نقش الخواتيم لدى الأئمة (عليهم السلام)
احديث جامع في نقش خواتم الأئمة عليهم السلام:
1-الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله و سلم:
2 ـ فاطمة الزهراء عليها السلام:
3 ـ أمير المؤمنين عليه السلام:
4 ـ الإمام الحسن عليه السلام
5 ـ الإمام الحسين عليه السلام:
6 ـ الإمام السجاد عليه السلام:
7 ـ الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام:
8 ـ الإمام الصادق عليه السلام:
9 ـ الإمام الكاظم عليه السلام:
10 ـ الإمام الرضا عليه السلام:
11 ـ الإمام الجواد عليه السلام:
12 ـ الإمام الهادي عليه السلام:
13 ـ الإمام العسكري عليه الصلاة والسلام:
14 ـ الإمام المهدي عليه السلام:
لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلي يوم الدين. وبعد. فهذا بحث مقتضب حول نقوش خواتم الأئمة عليهم الصلاة والسلام، ودلالاتها ومراميها. وفقنا الله للسير على هدى الإسلام، والالتزام بتعاليمه السامية، ومنه نستمد العون والقوة، وعليه المعتمد والتكلان.
تمهيد:
إن أئمتنا الأطهار (عليهم السلام)، هم القدوة، وهم الأسوة وهم أعلام الهداية من كلماتهم تقتبس العلوم والمعارف، ومن حياتهم ومواقفهم تلتمس العظات، والعبر، والأحكام. كما أن مما لا شك فيه. هو أن كثيراً بل أكثر جوانب حياتهم صلوات الله وسلامه عليهم لم تنل بعد ما تستحقه من العناية والاهتمام، ولم تزل رهن الإبهام والغموض، لم يتعرض العلماء والباحثون لكشف غوامضها، ولا لتوضيح وحلّ مبهماتها. وقد نجد كثيراً من مواقفهم، وجوانب حياتهم قد اعتبرت غير ذات أهمية، أو غير ذات مدلول حي يعطيها من القيمة ما يجعلها جديرة بالبحث والدرس و التمحيص وإذن فما على الباحث أو القارئ إلا أن يمضي عنها، ويتجاوزها إلى غيرها، مما يعتقد أن فيه فائدة أتم وأعلى ونفعا أعظم وأغلى.. ولكن الحقيقة هي: أن ذلك لم يكن ـ على الأقل ـ هو الموقف الصحيح والسليم، فان هذه الأمور بالذات، قد كانت ذا مغزى عميق ومدلول هام ودقيق، وهي تدخل في نطاق خطتهم النضالية والرسالية والتعليمية المرسومة، لأنها إنما تعني موقفا مبدئيا ورساليا، لا يمكن التفريط فيه ولا التنازل عنه. وليكن ما كان ينقشه كل إمام على الخاتم، الذي كان يتختم به، هو ذلك المثال الحي، والبارز الذي نختار الإشارة إليه والتركيز في بحثنا المقتضب هذا عليه..
فإننا وبكلمة موجزة وسريعة نعتقد:
إن ما كان ينقشه كل إمام من أئمتنا (عليهم السلام) ، على الخاتم الذي يختار التختم به، وكذلك تختمه (عليه السلام) بما كان مختصا بالأئمة الذين سبقوه لم يكن لمجرد البركة، ولا لمحض الترف الفكري، ولا كان أمراً عفوياً على الإطلاق. وانما كان يعبر ـ عموماً ـ عن ظاهرة من نوع معين، وعن ظروف نفسية واجتماعية، وسياسية وعن مفهوم عقائدي أو ديني وغير ذلك، وكذلك عن مميزات وملكات شخصية خاصة لابد من التعبير عنها، أو تسجيل موقف ولو بهذا المستوى منها. ونستطيع أن نؤكد على وجهة نظرنا هذه، استناداً إلى ما نملكه من تصور مهما كان ناقصاً ومحدوداً عن تلك الظروف والأحوال، والتقلبات التي واجهها الأئمة (عليهم السلام) في العصور المختلفة، وفرض عليهم التأثير فيها، أو التعاطي معها. وأنه وإن كانت المناسبة غير قادرة، أو بالأحرى لا تسمح لنا بالتوسع في هذا الموضوع، وحشد الأدلة والشواهد الكثيرة مع مصادرها على كثير مما نود الإشارة إليه، مما يمكن أن يكون موضع شبهة وريب لدى البعض. إلا أننا لسوف نعتبر: أن قيمة هذا البحث وأهميته لا بد وأن تفرض على الجميع المزيد من التأمل، والمزيد من التروي في الأحكام التي يصدرونها، أياً كان نوع تلك الأحكام، وأياً كانت منطلقاتها ومبرراتها.
نقاط لا بد من الإشارة إليها:
وإذا ما أردنا توضيح بعض ما نرمي إليه هنا. فلا بد أولاً من الإشارة إلى النقاط التالية:
1 ـ إن الخاتم يعتبر شعاراً، له دلالته الخاصة، واعتباراته المتميزة، كما يظهر من ملاحظة التاريخ(1)
2 ـ إن من يتأمل ما ورد في الأخبار والنصوص من اختلاف ظاهر بين العبارات التي كان يكتبها الأئمة على الخواتم التي كانوا يلبسونها. وحتى في العبارات المختلفة التي كانت تنقش على الخواتم المتعددة التي لإمام واحد ـ إن من يتأمل ذلك، يخرج بحقيقة: إنها تحمل في طياتها إشارات شديدة الوضوح أحياناً، وفيها شيء من الخفاء أحياناً أخرى لأمور هامة نابعة من طبيعة المرحلة التي كانوا يعايشونها ومن واقع الإهتمامات التي كانت تفرض نفسها عليهم. وكانت من الخطورة و الأهمية بحيث كان لابد لهم من الإشارة إليها، وتحديد موقفهم منها، ولو بهذا المستوى وحتى بهذا الأسلوب. ولسنا بحاجة في مجال التدليل على ذلك إلا للإشارة إلى مثال واحد، وواحد فقط. وهو مدى التفاوت بين ما كتب على الخاتم الذي كان يلبسه الإمام الحسين عليه السلام، وهو: " إن الله بالغ أمره ".. وبين ما كتب على الخاتم الذي كان يلبسه الإمام السجاد صلوات الله وسلامه عليه، وهو: " خزي وشقي قاتل الحسين بن علي عليه السلام " .
3 ـ إن من يراجع الأحاديث التي وردت فيها الإشارة إلى تلك النقوش يلمس بوضوح أن ثمة تعمداً وإصراراً منهم عليهم السلام إلى بيان هذا الأمر واهتماماً بالغا بتوجيه الأنظار إليه، وإعلام الناس به. ليس فقط بالنسبة لخواتم الأئمة عليهم السلام وإنما حتى بالنسبة لنقوش الخواتم التي كان يتختم بها الأنبياء السابقون عليهم الصلاة و السلام في محاولة ظاهرة منهم عليهم السلام للتركيز والتأكيد على حقيقة يهتمون بتقريرها أو اتجاه معين، لابد من التوجيه إليه والتأكيد عليه، أو ضرب وإدانة مفهوم أو اتجاه آخر، أو ظاهرة من نوع ما. تفرض المسؤولية الرسالية تسجيل موقف رافض منها، حتى ولو من أجل تعريف الأجيال الآتية، وإظهار ما يمكن إظهاره من الحقائق لها. فنجد الحسين بن خالد يسأل الإمام الرضا عليه السلام عن نقش خاتم أمير المؤمنين علي عليه السلام فيقول له: " ولم لم تسألني عما كان قبله " ؟ ! ثم يذكر له نقوش خواتم الأنبياء ثم الأئمة الذين سبقوه عليه الصلاة والسلام (2).
4 ـ إننا نجد النقول الحديثة والتاريخية تذكر نصوصا مختلفة لنقش الخواتم، حتى بالنسبة لإمام واحد من أئمتنا الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم. وإذا كنا لا نجد ضرورة، ولا داعياً لتعمد الكذب من أحد في أمور كهذه، ما دامت قلما تثير شكوك أو حساسيات الآخرين، لانهم قلما يلتفتون إلى مغازيها ومراميها الحقيقية.. وإذا كنا أيضاً نجد كل واحد من تلك النقوش منسجماً مع التحليل الموضوعي والمقبول لطبيعة المرحلة والظروف التي واجهها الأئمة عليهم السلام في فترات مختلفة، بحيث جاء كل واحد من تلك النصوص منسجماً مع الظرف والمرحلة التي هو فيها. حتى إذا طرأ عليها تغيير من نوع ما فإننا نجد أن النص الآخر يأتي منسجماً مع هذه المستجدات ـ كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. إذا كنا نجد ذلك ـ فإننا لا نرى بعد، أي مانع من الاعتقاد بصحة أكثر أو كل تلك النصوص. وإنها إن كانت قد تعرضت لشيء من التغيير والتحوير، فإنما اقتضاه البعد الزماني الشاسع الذي يحمل معه – عادة – الكثير من التصحيف والتحريف المعنوي، والسهو والخطأ من الرواة والنساخ، وذلك أمر ليس بعزيز.. وإننا إذا راجعنا الروايات في هذا المجال فلسوف نجد إشارات صريحة إلى هذا التغيير العمدي في نقش الخاتم الذي يلبسه الإمام منهم عليهم السلام، ثم تعمد إظهار ذلك التغيير والتبديل. وكشاهد على ذلك نشير إلى ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: " في خاتمي مكتوب: الله خالق كل شيء " . وعن الرضا عليه السلام: " نقش خاتمي: ما شاء الله لا قوة إلا بالله " ، وعنه عليه السلام: " كان نقش خاتم أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: " حسبي الله " قال: " وبسط الرضا كفه وخاتم أبيه في إصبعه حتى أراني النقش " . وأخرج الرضا عليه السلام خاتم أبي عبد الله الصادق عليه السلام فإذا عليه: " أنت ثقتي فاعصمني من الناس " (3) بل يظهر من أكثر الأحاديث التي وردت في هذا المعنى: أن الإمام عليه السلام هو البادئ في بيان نقوش خواتم الأئمة والأنبياء وليس فيها إشارة إلى طلب ذلك من سائل إلا فيما ندر.
5 ـ إننا نجد في تلك النصوص والروايات: أن بعض الأئمة كان يتختم بخاتم أبيه، أو أحد الأئمة السابقين مطلقاً، أو في يوم الجمعة مثلاًَ، ويكون له في نفس الوقت خاتم آخر يختص به، له نقش آخر أيضاً. ولعل الملاحظة الدقيقة: تعطي انه قد كان ثمة تداخل في الدورات الزمانية، وفي الأحوال والأوضاع والظروف التي كانت تواجه الأئمة عليهم السلام. الأمر الذي يفرض وحدة الموقف من قبل أكثر من إمام. وقد تنشأ ظواهر وظروف جديدة إلى جانب تلك، أو منفصلة عنها، بحيث تمس الحاجة إلى تسجيل موقف آخر، يرافق ذلك الموقف لفترة طويلة أو قصيرة، أو ينفصل عنه. وقد تنقطع هذه الظاهرة أو تضعف لفترة ما ثم تعود للظهور والقوة من جديد، الأمر الذي يستدعي العودة للإشارة إليها، أو مقاومتها ومقارعتها أو تسجيل موقف تجاهها للتاريخ، وللأجيال، بالسبل المناسبة والمتوفرة بالفعل..
6 ـ وحديثنا هنا.. وإن كان يفترض فيه أن يركز ويعالج خصوص ما يرتبط بحياة ثامن الأئمة، الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه أجمعين. إلا أن حياة الأئمة في واقع الأمر، و بالنسبة لخصوص هذا الأمر لا يمكن فصلها بعضها عن بعض ما دام أنهم عليهم السلام يمثلون خطا واحدا، ويعملون من منطلق واحد، ومن أجل هدف واحد، وإن اختلفت الظروف التي فرضت على كل واحد منهم آثارها المتخالفة كما هو معلوم. وإذن.. فإن من الطبيعي أن يستدعي حديثنا عن هذا الأمر بالذات إستعراضاً موجزاً ومحدوداً جداً لنقوش الخواتم التي كان يتختم بها الأئمة السابقون عليهم السلام، وحتى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وفاطمة الزهراء عليها السلام ولما ترمي إليه ليساهم ذلك في فهم أعمق للنقش الذي كان على الخاتم الذي كان يتختم به الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام. ولا نريد أن ندعي: أننا قد اكتشفنا كل الحقيقة في هذا المجال ولكننا نقول: ليكن ما نشير إليه هنا هو الخطوة الأولى والبداية الموجزة و المحدودة، التي تحتاج لتكاملها ونضجها لمزيد من التأمل والجهد والمثابرة. وبعد كل ذلك نقول: إننا سوف نتكلم في هذا المجال على النحو التالي:
لقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام حديث جامع ذكر فيه نقوش خواتم الأئمة الذين سبقوه بل لقد تعرض فيه لنقوش خواتم بعض الأنبياء أيضاً. حيث سأله الحسين بن خالد الصيرفي: " وما كان نقش خاتم أمير المؤمنين عليه السلام؟ قال: ولم لا تسألني عما كان قبله؟ قلت: فأنا أسألك. قال: نقش خاتم آدم عليه السلام: " لا اله إلا الله محمد رسول الله " هبط به معه.. وزاد في بعض المصادر: " علي ولي الله " . ثم ذكر ما جرى لنوح ونجاة الله تعالى له من الغرق، وأن نقش خاتمه كان: " لا اله إلا الله ألف مرة، يا رب أصلحني " ثم ذكر عليه السلام ما جرى على إبراهيم، حينما أرادوا إحراقه، وإن الله اهبط إليه خاتماً فيه ستة أحرف: " لا اله إلا الله، محمد رسول الله، لا حول ولا قوة إلا بالله فوضت أمري إلى الله، أسندت ظهري إلى الله حسبي الله " ثم ذكر أن نقش خاتم موسى: " إصبر تؤجر، إصدق تنج ". ثم قال عليه السلام: " وكان نقش خاتم سليمان عليه السلام: سبحان من ألجم الجن بكلماته " وكان نقش خاتم عيسى عليه السلام حرفين اشتقهما من الإنجيل: " طوبى لعبد ذكر الله من أجله، وويل لعبد نسي الله من أجله " وكان نقش خاتم محمد صلى الله عليه وآله: " لا اله إلا الله، محمد رسول الله " وكان نقش خاتم أمير المؤمنين عليه السلام: " الملك لله " ، وكان نقش خاتم الحسن بن علي عليهما السلام: " العزة لله " وكان نقش خاتم الحسين عليه السلام: " إن الله بالغ أمره " . وكان علي بن الحسين عليه السلام يتختم بخاتم أبيه الحسين عليه السلام. وكان محمد بن علي عليه السلام يتختم بخاتم الحسين بن علي عليهما السلام. وكان نقش خاتم جعفر بن محمد عليهما السلام: " الله وليي و عصمتي من خلقه " . وكان نقش خاتم أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام: " حسبي الله " . قال الحسين بن خالد: " وبسط أبو الحسن الرضا عليه السلام فه، وخاتم أبيه عليه السلام في إصبعه حتى أراني النقش " (4). محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن يونس بن ظبيان وحفص بن غياث جميعاً، عن أبي عبد الله، قالا: جعلنا فداك، أيكره أن يكتب الرجل في خاتمه غير اسمه واسم أبيه؟ فقال: في خاتمي مكتوب: " الله خالق كل شيء " وفي خاتم أبي محمد بن علي عليهما السلام وكان خير محمدي رأيته بعيني: " العزة لله " وفي خاتم علي بن الحسين عليهما السلام: " الحمد لله العلي العظيم " ، وفي خاتم الحسن و الحسين عليهما السلام: " حسبي الله " وفي خاتم أمير المؤمنين عليه السلام: " الله الملك " (5).
ألف ـ أما فيما يرتبط بنقش الخاتم الذي كان يتختم به نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله فإنما صنع الخاتم له صلى الله عليه وآله وتختم به في المدينة المنورة، بعد الهجرة، أي بعد أن تحققت الأمنية الكبرى وعز الإسلام، وأرسيت دعائم الدولة الإسلامية، وصدق الله سبحانه وعده، وأعز جنده، ونصر عبده. فكان لا بد من تسجيل ذلك، والإشادة به، ثم التذكير للموجودين آنئذٍ، بل وإفهام كل واحد من غيرهم بأن كل ذلك قد جاء وفق ما وعد الله به نبيه الكريم… الأمر الذي يستدعي المزيد من الإرتباط به سبحانه والإلتجاء إليه، والتوكل في جميع الأمور عليه.. وذلك ما يفسر لنا كون نقش خاتمه صلى الله عليه وآله هو: " صدق الله " (6).
ب ـ ومن جهة أخرى. فقد كانت مهمة النبي صلى الله عليه وآله أقدس وأخطر مهمة يتصدى إنسان للقيام بها على وجه الأرض. فكان طبيعيا أن يكون نقش الخاتم الذي يتختم به صلى الله عليه وآله يتضمن أقدس كلمة وأخطر شعار نذر نفسه من أجله وفي سبيله، فزاد على قوله: " صدق الله " كلمة " محمد رسول الله " حسبما نقله أبو خلدة عن أبي العالية. (7). وعن الإمام الصادق عليه السلام. انه كان له صلى الله عليه وآله خاتم آخر غير الأول مكتوب عليه: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " (8). وفي نص آخر: " إن نقش خاتمه صلى الله عليه وآله كان: محمد رسول الله " (9) ورواية أخرى تقول: إنه كان: " بسم الله محمد رسول الله " (10).
نعم: إن ذلك قد كان من أجل تقرير هذا الشعار وتثبيته و ترسيخه في النفوس، وليختم به رسائله للملوك والحكام، معلنا لهم إصراره على متابعة المسيرة حتى يعم الإسلام العالم، وترتفع رايته خفاقة على جميع بقاع الأرض..
ج ـ وبعد ذلك. وإذا كان الكثيرون يحسبون أن هذه الدعوة ما هي إلا سحابة صيف لا تلبث أن تنحسر ولا تلبث أن تنتهي، ولأجل ذلك فهم يعدون أنفسهم، ويتخذون مواقفهم، ويقيمون تعاملهم معها على هذا الأساس فإن من الطبيعي أن يشير صلى الله عليه وآله إلى أن لهذه الرسالة امتدادا من بعده، ويفهمهم: أن بقاءها ليس مرهوناً بشخصه الشريف، وأن لديها من التخطيط المستقبلي ما يكفي لدوامها وبقائها بقوة و بحيوية، من خلال الولي الحافظ لها، و المدافع عنها، فيأتي النص الآخر ليشير إلى هذه الحقيقة، فيقول: إنه قد أضيف كلمة أخرى إلى نقش خاتم النبي صلى الله عليه وآله حتى صار: " محمد رسول الله، علي ولي الله " (11).
وينتقل الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى، و تواجه ابنته فاطمة الزهراء التحدي، وتتعرض لكثير من الإهانات، وللظلم والابتزاز، بل وللاعتداء عليها بضربها.. والتهديد ـ أو الشروع بإحراق بيتها عليها وعلى جميع من فيه. إلى غير ذلك مما لا يجهله أحد.. و تقول فاطمة كلمتها، و تسجل موقفها الرسالي الرائد.. وتعلنها صريحة مدوية: إنها لا تجد في كل ذلك وسواه ما يخيف أو ما يرهب، لأن روحها الصافية ترتبط بالله، وبالله وحده، و لأنها لا تلجأ إلا إليه، ولا تعتمد ولا تتوكل في كل أمورها إلا عليه، فيكون نقش الخاتم المختص بها هو: " آمن المتوكلون " (12).
أما بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام فإننا نلاحظ: أنه قد كان له عليه السلام خواتم متعددة الأنواع، مختلفة النقش .
ونلاحظ أيضاً: أنه عليه السلام حينما تولى الخلافة قد غير نقش خاتمه عما كان عليه قبل ذلك و نلاحظ كذلك: أنه حتى في أيام خلافته قد اختلفت الخواتم التي كان يستعملها ؛ فنجد: أن خاتمه حينما صالح أهل الشام يختلف عن غيره مما كان يتختم به في ظروف أخرى.. واستيفاء الكلام فيما يرتبط بنقش خواتمه عليه السلام متعسر، بل متعذر في عجالة كهذه، ولأجل ذلك فإننا سوف نكتفي هنا بالإشارة إلى ما يلي: ألف ـ إن أمير المؤمنين عليه السلام، هو ذلك العلم الشامخ، والإنسان الكامل، وهو أيضاً ذلك المقاتل الفذ، والمحارب البارع، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، بل هو يسحق و يمحق كل أعداء الله و الإنسانية، ويقف في وجه جميع أصحاب الأهواء والمطامع اللامشروعة أنه عليه السلام ـ يتختم بالفيروزج ـ الذي معناه بالفارسية: " الظفر " ليكون رمزاً لظفر ونصر الحق والدين.. ويتختم بالحديد الصيني، الذي هو رمز القوة و المنعة ـ وبالعقيق لحرزه و حفظه. وبالياقوت لنبله.. ويكون نقش كل واحد منها متناسباً مع الواقع الذي يواجهه، والظروف التي يعاني منها.. فإذا كان عليه السلام يواجه طغيان المستبدين، وتألب الطامعين، وطلاب الملك والسلطان، ولو عن طريق التحوير والتزوير. فإننا نجد نقش واحد من تلك الخواتم يشير إلى الحق في الملك، في إدانة ضمنية لكل الغاصبين الذين يريدون أن يكونوا ملوكاً جبارين. ويرون أن جبروتهم وقوتهم ذاتية، وأن بيدهم حياة الناس وموتهم ورزقهم وحرمانهم.. نعم إننا نجده عليه السلام يشير إلى ذلك، والى أنهم إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه عن طريق التزوير و التحوير وأن ما يدعونه لأنفسهم ليس إلا منازعة لله سبحانه و تعالى رداءه. وليس إلا اغتصاباً لمقام الله، وتعدياً على حقه سبحانه، فهو سبحانه وحده له الحق في أن يعطي الملك من يشاء، وينـزعه عمن يشاء (13).
إنه عليه السلام يشير إلى ذلك كله بكلمة واحدة، كتبها على أحد تلك الخواتم، وهي " الملك لله " أو " الله الملك " (14) أو " الله الملك الحق " أو " لا إله إلا الله الملك الحق المبين " (15). كما إنه يشير إلى أنه وحده الذي يمثل الخط الرسالي الصحيح، وينقاد لله سبحانه ويستحق وسام العبودية المطلقة لله تعالى، والتي هي أعظم الدرجات، وغاية الغايات فيزيد عبارة تدل على هذا المعنى، حتى يصير نقش خاتمه عليه السلام: " الله الملك و علي عبده " (16). وفي إشارة منه عليه السلام إلى ما يدعيه أولئك الجبارون من العزة والمنعة نجد أن نقش خاتمه الآخر هو: " العزة لله جميعاً " (17).
ب ـ وإذا كان نقش خاتمه ع قبل أن يتولى الخلافة هو " الملك لله " ، فإنه بعد أن تولاها قد نقش على خاتمه " الملك لله الواحد القهار " (18). وبعض النصوص تقول إن العبارة الأولى كانت على جانب، فلما تولى الخلافة نقش العبارة الثانية على الجانب الآخر(19).
فهو صلوات الله وسلامه عليه يرى ـ سواء قبل الخلافة أو بعدها ـ أن الله وحده هو الملك حقيقة، ولا ملك سواه وهو ينقش ذلك على خاتمه ليذكر نفسه وكل أحد بأن خلافته لم تغير هذا المفهوم عنده. فالله هو الواحد المتفرد بالألوهية، والذي لا شريك له، هو الملك وكل من عداه لا يملك لنفسه ـ فضلاً عن غيره ـ نفعاً ولا ضراً.. وإذن.. فلا يجب أن يرتفع الناس بهم إلى مراتب لا يستحقونها، ولا يتوقعوا منهم ما لا يملكون إعطاءه ولا منعه. وإذا كان الله سبحانه هو القهار فوق عباده، وكل من عداه فهو ضعيف ومقهور أمام عظمته وسلطانه سبحانه. فان عليه بعد أن وصل إلى الحكم. أن يضع هذه الحقيقة نصب عينيه دائماً وأبداً وأن يعلم: انه ليس إلا مجرياً لأحكام الله سبحانه. وليس له أن يكون قهاراً ولا جباراً، ولا يجوز له أن يتجاوز حده، ما دام أن الملك ليس له، وإنما هو لله الواحد القهار، والله هو الحاضر والناظر والمهيمن. ج ـ وإن مما يلفت النظر حقاً ما رواه ابن سعد: " عن أبي إسحاق الشيباني، قال: قرأت نقش خاتم علي بن أبي طالب في صلح أهل الشام: " محمد رسول الله " (20). وعن علي بن الحسين، قال: كان خاتم رسول اللهص مع أبي بكر وعمر، فلما أخذه عثمان سقط فهلك فنقش علي نقشه " (21). وما ذلك إلا من أجل أن يفهم معاوية والناس جميعاً أنه هو الذي يمثل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهو خليفته الشرعي الذي يتوثب المتوثبون على حقه وتراثه " أرى تراثي نهباً " (22). وكذلك. . فإن حربه لمعاوية وحزبه لم تكن إلا من منطلق رسالي، ومن أجل الحفاظ على دين الله، فهو الذي يقول: " لقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم أر لي إلا القتال أو الكفر الخ.. " (23) كما أن قبوله للتحكيم الذي أجبره عليه الأعراب الجفاة، وأصحاب الأهواء، لم يكن إلا من أجل هذا الدين، والحفاظ على الرسالة التي جاء بها محمد رسول الله صلى الله عليه وآله. وهو بذلك يذكر أولئك الجهلة والمغرورين بما كان قد جرى للنبي صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية، حينما محا كلمة " رسول الله " بإصرار من ممثل المشركين، فلا غرو إن جرى لأمير المؤمنين مع البغاة عليه نفس ما كان قد جرى لرسول الله صلى الله عليه وآله مع أعدائه. د ـ وإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يرى: كيف أن الناس قد ركنوا إلى الدنيا، وراقهم زخرفها، واتبعوا أهوائهم، ولم يعد للدين وللإسلام في حسابهم أي اعتبار أو دور يذكر، الأمر الذي يعبر عن ضعف إيمانهم بالله، وعن عظيم جهلهم، وضعف يقينهم، فان أمير المؤمنين عليه السلام يعبر عن ذلك بما كتبه على خاتمه، وهو: " علي يؤمن بالله " (24). وإذا كان من يرون أنفسهم أصبحوا يملكون القدرة والقوة، وتهيأت لهم أسباب المنعة يسيئون استعمال هذه القدرة ويضعونها في غير مواضعها. مع أنها ليست قدرة حقيقية لهم، وإذا كان الله سبحانه هو القاهر والقادر الحقيقي الذي يعمل قدرته هذه في ما هو خير ومصلحة للناس فإنه عليه السلام يشير إلى ذلك بما نقشه على خاتمه أيضاً وهو: " نعم القادر الله " (25).
هـ ـ كما أنه وهو الذي واجهته المصائب والمصاعب، ونزلت به النوازل ولا يجد معيناً ولا ناصراً غير الله سبحانه؛ فان نقش خاتمه يكون " حسبي الله " (26).
و ـ وحينما يصبح مستهدفاً من قبل أعدائه نجده يشير إلى أنه لا يعتمد على قدرته الشخصية، وإنما يعتمد على الله وعلى الله فقط، ويكون نقش خاتمه: " أسندت ظهري إلى الله " (27).
ز ـ وأخيراً.. فقد جاء أن نقش خاتمه العقيق قد كان ثلاثة أسطر: " ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أستغفر الله " (28). وفي حديث آخر: " أنه كان له خاتم من جوهر الحديد الصيني الأبيض الصافي، وعليه منقوش هذه الأسطر على سبعة أسطر، وكان يلبسه عند الشدائد: أعددت لكل هول لا اله إلا الله ولكل كرب لا حول ولا قوة إلا بالله، ولكل مصيبة نازلة حسبي الله، ولكل ذنب وكبيرة أستغفر الله، ولكل هم وغم فادح: ما شاء الله، ولكل نعمة متجددة الحمد لله ما بعلي بن أبي طالب من نعم فمن الله " (29).
ألف ـ أما الإمام الحسن عليه السلام. فقد كان يعاني ـ من ظروف قاهرة وقاسية، من أهمها: جهل الأمة بحقيقة ما يراد بها، وبالمصير الذي تساق إليه على أيدي حكامها. وأصحاب النفوذ فيها، وحتى مال الناس إلى دنيا معاوية وتركوا نصرة الحق، وجرى ما جرى بين الإمام الحسن عليه السلام، وبين معاوية والأمويين. وياليت الأمور كانت قد وقفت عند هذا الحد، وكفى. وانما تجاوزت ذلك إلى ما هو أعظم وأدهى، حتى لنجد الطليعة المؤمنة، والعارفة بالحق، والتي يفترض فيها أن تملك قدراً أكبر من الوعي. هذه الطليعة لا تستطيع التفاعل مع الأحداث، ولا تقييمها تقييماً موضوعياً سليماً، حتى إنهم ليعتبرون صلح الإمام الحسن لمعاوية، والذي لم يكن منه عليه السلام إلا من أجل الحفاظ عليهم وعلى الإسلام كله. ولولا ذلك لم يبق من الإسلام حتى إسمه ولا من الدين حتى رسمه، وقد ساهم في فضح الأمويين و تعريتهم إلى حد بعيد (30). إنه حتى هؤلاء يعتبرون هذا الصلح بالذات أمراً شائناً ومعيباً، حتى ليواجهونه بالكلمة القاسية والجارحة والمرة. " يا مذل المؤمنين " . فالإمام الحسن عليه السلام في ظروف كهذه يعيش أعظم مصيبة، ويعاني أشد الآلام.. وإذن.. فمن الطبيعي أن يكون نقش خاتمه عليه السلام هو: " حسبي الله " (31). فهو المعين، وهو الناصر، وهو المهيمن والقاهر، وكل من عداه لا يستطيع أن يقدم أي عزاء ولا يصح الإعتماد عليه في أية نازلة أو بلاء.
ب ـ وإذا كانت الخلافة قد أصبحت ملكاً قيصرياً، ويعتبر معاوية نفسه أنه أول الملوك (32). وإذا كان المال قد فاض في أيدي الناس والحكام وغرتهم المناصب والولايات، وإذا كان هذا الإنسان الذي كان إلى الأمس القريب لا يعد شيئاً مذكوراً، ويعاني من أحط أنواع الذل والضعة والمهانة قد أصبح الآن يحكم الأقطار، ويثل العروش، ويستولي على البلاد والعباد، وإذا كان لم يكن ثمة لدى الناس مناعات ولا قناعات كافية بالمعاني الإسلامية والإنسانية السامية. إذا كان كذلك، فإن من الطبيعي أن يشمخوا بآنافهم، وينظروا بأعطافهم، وإن تأخذهم العزة وتسيطر عليهم مشاعر العظمة والخيلاء بهذا المجد الطريف، بعد ذلك الذل والخنوع التالد، ولا سيما بعد أن تمكنوا ـ حسب تصورهم ـ من إزاحة أهل البيت عليهم السلام عن الساحة، وإبعادهم عنها، الأمر الذي يعتبرونه تتويجاً لغاية آمالهم، ووصولاً إلى منتهى رغائبهم. إذا كان كذلك. فان من الطبيعي: أن نجد الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام يسجل موقفاً حاسماً في هذا المجال، ويقاوم هذه الظاهرة بأساليب شتى، وطرق متنوعة، فيتختم بخاتم منقوش عليه: " لا إله إلا الله الملك الحق المبين " (33). نعم.. إن الله هو الملك الحق، وملك سواه إن لم يكن هو المصدر له، فإنما هو ملك زائف وباطل.. كما أن الله هو المبين والمظهر لكل زيف وخطل وانحراف مهما جهد الغاصبون والظالمون في التستر على واقعهم، وإخفاء حقيقتهم وراء الأقنعة الصفراء الزائفة.. ويلاحظ أن هذا هو نفس النقش الذي كان على واحد من خواتم أبيه عليه السلام (34).
وهناك أيضاً: ما سجله نقشاً على الخاتم الآخر الذي كان يتختم به وهو قوله: " العزة لله " (35). أو " العزة لله وحده " (36). نعم.. إن العزة لله، ولله فقط، لا لسواه من كل بني الإنسان.. و بعد هذا فان من الطبيعي أن يتحمل الإنسان في سبيل دينه و مبدئه الكثير من الآلام، والكثير من المتاعب والمشقات ولا بد من الصبر على بعض الكلمات الجارحة، التي كانت توجه إليه حتى ليعتبر مذلاً للمؤمنين، مع أنه مطمئن إلى أن كل حركة تحركها، وكل موقف وقفه لم يكن إلا من أجل الحفاظ عليهم، وفي سبيل حياتهم وسعادتهم . ولو بقيمة تحمل وضع استثنائي يرى فيه الناس الذل والهوان، ويرى فيه هو منتهى الشموخ والعزة لأنه عمل جاء على وفق التكليف الشرعي، وعلى طبق الوظيفة الإلهية. ج ـ ونجد نصا آخر لما نقش على الخاتم الذي كان يلبسه عليه الصلاة و السلام، وهو: " الله أكبر وبه أستعين " (37) نعم.. الله أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، و أعز من كل عزيز، الله أكبر وهو المستعان على مواجهة بغي الباغين، وجبروت الجبارين. د ـ وأما تختمه عليه السلام بالخاتم المنقوش عليه: " الحمد لله " (38) فهو حمد لله على نعمائه، وشكر له على آلائه؛ فما بهم من نعمة فمن الله وهم قد " رضي الله عنهم ورضوا عنه " فلا يرون في أعظم المحن وأشد الأهوال إلا أنها مصدر أنس وراحة لهم، إذا كانت في سبيل الله، ولمحض رضاه سبحانه.
ألف ـ وإذا كانت ظروف الحسنين في حياتهما السياسية متشابهة في كثير من فصولها؛ لأنهما لابد وأن يقوما بواجبهما و يتحملا مسؤولياتهما الجسام في برهة زمنية متقاربة في تحولاتها وتقلباتها وظروفها. فإن من الطبيعي أن يكون ثمة تشابه في نقش بعض الخواتم التي كانا يتختمان بها.. فعن أبي عبد الله، عليه السلام: " كان في خاتم الحسن والحسين: الحمد لله " (39). وعنه عليه السلام: وفي خاتم الحسن والحسين " حسبي الله " ، وفي خاتم أمير المؤمنين: " الله الملك " (40). وروى البيهقي وغيره عنه عليه السلام: أنه كان في خاتم حسن وحسين: " ذكر الله تعالى " (41). نعم إنه إذا كان كل منهما قد خذله أصحابه، وكل منهما يلجأ إلى الله وإلى الله وحده، والله هو حسبه فإن من الطبيعي أيضاً: أن يتشابه نقش خاتميهما هنا كذلك، ويكون للإمام الحسين عليه السلام كما للإمام الحسن عليه الصلاة والسلام خاتم منقوش عليه " حسبي الله " وكذا الحال في كلمة: " الحمد لله " ، حسبما قدمناه قبل قليل.
ب ـ والإمام الحسين الذي يواجه خذلان الأمة التي ثار من أجلها، وفي سبيل حياتها وكرامتها ودينها، فإن هذا الخذلان سوف لا يفت في عضده شيئاً، ما دام أن الله حسبه، وحتى ولو كان ذلك سوف ينتهي باستشهاده مع ثلة من أهل بيته وأصحابه، فإن ذلك هو الطريق الأمثل، الذي يحفظ هذا الدين من تحريفات المبطلين، وشبهات الغاوين، فإن تلك هي مشيئة الله، وذلك هو أمره، فما عليه لو قام بواجبه، وأدى وظيفته؟ وليكن نقش خاتمه عليه السلام منسجماً مع ذلك كله، وهو: " إن الله بالغ أمره " (42).
ج ـ وكان له عليه السلام خاتم آخر قد نقش عليه ما يعبر عن استعداده للقاء الله سبحانه، وإعداده العدة لذلك، وهو قوله: " لا إله إلا الله عدة للقاء الله " (43). وهكذا ترتبط الحركة بالمبدأ، وبالغاية والمنتهى إرتباطاً عقائدياً، راسخاً وعميقاً، فالله هو المبدأ، وهو الغاية، ومعه سيكون اللقاء في يوم البقاء. " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه " (44). وفي نص آخر " إن نقش خاتمه عليه السلام كان: " لكل أجل كتاب " (45).
ألف ـ والإمام السجاد الذي عاش أجواء كربلاء، وصلي نار مآسيها وآلامها، وتستمر الظروف القاسية بفرض هيمنتها وآثارها، نرى أنه يذكر بتلك المآسي، حيث إنه كان يتختم بخاتم أبيه الذي كان نقشه: " إن الله بالغ أمره " (46). واعتزازاً منه بأداء الوظيفة الشرعية والتكليف الإلهي، وإشارة صريحة منه إلى أنه هو أيضاً يسير على نفس الخط، ويسلك نفس الطريق. كما إنه كان يتختم بخاتم أبيه الحسين عليه السلام المنقوش عليه: " لا إله إلا الله عدة للقاء الله " (47).
ب ـ وإذا كان لا بد له من العمل الدائب والجاد من أجل أن تؤتي المسيرة الجهادية التي بدأها أبوه سيد الشهداء ثمارها، وإذا كان هو الذي يتحمل مسؤولية حفظ تلك الدماء الزكية، وتأثيرها الأثر الإيجابي المنشود في روح الأمة، وفي ضميرها ووجدانها. فانه لا يكتفي بالبكاء على ذلك الشهيد الزكي، وإنما ينقش على خاتمه الإشادة بذلك الموقف الخالد، الذي لا يساوم ولا يهادن على حساب الدين والحق، ويسجل إدانته الصريحة لموقف الخزي والعار لكل أعدائهم وخصومهم أعداء الله والإنسان، ولتلك الجريمة النكراء ليبقى صداها الهادر خالداً و أبدياً، يتردد عبر الأجيال يصم آذان كل الطغاة و الجبارين، ويتحدى كل الجناة والبغاة.
نعم.. إنه ينقش على خاتمه: " خزي وشقي، قاتل الحسين بن علي " (48) عليه السلام.
ج ـ وبعد ذلك فانه إذا كان الطغيان الأموي البغيض لا يزال يمتد و يمتد، ويتعالى ويشتد، حتى ليخيل إليهم: أنهم ـ بقتلهم الحسين عليه السلام ـ قد حققوا أعز أمنياتهم وأغلاها، وبلغوا الغاية، وأوفوا على النهاية، بالقضاء حسب تصورهم على أقوى خصومهم. وهم أهل البيت عليهم السلام قضاءً تاماً ونهائياً، ويرون أنهم قد بلغوا الذروة، وحصلوا على أعلى درجات العزة والمجد.. كما تصور معاوية من قبل، حينما صالح الإمام الحسن عليه السلام فإننا نراه عليه السلام يتختم بخاتم منقوش عليه نفس العبارة التي كانت على خاتم عمه الإمام الحسن عليه السلام، وهي: " العزة لله " (49).
د ـ وإذا كان الإمام السجاد يأخذ على عاتقه مهمة إحياء الدين في ظروف هي من أصعب الظروف وأشدها وأقساها ولا سيما وأن الناس بعد استشهاد أبيه ولأسباب مختلفة بيناها في مقالنا الإمام السجاد وباعث الإسلام من جديد (50). قد تركوا أهل البيت، وانصرفوا عنهم، حتى لم يعد أحد يعترف بإمامة السجاد سوى ثلاثة أشخاص (51). إذا كان كذلك فان الإمام السجاد لابد وأن يبدأ مرحلة جهادية جديدة زاخرة بالمتاعب والأخطار، وتحتاج لمزيد من العمل والمتابعة، ومزيد من الجهد المضني، والتسديد الإلهي، فنجد نقش خاتمه عليه السلام " وما توفيقي إلا بالله " (52). هـ ـ ويوفقه الله سبحانه في جهاده الكبير ذاك، ويهيئ الأرضية المناسبة التي هيأت لنشوء مدرسة الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام بعده. وكل علو وعتو الأمويين وأعوانهم لم يكن ليتمكن من أن يعيق المسيرة، أو يمنع من القيام بالواجب، فالله هو العلي، وهو المستحق للحمد على توفيقاته ونعمه ويأتي نقش الخاتم الآخر ليقول: " الحمد لله العلي العظيم " (53). و ـ ويعيش عليه السلام في زمن يسيطر عليه الجهل بالتعاليم الإلهية، حتى إن كثيراً من الهاشميين ـ فضلاً عن غيرهم ـ ما كانوا يعرفون كيف يصلون، ولا كيف يحجون (54). فيكون نقش خاتمه: " علمت فاعمل " (55).
ونجد تشابها في بعض مراحل وظروف حياة الإمام الباقر عليه السلام مع حياة وظروف الإمام الحسن عليه السلام، ثم الإمام الحسين ثم والده الإمام السجاد عليهم السلام. ويشير إلى هذا التشابه: إننا نجد الإمام السجاد عليه السلام يقول للقاسم: " إياك أن تشد راحلة ترحلها هنا لطلب العلم، حتى يمضي لكم بعد موتي سبع حجج " (56) وإذن فمن الطبيعي أن يلبس عليه السلام خاتما يكون نقشه هو نفس نقش خاتم الإمام الحسن عليه السلام، وآخر يكون نقشه نفس نقش خاتم الإمام الحسين وولده السجاد عليهما السلام. ولم يكن تختمه عليه السلام بخاتم جده الحسين عليه السلام المنقوش عليه: " إن الله بالغ أمره " (57) إلا لأنه قد كان ثمة حاجة مستمرة لتذكير الأمة والتركيز التام على موقع أهل البيت عليهم السلام من الإسلام، ثم الإشارة بالموقف الرسالي الرائد للإمام الحسين ع والتذكير بالجريمة النكراء التي ارتكبها الأمويين في حقه وحق أهل بيته وأصحابه، مع الإلماح إلى أن ثمة إصراراً على مواصلة المسيرة وبعث هذا الدين الذي أريد دفنه مع مزيد من الثقة بألطاف الله وبعنايته، ومزيد من التفاؤل فيما يرتبط بهذه الإنطلاقة الجديدة، " إن الله بالغ أمره " ، " ومتم نوره " ومدخر نصره لعباده الأبرار مهما قست الظروف، ومهما جهد أعداء الله والإنسانية، ومهما بلغ معه ظلمهم وتجبرهم فان كل ذلك ليس إلا " كسراب بقيعة " . ولم تكن ثورة الحسين عليه السلام إلا تلك الإنطلاقة الرائدة والخطوة الأولى على طريق تحقيق الأهداف الإلهية فان الله بالغ أمره.
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني..
وهذا بالذات ما يفسر لنا أيضاً تختمه بخاتم منقوش عليه:
ظـني بالله حـسن وبـالنـبي الـمؤتمن (58).
وبالوصي ذي المنن وبالحسين، والحسن عليهم السلام
مع تضمن ذلك تحدياً سياسياً وعقائدياً خطيراً بالنص على أن الإمامة والوصاية لأمير المؤمنين عليه السلام الأمر الذي يعطي أن كل من عداه ممن تصدى ويتصدى لقيادة الأمة، فإنما هو متعد وغاصب، لا مبرر لتصديه لما يتصدى له على الإطلاق هذا كله.. عدا عن انه كان يتختم بخاتم الإمام الحسين عليه السلام الذي نقشه: " لا اله إلا الله عدة للقاء الله " (59). وهو خاتم سائر الأئمة عليهم السلام قبله..
وبعد ذلك، فان الإمام الباقر عليه السلام يعاصر جبابرة الأمويين الذين يفتحون البلاد، ويذلون العباد، ويرون أن أهل البيت عليهم السلام قد انتهى أمرهم، وخضدت شوكتهم بزعمهم، ويرون أنفسهم قد وصلوا إلى منتهى درجات المجد والعظمة، ونالوا بزعمهم كل ما يمكن أن ينال من مظاهر العزة والشوكة والقوة.
فمن الطبيعي أن يسجل في مقابل ذلك، ذلك الشعار الذي يدين ذلك الفكر المنحرف، ويزلزل كل تلك المفاهيم ويهزها من الأعماق.
فنجد نقش خاتمه ع تارةً هو نقش خاتم الإمام الحسن عليه السلام من ذي قبل وهو: " العزة لله " (60). وأخرى نجده يضيف إليه ولعله خاتم آخر له ـ كلمة لها دلالتها الهامة في مقابل جباري الأمويين، فصار نقش الخاتم: " العزة لله جميعاً " (61) فليتأمل في كلمة " جميعاً " في ظروف وأجواء كهذه. وثالثة يكون نقش خاتمه عليه السلام: " القوة لله جميعاً " (62). وإذا كان لا بد من مواصلة المسيرة بمزيد من الإصرار، وبمزيد من الثقة بنصر الله سبحانه، مهما كانت الظروف ومهما عظمت التحديات وإذا كان لا بد له من معين ونصير على ذلك. فإننا نجده عليه السلام يتختم بخاتم آخر يكون نقشه: " رب لا تذرني فرداً " (63).
لقد عاش الإمام الصادق عليه السلام في عهد ضعف الأمويين نسبياً، وانشغالهم بحروب الخوارج وغيرهم: تلك الحروب هدتهم، وزعزعت الثابت من أركان حكمهم. وعايش أيضاً انطلاقة الدعوة العباسية التي استطاعت شل العرش الأموي، وتحطيمه نهائياً، حيث تربع العباسيون على سدة الحكم والسلطان، وأخذوا في تثبيت قواعد حكمهم وتدعيمها بكل ما يقدرون عليه. ثم لما اشتد ساعدهم، وقويت شوكتهم عدوا على أبناء عمهم أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً وتشريداً، لأنهم رأوا فيهم خطراً يتهدد وجودهم في الحكم، وفعالية هذا الوجود فيه. وبعد هذا. فإن توضيح نقوش الخواتم المختلفة التي كان يتختم بها الإمام الصادق عليه السلام في الأحوال المختلفة، يمكن أن يكون على النحو التالي:
ألف ـ إنه إذا كان الإمام الصادق عليه السلام قد عاصر فترة ضعف الأمويين، وأفول نجمهم، وفترة نشوء الدولة العباسية، التي كانت لا تزال في بداياتها تعاني من الضعف والإهتزاز أيضاً. فأولئك كانوا قد ضعفوا، وهؤلاء لم يقووا بعد ـ إذا كان كذلك فإننا نلاحظ: أنه عليه السلام لا يتختم بعد بذلك الخاتم الذي نقشه " العزة لله " أو " العزة لله جميعاً " . وإنما نجده يهتم في الإستمرار بالتذكير بجريمة الأمويين النكراء، بحق خامس أصحاب الكساء؛ لإعطاء المثل الحي للأمة، كل الأمة. وبأنه إذا كان الحاكم لا يرجع إلى دين، ولا ينتهي إلى وجدان، فانه يكون أشرس المخلوقات وأخزاها ويكون على استعداد للإقدام على كل جريمة، وارتكاب كل عظيمة في سبيل أغراضه الشخصية، ومآربه وغاياته اللاإنسانية.. وإن الأمة، كل الأمة لتتحمل وزر السماح لأمثال هؤلاء بالتحكم بمقدراتها، والتسلط على الأمور فيها. نعم ولعل ذلك هو بعض ما يرمي إليه عليه السلام من تختمه بخاتم جده الإمام الحسين عليه السلام المنقوش عليه: " لا إله إلا الله عدة للقاء الله " (64) وأما لماذا لم يتختم بخاتمه الآخر، المنقوش عليه: " إن الله بالغ أمره "؛ فلعله من أجل الأوضاع السياسية المتقلبة التي تعاني منها الأمة تحتاج للمزيد من الربط بالله، والتأكد على وحدانيته سبحانه. من أجل أن يفهم الناس أن هذا التوحيد الخالص هو الذي من شأنه أن يهب الموقف الصحيح والسليم، الذي من شأنه أن يهب الحياة الحقيقية للناس كل الناس. وما داموا مبتعدين عن هذا المعنى، فإن عليهم أن يتحملوا مرارة الإنحراف الذي يساهمون هم أنفسهم، إن لم يكن في إيجاده، ففي قوته واستمراره على الأقل. وبعد كل ذلك. فإن تحولات الأمور بالنسبة للحكم الأموي في حروبه مع الخوارج وغيرهم.. ثم رفع العباسيين شعارات الأخذ بثارات العلويين، والدعوة للرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله، ودراسة الأمور دراسة موضوعية ليعطي: أن الأمور تتجه، إلى تغيرات عميقة، وتحولات هامة، على الصعيد السياسي، والفكري والإجتماعي، وغير ذلك. ولكنها على أي حال لم تكن لصالح أهل البيت الذين يمثلون القيادة الإلهية الحقيقية والواعية للأمة. وإن توهم الكثيرون ذلك. وإن هذا الإتجاه الظاهري من قبل الناس نحو أهل البيت عليهم السلام لا يمكن أن يمثل قوة يصح الإعتماد عليها للقيام بحركة تستهدف تصحيح الأوضاع جذرياً، لصالح الدين والأمة، لأنها لم تكن ناشئة عن وعي عقائدي مركز، وإنما كانت عواطف صادقة أحياناً وغير صادقة أحياناً أخرى؛ لاستنادها إلى خلفيات ذات طابع شخصي أو قبلي، أو غير ذلك، فهي إذن لا تقوى على مواجهة التحدي المبدئي والعقيدي، إن لم نقل: أنها سوف ترتد لمواجهة التحدي بمثله، ولتجهض من ثم كل الجهود، ويذوي الأمل، وتجف المنى. وإذن: فإن هذه القوة الظاهرية ليست هي القوة التي يمكنهم الإعتماد عليها، والإستناد إليها. لأنها ليست مستندة إلى الله سبحانه، ومن الواضح انه: " لا قوة إلا بالله " . وإذا كانت ظروف كهذه زاخرة بالمغريات، غنية بما يذكي الطموح للدخول في حمأة السياسة، ولا سيما مع وجود كثير من العروض السياسية ـ من قبل دعاة العباسيين، وإغراءاتهم التي لم تكن إلا لأسباب قاهرة فرضت نفسها عليهم، كما أوضحنا في كتابنا: " الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام " إذا كان كذلك، فإن من الطبيعي أن يكبح الإنسان جماح طموحاته هذه التي سوف لن تنتهي إلى ما ينفع الإسلام والإنسان، يكبحها بطلب المغفرة من الله، ومن الله وحده سبحانه..
وبعد ذلك كله، فإننا ندرك بعمق مغزى كون نقش خاتمه عليه الصلاة والسلام العبارات الثلاث التالية: " ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أستغفر الله " (65) وكذا نقش الخاتم الآخر على الظاهر: " الله خالق كل شيء " (66).
وبعد ذلك.. فإنه إذا كان الإمام الصادق لابد له من مواصلة المسيرة، وتحمل أعباء نشر الإسلام، وتعليم الناس الأحكام، والآن وقد سنحت له الفرصة ـ أكثر من غيره من الأئمة، وذلك بسبب ضعف الدولتين اللتين عاصرهما لسنوات عديدة وهي فترة الأفول والنشوء، فإنه يدعو الله سبحانه، الذي هو ثقته وملجؤه في المهمات: أن يسهل له هذه المهمة، وأن يقيه شر الأعداء، فيكون نقش خاتمه: " رب يسر لي، أنت ثقتي، فقني شر خلقك " (67). وإذا كان لابد من رفض ولاية الطاغوت، والإلتزام فقط بولاية الله سبحانه وتعالى، وإذا كان العباسيون بعد أن وصلوا إلى الحكم، وقضوا على الأمويين، وأحكموا أمورهم، وثبتوا قواعد ملكهم قد تفرغوا لأبناء عمهم آل علي ولشيعتهم، ويتعرض حتى الإمام الصادق عليه السلام، لكثير من المضايقات والتهديدات، والمحاولات الجادة من قبل المنصور العباسي لتصفيته حتى جسدياً ـ وهو ما نجح به أخيراً ـ فإننا نجد نقش خاتمه عليه السلام منسجماً مع ذلك كله. فيكون: " الله وليي، وهو عصمتي من خلقه " (68). وفي بعض النصوص: " اللهم أنت ثقتي، فقني شر خلقك " أو ما بمعناه (69).
ألف ـ ولقد عاش الإمام الكاظم عليه السلام في فترة شعور العباسيين باستقرار ملكهم وثبات سلطانهم، هذا الشعور الذي بدأ بالتبلور في النصف الثاني من خلافة المنصور، أي بعد قضائه على حركة بني الحسن، ونقله عاصمة الخلافة إلى مدينة بغداد، وغير ذلك من إجراءات، جعلته يطمئن نسبياً إلى مستقبل العباسيين في الحكم ثم أكمل ولده المهدي المهمة التي كان بدأها أبوه وهي القضاء على خصوم الحكم تحت شعار الإتهام بالزندقة، وغير ذلك من شعارات. ويتمكن الهادي أيضاً من إخماد ثورة الحسين بن علي صاحب فخ رضوان الله تعالى عليه. إلى غير ذلك من أمور لا مجال لتتبعها الآن. فما أشبه الحالة والظرف الآن بتلك الحالة والظرف الذي مر به أمير المؤمنين عليه السلام في فترة عاشها مع الحكم الجديد، بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، حيث اتخذ ذلك الحكم الناشئ من الإجراءات ما جعله يطمئن إلى ثباته واستقراره، ولعل الظروف التي مر بها أمير المؤمنين عليه السلام إبان نشوء حكم الأمويين وتمكنهم نسبياً من الأمر. لا تختلف عن ذلك كثيراً أيضاً. ولعل ذلك كله يفسر لنا سر تختم الإمام الكاظم عليه الصلاة والسلام بخاتم جده أمير المؤمنين عليه السلام المنقوش عليه عبارة: " الملك لله " أو " الله الملك " (70).
ب ـ ثم تأتي خلافة الرشيد العباسي، الذي كان يستلقي على قفاه، وينظر إلى السحابة الحاملة للمطر، ويقول: " إذهبي إلى حيث شئت يأتيني خراجك " (71).
وهي كلمة تعبر عن مزيد من الإعتزاز بسعة الملك والسلطان. ومعه المزيد من مظاهر الترف والبذخ، وحياة النعيم والراحة.. والإطمئنان إلى المستقبل، ولا شك في أن هذا الشعور كان قد بلغ أوجه، حينما استطاع الحكم أن يحد من فاعلية ونشاط أهل البيت عليهم السلام، بما اتخذه من إجراءات قمعية ضدهم وضد سيدهم وعظيمهم الإمام الكاظم عليه السلام.
فنجد الإمام الكاظم عليه السلام في مجال مواجهة ذلك الشعور، ومقاومته وترسيم الخط الصحيح والسليم للأمة لا يألو جهداً ولا يدخر وسعا، ونراه يعبر عن رأيه وعن موقفه، بإطلاق الشعار الواقعي والصحيح في كل فرصة، وكل مناسبة. ثم يكون نقش خاتمه عليه السلام هو نفس النقش السابق بزيادة كلمة واحدة، ليصير: " الملك لله وحده " (72).
ج ـ ويواجه عليه السلام هو وشيعته طغيان العباسيين وبغيهم، ويقضي السنوات الطوال في غياهب السجون ويتحمل المزيد من المصائب والآلام منهم حتى ينتهي الأمر باستشهاده عليه السلام، بتصميم وبأمر منهم على أيدي جلاديهم الأشرار. كما إنه عليه السلام يجد الناس إما منصرفين عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، أو أن موقفهم يتسم بالضعف واللامبالاة وبالخنوع والخضوع لحكام الجور، والإطمئنان للحياة الدنيا، ويروقهم زخرفها وزبرجها، ولا يعيشون القضايا المصيرية الحساسة، التي هي قضاياهم الحقيقية، وقضايا الدين والأمة، فإننا نجد خاتمه عليه السلام هو: " حسبي الله " وفيه وردة وهلال في أعلاه (73). ولعل الوردة تشير إلى التفتح الثقافي، الذي بدأ يظهر في قطاعات واسعة من الأمة، ويحمل النشر الطيب للمعاني الإسلامية السامية. أما الهلال، فلعله يشير إلى الأمل بولادة النور من جديد، وانبثاق تياره العارم على شكل دائري مستوعب في مسيرته التكاملية إلى أن يصير بدراً، حيث يبلغ الأربعة عشر، على عدد المعصومين الأربعة عشر، الذين آخرهم المهدي الموعود، " الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت ظلماً وجوراً " ويلاحظ هنا: أن أول من اتخذ الهلال شعاراً هو النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، فقد روى العسقلاني، في ترجمة سعد بن مالك بن الأزدي، قال: " قال ابن يونس: وفد على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، وعقد له راية على قومه سوداء، فيها هلال أبيض، وشهد فتح مصر الخ. (74) " فدعوى البعض: أن العثمانيين قد أخذوا رسم صورة الهلال علامة رسمية من القياصرة. وأصله من فيلبش والد الإسكندر المقدوني الأكبر، (75) دعوى غير صحيحة، ولا مقبولة.
ألف ـ ولقد عاش الإمام الرضا عليه السلام منذ وفاة أبيه عليه السلام في ظروف مأساوية، لا تختلف كثيراً عن ظروف أبيه الإمام الكاظم عليه الصلاة والسلام. فهو قد عايش آلام أبيه، وتفاعل معها، وناله قسط كبير منها. واختص هو عليه السلام بالآم ومتاعب جمة، لم تكن في مرارتها بأقل أثراً مما سبقها، ولأجل ذلك نجده عليه السلام يتختم بخاتم أبيه، الذي يشير إلى هذه الآلام، وتلك المتاعب وهو نفسه عليه السلام يعلن ذلك، ويلفت إليه فيقول: " كان نقش خاتم أبي: " حسبي الله وهو الذي كنت أتختم به " (76).
ب ـ وقد بلغت هذه الآلام ذروتها في عهد المأمون العباسي، حتى لنجد الإمام الرضا عليه السلام، كان إذا رجع من الجمعة يدعو على نفسه بالموت، ليتخلص مما هو فيه (77). الأمر الذي يعطي: أن حياة الإمام عليه السلام مع المأمون إنما كانت حياة غربة، وألم ومرارة، يجد الموت أهون عليه من تحملها. وإن كانت الأحوال في ظواهرها الساذجة تشير إلى عكس ذلك للبسطاء والسذج من الناس. ونستطيع أن نشبه هذه الفترة من الزمن، من حيث وضعها وظواهرها السياسية بالفترة التي عاشها الإمام الصادق عليه السلام، وهو يعايش التحولات الخطيرة التي تتعرض لها الأمة، وسيكون لها تأثير هام وحاسم على مستقبلها بصورة عامة. وذلك لأن المأمون العباسي ـ حسبما أوضحناه في مجال آخر ـ (78) قد كان يعاني من ظروف شبيهة بظروف الأمويين في أواخر أيامهم. حتى ليجد نفسه مضطراً للإستعانة بغير العرب لمواجهة أخيه الأمين بالحرب الضروس، التي انتهت بقتله أخاه. الأمر الذي نشأ عنه أضعاف مركزه عموماً ـ ثم وضع كثير من علامات الإستفهام على حقيقة نواياه وأهدافه. كما إنه من جهة أخرى يجد: أن التعاطف مع آل علي عليه السلام يزداد قوةً واتساعاً يوماً بعد يوم. إلى غير ذلك من عوامل ومعطيات جعلته بحاجة ماسة إلى البحث عن غطاء معنوي، يدعم به مركزه، ويحفظ بواسطته وجوده واستمراره في الحكم. ومن جهة أخرى فانه إذا كانت الأجواء هي هذه.. وإذا كان التعاطف مع العلويين قد أصبح يبدو وكأنه يشكل تياراً عارماً يمكن أن يزعزع الكثير من الثوابت، بحسب الظاهر. ويستطيع أن يحرك الساحة باتجاه آخر أكثر انسجاماً مع الرغبات والميول، وإذا كانت المغريات تزداد كثرةً وجذابيةً يوماً عن يوم، حتى ليخيل للإنسان: أن الفرصة مواتية لتحرك من نوع ماـ لوجود القوة الكافية والصالحة للإعتماد عليها في انطلاقة الحركة نحو التغيير الشامل، وفي استمراريتها. وإذا كانت الإغراءات والعروض، وحتى الضغوط المأمونية والإصرار عليه بالقبول بالخلافة تارة، وبولاية العهد أخرى قد بدأت تلوح في الأفق القريب. وإذا كان الإمام يعلم حقيقة الأمر، ويدرك أن كل ذلك غير قابل للإعتماد عليه، وليس في المستوى الذي يؤهله لتحريك الساحة، وحماية استمرارية هذه الحركة، وأن عروض المأمون تلك، والتي بلغت درجة الإصرار فيها حد التهديد بالقتل والتصفية الجسدية، الأمر الذي يحمل معه مؤشرات واضحة على أن ذلك لم يكن إلا مؤامرة خطيرة تستهدف تكريس الأمور في غير نصابها، وبالذات على حساب أهل البيت، وعلى حساب قضيتهم التي هي قضية الإسلام الكبرى. وإذا أردنا أن نكون أكثر تحديداً في عرضنا لحقيقة الظروف التي كانت تفرض نفسها آنئذٍ، فإننا نقول:
إنه وإن كانت قد سنحت الفرصة للإمام الباقر والصادق عليهما السلام، ليقوما بدورهما الطليعي في تربية الطليعة المثقفة والواعية، حتى ليمكن القول: أن هذه الطليعة هي التي كانت تمثل التيار العام الذي يهيمن على مختلف القطاعات تقريباً. والذي استمر كذلك حتى عهد الإمام الرضا عليه السلام. وهذا الأمر، وان كان ينعكس على كافة القطاعات في الساحة الإسلامية، وكان له أثر لا ينكر في التكوين الفكري والعاطفي في الناس عموماً. ولكن هذا الأثر لم يتعد بُعده العاطفي، والفكري الجاف، ولم يصل إلى درجة التكون العقيدي الراسخ، الذي من شأنه أن يجعل الفكر الحي يتفاعل مع العاطفة الصادقة في داخل الإنسان، ليكون وجداناً حياً من شأنه أن يتحول إلى موقف رسالي على صعيد الحركة والعمل. وعلى هذا. فلم يكن يمكن الإعتماد على هذا الوعي، ولا على تلك العاطفة في القيام بحركةٍ تغييريةٍ جذريةٍ وحاسمةً، ولا سيما بملاحظة ما كان يهيمن على الناس عموماً من ميل قوي للراحة وللحياة المادية، ومن استسلام لحياة الترف واللذة، والتي تستتبع الضعف و الركود والخوف من الإقدام على أية حركة تغييرية تستهدف ما ألفوه واعتادوا عليه. ولو فرض انهم في غمرة هيجانهم العاطفي نجحوا في حسم الموقف لصالح الإتجاه الآخر؛ فإن رصيداً كهذا ـ فكرياً عاطفياً وحسب، أي من دون بعد عقيدي، وفناء وجداني ـ لن يكون قادراً على حماية استمرارية الحركة بسلامة وصفاء ولا على تحمل مسوؤلياتها التغييرية التي سوف تستهدف جزءاً كبيراً من واقعهم وأنفسهم. بل سوف ترتد هذه الحركة على نفسها لتأكل أبناءها، وتنقض مبادئها، وتستأصل نبضات الحياة فيها. وذلك لأن العاطفة سيخبو وهجها. ما دام لم يعد ثمة ما يثيرها و يؤججها. وسيصبح الفكر ركاماً جافاً وخامداً، حينما تهب عليه ريح المصالح والأهواء والشهوات؛ لتجعل منه هشيما تذروه الرياح إن لم يمكن استخدامه وقوداً لها يعمل على استصلاحها، وتوجيهها، ويهيء الفرصة للاستفادة منها على النحو الأكمل و الأمثل.. هذا كله. لو أمكن أن تصل الحركة إلى درجة الحسم لصالح الإتجاه الآخر. ولكنه فرض بعيد، وبعيد جداً، كما أثبتته التجارب المتكررة في أكثر من قرن من الزمن. حيث رأينا بوضوح: كيف فشلت الحركات الزيدية الكثيرة جداً، وكيف سهل القضاء عليها، حتى أصبحت في خبر كان، حتى وكأن شيئاً لم يحدث رغم سعة نفوذ الزيدية على مختلف الأصعدة، وفي مختلف المجالات، ورغم سيطرتهم التامة على الأمور، سياسياً، وإعلامياً، وثقافياً، وعاطفياً وغير ذلك.. كما أوضحناه في كتابنا الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام. وما ذلك. إلا لأن الحركات الزيدية ـ وهي حركات سياسية بالدرجة الأولى، ولم يكن لها أصالة فكرية وعقائدية راسخة، تنطلق من الروح، وتنبع من الوجدان ـ هذه الحركات إنما كانت تعتمد على ذلك المد العاطفي الهائل، وعلى ذلك الوعي الثقافي الجاف. الذي لم يصل إلى حد مزج العاطفة بالفكر، والفكر بالوجدان لينتج موقفاً رسالياً تخاض من أجله اللجج، وتبذل دونه المهج. بل كان يجد من العراقيل والمعوقات النابعة من داخل أنفسهم ما يجعل الإعتماد عليه اعتماداً على سراب، وذلك هو ما يفسر لنا كيف أنه حينما كان الناس يواجهون الأمور بجدية ـ ويبلغ الحزام الطبيين، يعودون إلى دنياهم، ويركنون إلى حياة السلامة والدعة، حسب تصورهم، وما ينسجم مع هوى نفوسهم. ولا يهمهم ما يحصل بعد ذلك، ولا ماذا تكون النتائج. وإذن.. فلم يكن للأئمة والحالة هذه: أن يقدموا على المجازفة في ظروف كهذه لأن معنى ذلك: هو أن ينتهي أمرهم، وبسهولة ويسر تماماً، كما كان الحال بالنسبة للزيدية وأضرابهم. وبعد ذلك كله. فانه إذا كان الإمام عليه السلام يدرك ذلك كله بوعي وعمق.. وإذا كان يتعامل مع ذلك الواقع بثقة وبمسؤولية، وبرسالية القائد الفذ، والإمام الشاهد.
فإنه يسجل ذلك كله، ويلمح إلى نتائج ومعطيات واقع كهذا بكلمتين، وبكلمتين فقط، فيكون نقش خاتمه عليه السلام: " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " (79). كما كان مكتوباً على خاتم الإمام الصادق تقريباً. نعم.. وإن هاتين الكلمتين لتنسجمان كل الإنسجام مع واقع المأمون وطموحاته، وكذلك مع الواقع الذي يعيشه الإمام ومسؤولياته، ثم.. وأخيراً.. مع ظروف الأمة ومقدراتها على جميع الأصعدة، وفي مختلف المجالات. ويلاحظ: أن هذه الفترة تبدو وكأنها فترة انفراج بالنسبة لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، حيث لا يتعرض الحكم فيها للإساءة لأهل البيت بشكل علني وسافر، وإنما هو يتظاهر بالمحبة والولاء لهم، وبمزيد من مظاهر التقدير والإكرام والحفاوة بهم، وإن كان يبغي لهم الغوائل في الباطن، ويعمل بشتى الطرق ومختلف الأساليب لاستئصال شأفتهم، واقتلاع كل جذورهم، ولأجل ذلك. فإننا لانجد في هذه الفترة من حياة الإمام الرضا عليه السلام، وكذلك في فترة حياة الإمام الجواد عليه السلام ما يشير إلى التذكير بما يتعرض له الأئمة وشيعتهم من الالآم. لأن رفع شعار كهذا لن يكون مفهوماً للناس وحتى لن يكون مقبولاً أيضاً.. ولكننا نجدهم عليهم السلام يرفعون الشعار الآخر: المتقدم آنفاً، للإشارة إلى أن المشيئة لله سبحانه، وبه وله القوة والقدرة، فلا يجب أن يغتر أحد بما يراه من مظاهر خادعة، بل عليه أن يتعامل مع الأمور بوعي وبعمق، وبعد نظر وبمسؤولية حسبما تقدمت الإشارة إليه.
وبعد تمكن المأمون من تغيير مجريات الأمور لصالحه، ولصالح تثبيت دعائم الحكم العباسي، عن طريق إجبار الإمام الرضا عليه السلام بقبول ولاية العهد، وبيعة الناس له عليه السلام بها. ثم تمكنه من تصفية الإمام عليه السلام جسدياً بدس السم إليه. وبعد أن أخمدت الثورات، وخنقت جميع الأصوات، وعادت المياه إلى مجاريها بين المأمون وبين بني أبيه العباسيين فإن من الطبيعي: أن يشعروا المأمون والعباسيون وأعوانهم: أنهم قد حققوا غاية آمالهم، وحصلوا على أعز وأغلى أمنياتهم، ألا وهي تثبيت دعائم ملكهم، وترسيخ أركان سلطانهم، وإنه لم يعد ثمة أية قوة تستطيع أن تقف في وجه جبروتهم، ومقابل فاحش طغيانهم. بعد كل ذلك. فإننا نلاحظ: أن نقش خاتم الإمام الجواد عليه السلام يتحدى كل تصوراتهم تلك، ويدين جميع مظاهر بغيهم وظلمهم؛ فيكون هو " نعم القادر الله " (80). وهو نفس نقش أحد الخواتم التي كانت لأمير المؤمنين عليه السلام من قبل..
ألف ـ وأما الإمام الهادي عليه السلام، فقد كان يعيش في زمن ارتدت فيه عادية العباسيين على أهل البيت بشكل علني وسافر.. وذلك في زمن عادت فيه الشوكة لأهل الحديث المعروفين بنصبهم وعداوتهم لأمير المؤمنين عليه السلام، وأهل بيته الأطهار عليهم الصلاة والسلام. حيث ضعف أمر المعتزلة وتلاشت قوتهم. بظهور المتوكل العباسي، الذي كان من أشد الناس نصباً وعداءً لعلي وأهل بيته عليهم السلام. وكان المتوكل هذا هو الذي يتبنى تقوية أهل الحديث الذين كان يتزعمهم أحمد بن حنبل، وإعادة الشوكة والقوة لهم.. ويطمئن العباسيون من جديد إلى قوتهم وثبات أقدامهم بعد قضائهم على المعتزلة، ولكنهم يدركون أن الخطر الحقيقي إنما يتهددهم من قبل أهل البيت عليهم السلام، فيوجهون كل اهتماماتهم إلى مضايقة أهل البيت وشيعتهم، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. فكانت هذه الفترة شبيهة إلى حد ما في تقلباتها وتحولاتها من حيث انتقال القدرة من فريق إلى فريق، ثم اطمئنان هذا الفريق إلى مستقبله في الحكم، وتوجهه للأئمة عليهم السلام ليقضي على نبضات الحياة في حركاتهم وفي مواقفهم، لأنه يرى فيهم مصدر الخطر الحقيقي الذي يتهدد وجوده في الحكم، واستمراره فيه ـ لقد كانت هذه الفترة شبيهة إلى حد كبير ببعض مراحل حياة الإمام الصادق عليه السلام ـ وهي آخر مرحلة من حياته عليه السلام عاشها مع المنصور العباسي. فيتعرض الإمام الهادي عليه السلام للإقامة الجبرية، ولمختلف أنواع الكيد والمكر التي تستهدف حياته ووجوده، فقد كان المتوكل يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، على ما صرح به ابن الصباغ المالكي، وغيره. (81) وإذن.. فطبيعي: أن يكون نقش خاتمه عليه السلام في ظروف كهذه هو: " الله ربي وهو عصمتي من خلقه " (82). وهو نفس نقش خاتم الإمام الصادق عليه السلام، حسبما تقدم..
ب ـ ومن جهة أخرى. فقد بدأت مرحلة جديدة، لابد من التعامل معها برؤية جديدة، وهي التمهيد والإعداد النفسي للأمة لمواجهة حدث الغيبة للإمام الثاني عشر، الذي كانت المؤشرات كلها تجمع على أنه لن يتمكن من مواصلة المسيرة بشكل علني وسافر. هذه المرحلة. التي يمكن أن تعتبر إمامة الإمام الجواد عليه السلام، وهو صغير، واحدة من مقدماتها القريبة التي تساعد على فهم بعض جوانبها الهامة جداً..
وفي ظروف كهذه فانه يكون لابد من التذكير للأمة المؤمنة بأن عليها أن تحفظ الخط، وان تلتزم وتفي بما أخذته على نفسها من التسليم والتصديق ، والانقياد لأوامره سبحانه وتعالى، ولقضائه ومشيئته، فلا تأخذهم حيرة الضلالة، ولا يستسلموا لتهريشات الآخرين وتشنيعاتهم، التي لا تستند إلى ركن علمي أو عقلي وثيق..
وإن عليهم كذلك: أن لا يذوبوا في الجو العام، ولا يركنوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يستسلموا لأهوائهم ولمصالحهم الآنية على حساب مصلحة الإسلام العليا، وقضيته الكبرى.. بل، إن عليهم أن يحفظوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله في عترته، وفي دينه وقرآنه، كما أن عليهم أن يتخلقوا بأخلاق الله سبحانه، فإن: " حفظ العهود من أخلاق المعبود " كما جاء في نقش خاتم الإمام الهادي عليه الصلاة والسلام (83).
وقد كان لابد للإمام العسكري عليه السلام من أن يعلن لهم بشكل صريح وواضح: أن الإمام بعده لن يكون حاضراً بينهم، وأن عليهم أن يعدوا أنفسهم لمواجهة حالة كهذه، كما أن عليهم أن يجعلوا نصب أعينهم حقيقة: أن غيبته عليه السلام لا تعني أن كل شيء قد انتهى، وذلك لأن الله هو الرقيب وهو الشهيد عليهم، على حد قوله تعالى، حكاية عن عيسى عليه السلام. ". " .. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد " (84). والآيات التي تتضمن شهادة الله والأنبياء وغيرهم، على الناس كثيرة (85). لا مجال لذكرها..
نعم.. ويأتي نقش خاتم الإمام الحسن العسكري عليه السلام ليؤكد هذه الحقيقة، ويتعامل معها، فيكون: " أنا الله شهيد " (86). وفي نص آخر، منسجم أيضاً مع هذه الحقيقة تمام الانسجام: " سبحان من له مقاليد السماوات والأرض " (87).
وأخيراً.. وأما نقش خاتم الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وجعلنا من أنصاره وأعوانه، والمستشهدين بين يديه، فلم أظفر به في هذه العجالة، ولكنني مطمئن إلى أنه منسجم كل الإنسجام مع الظروف والحالات والأوضاع التي يواجهها صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطيبين الطاهرين..
كلمة ختامية:
وأخيراً.. فقد كانت تلك دراسة تكاد تكون موجزة فيما يتعلق بنقش خواتم النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام.. ولا أدعي أنني استطعت استيعاب كل ما يرتبط بهذا الموضوع، فان ذلك متعذر بل متعسر في عجالة كهذه. ولكن مما لا شك فيه هو: أن هذا البحث يعتبر بداية مشجعة ومرضية على طريق الكشف، الكامل والوافي عن الظروف والملابسات المحيطة بهذا الموضوع.. وفي الختام. فإنني أسأل الله تعالى. أن يوفقنا لمزيد من العمل الجاد والدائب في سبيل الكشف عن مختلف جوانب حياة الأئمة عليهم السلام، والاستفادة منها ما أمكن في حياتنا وفي مواقفنا.. إن شاء الله.. إنه خير مأمول، وأكرم مسؤول.. " والله هو الموفق والمسدد، وهو المعين والهادي ".
الهوامش:
1- راجع. مآثر الإنافة ج2 ص232 وفي هامشه عن صبح الأعشى ج3ص273.
2- سيأتي هذا الحديث مع مصادره عن قريب إن شاء الله تعالى.
3- سيأتي مصادر ذلك كله في مورده إن شاء الله تعالى.
4- أمالي الصدوق ص409و410 عيون أخبار الرضا ج2 ص55و56 وراجع. البحار ج11 ص62و63 ومسند الإمام الرضا عليه السلام ج2ص367و364و368و365 والوسائل ج3ص410و411و412 والكافي ج 6 ص474 ومكارم الأخلاق ص91و92 وراجع أيضاً: الخصال ج1 ص335 لكنه ذكر شطراً من الحديث, وهو نقش خاتم آدم ونوح وإبراهيم عليهم السلام وقد قطع صاحب البحار وغيره هذا الحديث، وذكروا نتفا منه في المناسبات المختلفة حسبما يقتضيه المقام.
5- الكافي ج6 ص 473 والوسائل ج3 ص 408.
6- راجع: الخصال ج1 ص61 والوسائل ج3 ص411 والبحار ج16 ص96 وسفينة البحار ج1 ص376 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج1 ص302.
7- طبقات ابن سعد ج1 قسم2 ص156 لكن في عيون الأخبار ج1 ص302 أن الخلفاء الحقوا ذلك.
8- الخصال ج1 ص61 والوسائل ج3 ص411 والبحار ج16 ص96 وسفينة البحار ج1 ص 376 وليراجع ص95 وج 11 ص 63 والتراتيب الإدارية ج1ص180 والحديث الجامع المتقدم عن الإمام الرضا عليه السلام.
9- راجع: الكافي ج6ص474,473 ودعائم الإسلام ج2ص165 وقرب الإسناد ص31 ومكارم الأخلاق ص85 و91,90,89 ومسند الإمام الرضا عليه السلام ج2ص366و368 وسنن البيهقي ج4ص142 وقال: إن البخاري ومسلما قد أخرجاه أيضا، والبحار ج16 ص95و122و124 والوسائل ج1ص233 وج3 ص409 والتراتيب الإدارية ج1 ص 177و178و179 عن البخاري ومسلم والترمذي، والسيوطي, وتاريخ ابن كثير، والطبقات ومختصر التاريخ لابن الكازروني ص59 وطبقات ابن سعد ج1 ص162و163و164و165 ومآثر الإنافة ج2 ص232 والبداية والنهاية ج6 ص2و3و4 عن أبي داود, والبخاري وعن مسلم, وأهل السنن الاربعة.
10- التراتيب الإدارية ج1 ص179و180 وطبقات ابن سعد ج1 ص164.
11- البحار ج16 ص92 وج40 ص 37و38 وسفينة البحار ج1 ص376.
12- البحار ج43 ص9 عن مصباح الكفعمي, وسفينة البحار ج1 ص376.
13- راجع ما قاله النبي صلى الله عليه وآله لبني عامر في كتابنا. الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله ج2 ص175و176.
14- راجع الحديثين الجامعين المتقدمين ومصادرهما بالاضافة الى: البحار ج42ص68و62و69و70 وج16 ص122و95و96 والوسائل ج1ص234 وج3 ص306و305و409و393و394و405 والمناقب لابن شهرآشوب ج3 ص302 ومكارم الأخلاق ص86و87و89و91 وقرب الإسناد ص31و72 والكافي ج6 ص473و472 وج2ص272 والتهذيب للشيخ الطوسي ج1 ص32 والاستبصار ج1 ص48 وثواب الاعمال ص209و210 والطبقات ج3 قسم1 ص20.
15- راجع: علل الشرايع ص157 والخصال ج1ص199 والبحار ج42ص68 والوسائل ج3 ص 305و408 وراجع عنوان المعارف ص15 ومختصر التاريخ لابن الكازروني ص78.
16- جواهر الأخبار والاثار المستخرجة من لجة البحر الزخار المطبوع بهامش البحر الزخارج5ص370.
17- راجع,علل الشرايع ص157 والخصال ج1 ص199 والبحار ج42 ص68 والوسائل ج3 ص305و408.
18- راجع: ج8 ص314 من وسائل الشيعة في الهامش عن الامان من أخطار الزمان لابن طاووس ص34 وراجع تاريخ الخميس ج2ص283 ومآثر الإنافة ج1 ص100.
19- راجع: وسائل الشيعة ج8 ص314 في الهامش عن الامان من أخطار الزمان ص34.
20- الطبقات الكبرى ج3 قسم1 ص19و20.
21- الطبقات الكبرى ج1 قسم2 ص165 ولعل اسقاط عثمان له في بئر آريس حسبما روي في كتب الآخرين قد افتعل من أجل أن لا يصل الخاتم إلى علي، ولا يكون له نصيب من التختم بخاتم رسول الله صلى الله عليه وآله.
22- نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.
23- نهج البلاغة بشرح عبده ج1 ص90 ط مطبعة الإستقامة بمصر.
24- دعائم الإسلام ج2 ص165.
25- مكارم الأخلاق ص91 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج1 ص302.
26- الفصول المهمة لابن الصباغ ص115.
27- المصدر السابق.
28- علل الشرايع ص157 والخصال ج1 ص199 والبحار ج42 ص68 والوسائل ج3ص305 عن الاولين.
29- مكارم الأخلاق ص91.
30- راجع كتابنا الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السلام القسم الاول, الفصل الثاني.
31- الكافي ج6 ص473 والوسائل ج3 ص408.
32- راجع كتابنا الحياة السياسية للإمام الحسن.
33- مختصر التاريخ لابن الكازروني ص80 ومآثر الإنافة ج1 ص106.
34- لا بأس بمراجعة المصدر السابق في هذا المجال أيضاً.
35- راجع مصادر الحديث المتقدم الجامع عن الرضا عليه السلام والبحار ج 43ص 242و258 والكافي ج6 ص472.
36- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 137.
37- عنوان المعارف ص15 ومختصر التاريخ لابن الكازروني ص80 وفيه " استعنت " بدل أستعين.
38- البحار ج 43 ص258 عن الكافي.
39- المصدر السابق.
40- سنن البيهقي ج4 ص143 وتاريخ جرجان ص 418.
41- راجع مصادر الحديث الجامع الأول المتقدم عن الرضا عليه السلام والبحار ج46 ص6و7 وج43 ص242 و 247 و258 وسفينة البحار ج1 ص377 وأمالي الصدوق 128.
42- البحار ج43 ص247 و248 وأمالي الصدوق 116 وراجع 128 وسفينة البحار ج1 ص377.
43- المصدر السابق.
44- سورة الإنشقاق.
45- نور الأبصار ص126 والفصول المهمة لابن الصباغ ص157.
46- راجع مصادر الحديث الجامع عن الرضا عليه السلام.
47- أمالي الصدوق126 والبحار ج43 ص247 و 248 وسفينة البحار ج1 ص377.
48- الكافي ج6 ص473 وعيون أخبار الرضا ج2 ص56 وأمالي الصدوق ص116 والوسائل ج3 ص410 والبحار ج3 ص247 وج46 ص5 ومسند الإمام الرضا ج2 ص 365.
49- قرب الإسناد ص31 والبحار ج46 ص7 و ج42 ص68.
50- راجع كتابنا دراسات وبحوث في التاريخ و الإسلام ج1.
51- راجع الكشي ص 115 و ص123 وغيره..
52- نور الأبصار ص139 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 187.
53- الكافي ج6 ص 473 والبحار ج46 ص5.
54- كشف القناع عن حجية الإجماع ص67.
55- عيون الأخبار لابن قتيبةج1 ص 302.
56- كشف القناع عن حجية الإجماع ص66.
57- راجع مصادر الحديث الجامع المتقدم عن الإمام الرضا عليه السلام بالإضافة إلى:البحار ج46 ص 221 وحياة الإمام الباقر للقرشي ج1 ص28, وعن أعيان الشيعة ج1 ص169 وعن الكافي وغيره.
58- راجع كشف الغمة ج2 ص322 ونور الأبصار ص143 كلاهما عن تفسير الثعلبي, والبحار ج46 ص221 وعن عيون أخبار الرضا ج2 ص27 ومكارم الأخلاق ص92 ومسند الإمام الرضا ج2 ص364 و368 والوسائل ج3 ص411 وعن مطالب السؤول ص80
59- أمالي الصدوق ص128 والبحار ج43 ص247و248 وسفينة البحار ج1 ص377
60- الكافي ج6 ص473 والبحار ج46 ص222و223 والوسائل ج3 ص408و409 ومكارم الأخلاق ص89
61- التهذيب للشيخ الطوسي ج1 ص32 والاستبصار ج1 ص48 وقرب الإسناد ص72 والبحار ج46 ص223 والوسائل ج1 ص234 وسنن البيهقي ج4 ص 143.
62- حلية الأولياء ج3 ص186 وتاريخ جرجان ص419 وهامش البحار ج46 ص423 ويحتمل أن تكون كلمة " القوة " تصحيف كلمة: " العزة " لتقاربها في الرسم، فلا يبقى فرق بينه وبين سابقه.
63- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص197 ونور الأبصار ص 143.
64- أمالي الصدوق ص116 وراجع ص128 والبحار ج43 ص247و248 وسفينة البحار ج1 ص 377.
65- الفصول المهمة لابن الصباغ ص209 وكشف الغمة للأربلي ج2 ص370 ونور الأبصار ص145 والبحار ج47 ص10.
66- الكافي ج6 ص473 والوسائل ج3 ص408 والبحار ج47 ص10 عن مصباح الكفعمي ص522.
67- دعائم الإسلام ج2 ص 165.
68- راجع مصادر الحديث الجامع المتقدم عن الإمام الرضا عليه السلام في أوائل هذا البحث, بالإضافة إلى البحار ج47 ص8.
69- البحار ج 47 ص10و11 عن العدد وغيره ومكارم الأخلاق ص89و91 والكافي ج6 ص473 والوسائل ج3 ص410 ومسند الإمام الرضا ج2 ص363 وتاريخ جرجان ص418و419.
70- راجع: البحار ج62 ص69و70 وج 16 ص122 وثواب الاعمال ص209و210 والكافي ج6 ص472 ومكارم الأخلاق ص89 والوسائل ج3 ص405.
71- مآثر الإنافة ج1 ص194.
72- راجع: البحار ج48 ص11 والفصول المهمة لابن الصباغ ص218 ونور الأبصار ص148 وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ج1 ص48 عن أخبار الدول ص 112.
73- راجع الكافي ج6 ص473 ومكارم الأخلاق ص90و92 والبحار ج48 ص10 والوسائل ج3 ص410 ومسند الإمام الرضا عليه السلام ج2 ص363.
74- الإصابة ج2 ص32 والتراتيب الإدارية ج1 ص320.
75- راجع: التراتيب الإدارية ج1 ص320 عن وفيات الأسلاف ص380.
76- راجع: مصادر الحديث الجامع المتقدم في أوائل هذا البحث عن الإمام الرضا عليه السلام بالاضافة الى: الكافي ج6 ص473 والبحار ج 48 ص11 وج49 ص9 والوسائل ج3 ص410 ومسند الإمام الرضا ج2 ص363 ونور الأبصار ص152 والفصول المهمة لابن الصباغ ص430.
77- عيون أخبار الرضا ج 2 ص15 والبحار ج49 ص140 وراجع الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام ص325و346.
78- راجع كتابنا الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام.
79- الكافي ج6 ص473و474 والوسائل ج3 ص410 والبحار ج49 ص2 ومسند الإمام الرضاع ج2 ص363.
80- الفصول المهمة لابن الصباغ ص252 والبحار ج50 ص15.
81- الفصول المهمة لابن الصباغ ص226 والإرشاد للمفيد ص314 والبحار ج50 ص263.
82- الفصول المهمة ص263 والبحار ج50 ص116و117.
83- البحار ج50 ص117 عن مصباح الكفعمي.
84- المائدة و118.
85- راجع " المعجم المفهرس " مادة شهد.
86- البحار ج50 ص238 عن مصباح الكفعمي.
87- الفصول المهمة ص270 والبحار ج50 ص 238.