق بصميم بنية النظام ، الذي قد يحتاج إلى جراحة شاملة ، تؤدي إلى تغيير نسق القيم الذي يقوم عليه.
إن ما حدث في الاتحاد السوفييتي و بولندا و المجر و غيرها من بلاد أوروبا الشرقية لم يكن أزمة ظرفية ، ولكنه كان رد فعل لأزمة هيكلية بالغة العمق.
و تختلف النظم السياسية و المجتمعات في طريقة مواجهتها للأزمات . و هناك – كما أشرنا- أنظمة مفتوحة ، تعتبر الأزمات وسيلة فعالة لإحداث التغيير في النظام ، و هي لأسباب متعددة قادرة على احتوائها والانطلاق من جديد ، و هناك أنظمة مغلقة ، تعتبر الأزمات معوقات تواجه إما بالقمع السياسي ، أو بإجراءات إدارية عقيمة، مما يجعلها في النهاية تدور في دائرة مغلقة تؤدي إلى الجمود.
و أياً ما كان الأمر، فإن الحديث عن أزمة النظم الرأسمالية المعاصرة، توارى تحت تأثير سقوط النظم الشمولية وما أدى إليه من تغيرات عميقة، على الصعيد الثقافي و الأيديولوجي.
الدكتور السيد يسين ، مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية
التوفيقية أساس النظام العالمي
كلمات للجهاد
فندق هوليداي إن
تصريح القذافي لوفد العلماء