مشاهد البعث والقيامة (5)
الصراط
الصراط في اللغة هو الطريق، ويغلب استعماله على الطريق الذي يوصل الإنسان إلى الخير، بخلاف السبيل، فإنّه يطلق على كل سبيل يتوسل به خيراً كان أم شرّاً1.
وإذا كان الصراط بمعنى الطريق، فلكل موجود من الموجودات الإمكانية طريق، لو سلكه، يصل إلى كماله الممكن من غير فرق بين الجماد والنبات والحيوان والإنسان.
وهذا ما يسمّى بالصراط التكويني، وهو مجموعة القوانين السائدة على الموجود الإمكاني، بأمر منه سبحانه، الّتي لو تخلّف عنها لهلك .
الصراط في اللغة هو الطريق، ويغلب استعماله على الطريق الذي يوصل الإنسان إلى الخير، بخلاف السبيل، فإنّه يطلق على كل سبيل يتوسل به خيراً كان أم شرّاً.
وهناك صراط آخر يختص بالإنسان وهو الصراط التشريعي، أعني القوانين والأحكام الشرعية التي قد فرضها سبحانه على عباده، وهداهم إليها، فهم بين شاكر وكفور، وقد نبّه القرآن إلى الصراط التشريعي في عدّة آيات، منها:
1ـ قوله تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا"(الدهر:3).
2- قوله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيًما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ"(الأنعام:153).
3ـ قوله تعالى: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ"(الحج:24).
وفي مقابل هذا الصراط التشريعي، طريق آخر يباينه في المقصد والمآل، وقائده هو الشيطان ومن تبعه، يقول سبحانه: "كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ"(الحج:4).
وفي ضوء هذا يتبين أنّ لله سبحانه في هذه النشأة الدنيوية، صراطين: أحدهما تكويني، في سلوكه كمال الموجود وبقاؤه، والآخر تشريعي يختصّ بالإنسان، فيه فوزه و سعادته.
نعم، يستظهر من الذكر الحكيم، ويدلّ عليه صريح الروايات، وجود صراط آخر، في النشأة الأخروية يسلكه كل مؤمن وكافر.
يقول سبحانه: "فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا... وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً"(مريم:68-71).
وقد اختلف المفسّرون في معنى الورود بين قائل بأنّ المراد منه هو الوصول إليها والإشراف عليها لا الدخول، وقائل بأنّ المراد دخولها. وعلى كل تقدير، فلا مناص للمسلم من الإعتقاد بوجود صراط في النشأة الأخروية، وهو طريق المؤمن إلى الجنة، والكافر إلى النار2.
وقد وصف الصراط في الروايات بأنّه أدقّ من الشعر، وأحدّ من السيف. غير أن البحث يتركز على التعرّف على حقيقة هذا الصراط بالمقدار الممكن، وان كان الوقوف على حقيقته كما هي، غير ممكنة إلاّ بعد رفع الحجب.
فنقول: لا شك أنّ هناك صلة بين الصراطين الدنيوي والأُخروي من وجوه:
1ـ إنّ سالك الصراط الدنيوي بهداية من النبي، يسلك الصراط الاخروي بنفس تلك الهداية ويجتازه بأمان إلى الجنة. وسالكه بهداية الشيطان وولايته، يسلك الصراط الأُخروي، بنفس تلك الهداية، فتزل قدمه ويهوي في عذاب السعير قال سبحانه: "كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ"(الحج:4).
علي بن أبي طالب عليه السَّلام قال: "والصّراط المستقيم، صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، أمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة"
2ـ إنّ قيام الإنسان بالوظائف الإلهية، في مجالي العقيدة والعمل، أمر صعب أشبه بسلوك طريق أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف. فالفائز من الناس، من كانت له قدم راسخة في مجال الإيمان والعقيدة، وتثبّتٌ في مقام العمل والطاعة، ومن المعلوم أنّ الفوز بهذه السعادة ليس أمراً سهلاً، فكم من إنسان ضلّ في طريق العقيدة، وعبد النفس والشيطان والهوى، مكان عبادة الله سبحانه، وكم من إنسان فشل في مقام الطاعة والعمل بالوظائف الإلهية.
فإذا كان هذا حال الصراط الدنيوي من حيث الصعوبة، والدقة، فهكذا حال الصراط الأُخروي، وإلى ذلك يشير الإمام الحسن بن علي العسكري عليهما السَّلام، في حديثه عن علي بن أبي طالب عليه السَّلام قال: "والصّراط المستقيم، صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، أمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة"3.
فلو قال قائل بأنّ الصراط الأُخروي تمثّلٌ لذلك الصراط الدنيوي وتجسّد له، فلم يجازف.
3- إنّ لصدر المتألهين كلاماً في تبيين المراد من كون الصراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف.
قال: "إنّ كمال الإنسان منوط باستعمال قوتيه، أمّا القوة النظرية فلإصابة الحق ونور اليقين في سلوك الأنظار الدقيقة التي هي في الدقة واللطافة أدقّ من الشعر"إذا تمثلت" بكثير. وأمّا القوة العملية، فبتعديل القوتين الشهوية والغضبية، لتحصل للنفس حالة اعتدالية متوسطة بين الاطراف غاية التوسط، لأنّ الأطراف كلّها مذمومة، والتوسط الحقيقي بين الأطراف المتضادة منشأ الخلاص عن الجحيم. وهو أحدّ من السيف، فإذاً الصراط له وجهان:
أحدهما أدقّ من الشعر، والآخر أ حدّ من السيف4.
وعلى هذا البيان فالدقة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل النظري والحِدّة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل العملي. وما في الآخرة تجسد للصراط الدنيوي في الدقة والحدة، ولا حقيقة له إلاّ ما كان للإنسان في هذه الدنيا.
4ـ إنّ للإيمان واليقين درجات كما أنّ للقيام بالوظائف العملية مراتب، فللناس في سلوك الصراط منازل ودرجات. فهم بين مخلص لله سبحانه في دينه، لا يرى شيئاً إلاّ ويرى الله قبله، وبين مقصّر في إعمال القوى النظرية والعملية، كما أنّ بينهما مراتب متوسطة، فالكل يسلك الصراط في النشأة الأُخرى، في السرعة والبطء، حسب شدّة سلوكه للصراط الدنيوي ولأجل ذلك تضافرت روايات عن الفريقين باختلاف مرور الناس، حسب اختلافهم في سلوك صراط الدنيا، قال الإمام الصادق عليه السَّلام: "النّاس يمرّون على الصراط طبقات، والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف، فمنهم من يمرّ مثل البرق، ومنهم مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ حبواً، ومنهم من يمرّ مشياً، ومنهم من يمرّ متعلّقاً قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً"5.
فبقدر الكمال الذي يكتسبه الإنسان في هذه النشأة، يتثبت في سلوك الصراط الأُخروي، ولا تزل قدمه، يقول سبحانه: "وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ"(المؤمنون:73-74).
هذا ما يقتضيه التدبّر في الآيات والروايات الواردة حول الصراط، ومع ذلك كلّه ليس معنى كون الصراط الأُخروي تجسماً للصراط الدنيوي، وسلوكه تمثّلاً لسلوكه، إنكار وجود صراط فوق الجحيم، لا محيص لكل إنسان عن سلوكه، بل مقتضي التعبد بظواهر القرآن والحديث وجود ذلك الصراط بمعناه الحقيقي، وإن لم نفهم حقيقته، ولا بأس بإتمام الكلام بحديث جابر، وهو ينقل عن النبي أنّه قال:
"لا يبقى برّ ولا فاجر إلاّ دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، حتى أنّ للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجّي الله الذين اتّقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا"6.
الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
--------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- مفردات الراغب، مادة سبل
2- تفسير القمي، ج1، ص 29، وفي أُخرى بزيادة: "وأظلم من الليل".
3- معاني الأخبار، ص33
4- الأسفار،ج9،ص 285.
5- أمالى الصدوق، المجلس 33، ص 107. لاحظ الدر المنثور، ج4، ص 291.
6- الدر المنثور، ج4، ص 280.
الجنَّةُ ونعيمها - أنهار الجنَّة وعيونها
أشراط الساعة(4)
لقاء اللّه ومشاهدته العقلية