إنكار الفطريات و الغرور بالعلم
إن التعلّل بمعرفة النفس أصبح في هذه الأزمان أداة طيّعة في يد الإلحاد، خصوصاً الجامعيين المؤمنين بفروض "فرويد" ومنهجه فجعلوا علم النفس أساساً لإنكار الفطريات، الّتي يقوم عليها دين التوحيد، يقول سبحانه: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ?(الروم:30).
وقد عادت علاقة الدين بالانسان عندهم وليد الميول الجنسية للإِنسان، بل أصبحت المعنويات عند أصحاب هذا المنهج ظاهرة طفولية، واستبقاء لعلاقة الطفل في يوم عجزه، بأُمه وأبيه، فإذا كبر الإنسان وأحس بعجز الأب والاُم تجاه الاخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر وأقدر على حمايته تجاه الحوادث حتى يُحلَّها محل أبيه، وهكذا نشأت عندهم فكرة الإله.
فالعالم الكلامي الّذي يريد الدفاع عن حياض الإسلام والمسلمين لا مناص له إلا التركيز على معرفة الإنسان، معرفة تامة، بنفس الطرق الّتي يستعملها علماء النفس في معرفته.
الغرور بالعلم
إن الإِنغرار بالعلم الحديث - مع الاحترام التام للعلم وأهله - صار سبباً لإِنكار المعاجز، وخوارق العادات، وتسرب الشك إلى الوحي والإدراك الخارج عن إطار الحس والعقل، كما تسرب الشك إلى العصمة في الأنبياء، وبكلمة قصيرة، في أكثر ما يرجع إلى عالم الغيب والخارج عن الشهادة، وصار هذا مبدء لنزوع كثير من الباحثين عن القرآن والسنة إلى تأويل ما لا يلائم قوانين الشهادة. ولأجل أن يكون القارئ الكريم على بصيرة من اغترار هؤلاء بالعلم، نذكر نماذج من أفكارهم.
فهذا هو شيخ الأزهر محمد عبده (ت 1323 هـ) وقد خدم الازهر بفكره وقلمه وورث عن أستاذه السيد جمال الدين الأسد آبادي، أفكاره وآراءه يؤل الآيات الدالة على إحياء الموتى في هذه النشأة، تأويلاً يناسب روح العصر الإلحادي .
كما أنه بطبيعته العلمية يحاول أن يفسر الملائكة بالقوى الطبيعية، ومن المعلوم أنّ الحافز إلى هذا التوجه ليس إلاّ الإغترار بالإساليب العلمية التجريبية والخوف من المتدرعين بالعلم الحديث، والإنهزام أمامهم. وإلاّ فقد كان اللائق بشيخ الأزهر الصمود أمام التيارات الإلحادية وأن يقول - رافعا عقيرته - إنّ أقصى ما للعلم من الحق هو الإثبات لا النفي، فالعلوم التجريبية مهما بلغت من القمة، ليس لها شأن إلاّ تحليل الموجودات المادية فقط، وأما نفي ما وراء الطبيعة وإنّه ليس هناك ملك ولا جن ولا وحي ولا لوح ولا قلم، فلا شأن له فيه، ولو تدخل فيه فقد تطلع إلى ما هو أقصر منه.
وهذا هو الاُستاذ الأكبر الشيخ المراغي، يرى أن التشريع الإسلامي غير صالح للتطبيق على هذه الظروف، وإنه يختص بالعصور الغابرة يقول: إن من ينظر في كتب الشريعة الأصلية بعين البصيرة والحذق، يجد أنه من غير المعقول أن تضع قانوناً أو كتاباً أو مبدء في القرن الثاني من الهجرة ثم يجيء بعد ذلك، فتطبق هذا القانون في 1354 هجرية2.
وهذا فريد وجدي كاتب دائرة معارف القرن الرابع عشر تجده يرقص لافلات الحكومات من سلطان رجال الدين ويمدح ثمرات العلوم مغمزاً بثمرات الدين، يقول: "تقدم الزمان وأفلتت الحكومات من سلطان رجال الدين واقتصر سلاح الدين على ما كان لديه من قوة الإقناع، ففي هذه الأثناء كان العلم يؤتي ثمرات من استكشاف المجهولات، وتخفيف الويلات، وترقية الصناعات، وابتكار الأدوات والآلات، ويعمل على تجديد الحياة البشرية تجديداً، رفعها عن المستوى، فشعر الناس بفارق جسيم، بين ما انتهوا إليه في عهد الحياة الحرة وتحت سلطان العلوم المادية، وبين ما كانوا عليه ايام خضوعهم لحفظة العقائد"3.
وليس هذا الداء مخصوصاً بهؤلاء، بل هناك رجال آخرون تأثروا بالفلسفة المادية الغربية فأخذوا ينظرون إلى منطق الدين باستصغار.
فهذا أحمد أمين المصري الطائر الصيت، يقول في كتابه: "إن قانون التناقض الّذي يقول به المنطق الشكلي القديم والّذي يقرر أن الشيء يستحيل أن يكون وأن لا يكون في آن واحد، يجب عليه الآن أنْ يزول من أجل حقيقة "هيجل" العليا الّتي تنسجم فيها المتناقضات والّتي تذهب إلى أن كل شيء يكون موجوداً وغير موجود"4.
وقد عزب عن المسكين أن ما يدّعيه "هيجل" من الجمع بين النقيضين لا يمت إلى النقيضين المبحوث عنهما في المنطق الشكلي، بصلة. وإنّما هو عبارة عن العناصر المتضادة في الطبيعة الّتي يحصل من تفاعلها شيء ثالث، ولو أردنا أن نعبر عنه باصطلاح صحيح، فيجب أن نقول: يريد المتضادين في مصطلح الفلسفة، لا النقيضين، ولا الضدين في مصطلح المنطق.
ثم نسأل الأُستاذ، إذا كانت أَبده القضايا، أعني امتناع اجتماع النقيضين، واقعة في إطار الشك والترديد، بل الردّ والإنكار، فأنّى له أن يثبت قضية يقينية طاردة للشك واليقين، إذ المفروض عنده أنّ النقيضين يجتمعان، وأنّه لا مانع من أن تهدف قضية "قرأ أرسطو على أفلاطون" ونقيضها "لم يقرأ أرسطو على أفلاطون".
وأسوأ من ذلك قوله الآخر، مندداً بعلم الكلام الّذي نرى جذوره في القرآن والسنة، ثم العقل: "أما علم التوحيد فبرهان لمن يعتقد، لا لمن لا يعتقد، برهان لصاحب الدين، لا لمخالفه، ولهذا لم نر في التاريخ أن علم الكلام كان سببا في إيمان من لم يؤمن، أو إسلام من لم يسلم إلا نادرا، وإنّما كان سبباً في ايمان الكثير وإسلام الجم الغفير، الدعوة من طريق القلب لا من طريق المنطق5.
نقول: إذا لم يكن علم الكلام سببا لإيمان من لم يؤمن، فما معنى هذه البراهين الّتي يسوقها القرآن حول دحض الشرك ودعم التوحيد، وإذا كان العقل غير مفيد في الهداية، بل المفيد هو الكشف والشهود، الّذي يعبر عنه بطريق القلب، فما معنى دعوة الوحي إلى التعقل والتدبر.
والعجب أن كل ما يقوله هو، هو برهنة واستدلال بالعقل، وهو يريد أن يرد العقل بالعقل، فما هذا التناقض؟ اللهم إلاّ أن يلتجئ الأستاذ إلى فرضية "هيجل" وأنّه يصح الجمع بين النقيضين!!.
وفي مؤخر القوم، كاتب "حياة محمد"، محمد حسين هيكل، فإنّه يبث سمومه في مقدمة كتابه وثناياه، ويرفع عقيرته بأن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق، يقول:
"إنصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في الأديان وفي الرسالة الإسلامية، وصاحبها، وزادهم انصرافاً ما رأوا العلم الواقعي والفلسفة الواقعية (الوضعية) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق ولا تدخل في حيز التفكير العلمي، وأن ما يتصل بها من صور التفكير التجريدي، الميتافيزقي، ليس هو أيضاً من الطريقة العلمية في شيء"6.
ماذا يريد من قوله: إن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق. فهل يريد من المنطق، الإستدلال عليها، كما يستدل عليها بالبرهنة العقلية الّتي تقوم على أساس إرجاع النظريات إلى البديهيات، فهذا عدوان وظلم، فان أُصول المسائل الدينية إنما تثبت بالبرهان العقلي، ومن سَبَرَ كتب الإلهيات للمعتزلة والأشاعرة والإمامية يجد مقدرتهم العلمية على إثبات ما يتبنونه.
وإنْ أراد أنّه لا يخضع للأساليب التجريبية الّتي هي من شؤون العلوم المادية، فهو مسلم، لكن ذلك الترقب، ترقب في غير محله، لخروجه عن نطاق التجربة.
والعجب أن ما ذكره الاُستاذ ليس أمراً تجريبيا بل هو برهنة عقلية استنتجها من المشاهدات، حسب زعمه.
هذه نماذج من الاغترار بالعلم وتسرب المادية إلى الاوساط الدينية، فإذا كان هذا حال هؤلاء الذين يعدون في الجبهة والسنام من الشخصيات الدينية في مصر العزيزة، فما حال البسطاء الذين ينهلون من مشارعهم ومشارع من يتظاهر بالمادية ويرفع عقيرته بأنّه قد مضى سلطان الدين وبدأ سلطان العلم.
هذه وتلك وغيرها ممّا لم نذكر يفرض علينا رسالة جديدة في علم الكلام وهي التركيز على الموضوعات الّتي يتخذها الإلحاد منصة لإذاعة الإلحاد وإطلاقه. ولا نكتفي بعلم الكلام السابق، والموضوعات المحدودة، بل نماشي حاجات العصر بتطوير خاص لنجابه بذلك ضوضاء الإلحاد، بالمنطق الرصين والعظات البالغة النافذة.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني. ج 3 . ص5-17
الدين مبدع للعلوم
الدّين دعامة الأخلاق
الانسان ليس بعداً مادياً فحسب
تطوير علم الكلام و رصد الحركات الإلحادية
ولكل وجهة هو موليها
مثال من العلماء الحقيقيين الذين يعترفون بعدم العلم
قول لا أعلم