مدينة بم الآثرية وقلعتها التاريخية
هناك وسط صحراء زرادشت الكبرى في جنوب إيران تقع تلك المدينة الأثرية (بَم) وقلعتها التي تُعَدّ أقدم قلعة في العالم، حيث استطاع الزلزال الأخير أن يكتب وثيقة إعدامها، وكأنها على موعد مع القدر؛ لتنتهي قصة جوهرة من جواهر التراث الإنساني بتلك النهاية التراجيدية.
فقد دمّر زلزال ديسمبر (2003) المدينة وقلعتها الواقعة على بعد ألف كيلومتر جنوب شرق العاصمة طهران.. واستطاعت الهزات أن تفتك بقلعة بم أحد أهم معالم الإرث الثقافي الإيراني والعالمي الصامدة لأكثر من ألفي عام في وجه الزمن.
(بم) المدينة التاريخية
تُعَدّ المدينة مثالاً رائعًا للمعمار الفارسي قبل الإسلام، كما أن نصف مبانيها من الطوب اللبِن، حيث جرى تشييدها في العصور الوسطى، وخلال فترة حكم الأسرة الصفوية لإيران (1501 - 1736) شكلت مدينة بم مساحة قدرها 6 كم يحيط بها سور، وتراوح عدد سكانها ما بين 9 - 13 ألف شخص، واشتهرت بأنها مركز لصناعة النسيج. كما ازدهرت المدينة بفضل موقعها بالنسبة للحجاج، وكمركز تجاري على طريق الحرير والذي يربط بين الشرق الأقصى وأوربا عبر بلاد فارس.
وتدهورت مكانة بم بعد الغزو الأفغاني عام 1722، وتم استخدامها كموقع للحامية العسكرية الأفغانية، واستمرت المدينة كثكنة عسكرية حتى عام 1932.
ومع بدايات القرن العشرين تدهورت مكانة المدينة بسبب إهمال طريق الحرير مع تطور وسائل النقل بين الشرق والغرب؛ وهو ما أدى إلى هجرة معظم سكانها إلا من بعض الحرفيين وباعة القطع التذكارية.. إلا أن المدينة ظلت من أهم معالم التراث الإنساني، وواحدة من أهم المزارات والمقاصد السياحية الشهيرة بالنسبة للإيرانيين والأجانب، وفي السنوات الأخيرة استعادت المدينة بعضاً من مكانتها مع وصول السياح ومحبي التاريخ بعد عمليات الترميم التي شهدتها المدينة. ولكن القدر لم يمهل المدينة حتى تستعيد كل مكانتها التاريخية، حيث حوّلها الزلزال إلى ركام وأنقاض، ولم يتبق منها سوى القليل، ولم يَعُد باقياً لأهلها وزوارها ومحبيها سوى البكاء على أطلالها.
أقدم قلعة في العالم.. من الطين والصلصال
وعلى مشارف المدينة كانت تنتصب قلعة (بم) منذ أكثر من ألفي عام، فهي أقدم بناء في العالم تم بناؤه من الطين والصلصال وجذوع النخيل والطوب اللبن، وتعود القلعة إلى عصر البارثيين (من 250 ق. م إلى 422م)، وتعرضت على مدار التاريخ لعمليات اجتياح وحصار شديدين، ودمرت وأعيد بناؤها مرات متعددة، كان آخرها في عهد الأسرة الصفوية، لكن بعض أبنيتها العائدة إلى القرن الحادي عشر والثاني عشر كانت لا تزال قائمة قبل أن يضربها الزلزال، حيث كانت تضم قلاعاً وأبراجاً ومسجداً وحماماً عمومياً وإسطبلات.
وبلغ طول قلعة بم 300 متر وعرضها 200 متر، ومساحتها 60 ألف متر مربع، وتكونت من خمسة أدوار مبنية من الطوب اللبن، بنيت القلعة على نتوء صخري بلغ ارتفاعه 60 متراً، وهي أشبه بقصر أوروبي من القرون الوسطى، ولكن خلافاً للمباني الأوربية المبنية من الحجارة فان هذه القلعة التاريخية كانت مبنية من الطين.
وكان يعلو القلعة برجان كبيران يبعد الواحد عن الآخر مسافة 40 متراً، وبنيا قبل 500 عام تقريباً، وكانت تضم أيضاً بناء يُدعى (جهار فصل)، ويعني الفصول الأربعة، حيث كان يتكون من أربع حجرات، حيث تمثل كل حجرة فصلاً من فصول العام، وبناء آخر يسمى (منزل الأسياد)، وكان البناءان مخصصين لقادة الجيش والشرطة، واستمر ذلك حتى بدايات القرن العشرين.
وكان يحيط بالقلعة أربعة جدران في الجزء الجنوبي منها، الجدار الأول ارتفاعه 18 متراً، ويهدف إلى حماية السكان من اللصوص، وبصفة عامة فقد كان الهدف من بناء القلعة هو حماية المدينة من أي عدوان عليها.
وقد صوِّرت بالقلعة مشاهد فيلم (صحراء التتار) الذي تم إنتاجه عام 1976 للمخرج الإيطالي فاليريو زورليني، ومن بطولة جاك بيرين وفيتوريو غاسمان وفيليب نواريه وجان لوي ترنتينيان، والفيلم مأخوذ عن قصة الكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي (صحراء التتار)El Desierto de los Tartaros والتي كتبها في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وتدور أحداثها في قلب حصن منعزل يقع في صحراء متوحشة لم تطأها قدم قط.
ترميمات اليونسكو.. دمرها الزلزال
ولأهمية قلعة بم أعلنت منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة (يونسكو) أن القلعة تمثل تراثاً عالمياً، وأجرت العديد من عمليات الترميم في القلعة على مر السنين، وكانت الحكومة الإيرانية في عام 1953 قد بدأت في تخصيص عدد من المهندسين والمؤرخين لترميم الجزء القديم من المدينة لجذب آلاف السائحين إليها، كما وضعت مؤخراً برنامجاً واسعاً لإعادة ترميم مدينة بم، ولكن جاءت الريح بما لا تشتهي السفن ليضرب الزلزال الشديد (3ر6 درجات على مقياس ريختر) منطقة بم لتستوي بالأرض تماماً.