مقدمة السيد الشريف الرضي
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد محمّد بن الحسين المشهور بالشريف الرضي
أمّا بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمناً لنعمائه ، ومَعاذاً (1) من بلائه ، ووسيلاً (2) إلى جِنانه ، وسبباً لزيادة إحسانه .
والصلاة على رسوله نبيّ الرحمة ، وإمام الأئمّة ، وسراج الأمّة ، المنتخب من طينة الكرم ، وسلالة المجد (3) الأقدم ، ومَغرِس الفخار المُعْرِق (4) ، وفرع العَلاء المثمر المورق .
وعلى أهل بيته مصابيح الظُّلم ، وعِصَم (5) الأمم ، ومنار (6) الدين الواضحة ، ومثاقيل (7) الفضل الراجحة صلّى الله عليهم أجمعين ، صلاة تكون إزاءً لفضلهم (8) ، ومكافأة لعملهم ، وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم ، ما أنار فجر ساطع ، وخوى نجم (9) طالع .
فإنّي كنتُ في عنفوان شبابي (10) ، وغضاضة الغصن (11) ، ابتدأتُ بتأليف كتاب في خصائص الأئمّة ( عليهم السلام ) : يشتمل على محاسن أخبارهم ، وجواهر كلامهم ، حداني عليه (12) غرض ذكرته في صدر الكتاب ، وجعلته أمام الكلام .
وفرغت من الخصائص التي تخصّ أمير المؤمنين علياً ( عليه السلام ) ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام ، ومماطلات الزمان (13) .
وكنتُ قد بوّبتُ ما خرج من ذلك أبواباً ، وفصّلته فصولاً ، فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نقل عنه ( عليه السلام ) من الكلام القصير في المواعظ والحِكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة ، والكتب المبسوطة .
فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره ، معجَبين ببدائعه ، ومتعجّبين من نواصعه (14) .
وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في جميع فنونه ، ومتشعّبات غصونه : من خطب ، وكتب ، ومواعظ وأدب .
علماً أنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب (15) الكلم الدينية والدنياوية ، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ، ولا مجموعَ الأطراف في كتاب ; إذ كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مشرَعَ (16) الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه ( عليه السلام ) ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينُها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل (17) خطيب ، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ .
ومع ذلك فقد سبق وقصروا ، وتقدّم وتأخّروا ، لأنّ كلامه ( عليه السلام ) الكلامُ الذي عليه مَسْحة (18) من العلم الإلهي ، وفيه عَبْقَة (19) من الكلام النبوي .
فأجبتهم إلى الابتداء بذلك ، عالماً بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الأجر .
واعتمدتُ (20) به أن أبيّن عن عظيم قدر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدثِرَة (21) ، والفضائل الجمّة .
وأنّه ( عليه السلام ) انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنّما يؤثر (22) عنهم منها القليل النادر ، والشاذّ الشارد (23) .
فأمّا كلامه ( عليه السلام ) فهو البحر الذي لا يُساجَل (24) ، والجمّ الذي لا يحافَل (25) .
وأردتُ أن يسوغ لي التمثّل في الافتخار به ( عليه السلام ) بقول الفرزدق :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا جمعَتْنا يا جرير المجامعُ
ورأيتُ كلامه ( عليه السلام ) يدور على أقطاب (26) ثلاثة :
أوّلها : الخطب والأوامر .
وثانيها : الكتب والرسائل .
وثالثها: الحكم والمواعظ .
فأجمعتُ (27) بتوفيق الله جلّ جلاله على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، ثمّ محاسن الكتب ، ثمّ محاسن الحِكَم والأدب ، مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً ، ومفضلاً فيه أوراقاً ، لتكون مقدّمة لاستدراك ما عساه يشذّ عنّي عاجلاً ، ويقع إليّ آجلاً .
وإذا جاء شيء من كلامه ( عليه السلام ) الخارج في أثناء حوار ، أو جواب سؤال ، أو غرض آخر من الأغراض ـ في غير الإنحاء التي ذكرتها ، وقررت القاعدة عليها ـ نسبته إلى أليق الأبواب به ، وأشدّها ملامحة (28) لغرضه .
وربما جاء فيما أختارُهُ من ذلك فصول غير مُتّسِقة (29) ، ومحاسن كَلِم غير منتظمة ; لأنّي أورد النكت واللّمَع (30) ، ولا أقصد التتالي والنسَق (31) .
ومن عجائبه ( عليه السلام ) التي انفرد بها ، وأمِنَ المشاركةَ فيها ، أنّ كلامه ( عليه السلام ) الوارد في الزهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ، إذا تأمّله المتأمّل ، وفكّر فيه المتفكّر ، وخلع من قلبه أنّه كلام مثله ممّن عظم قدره ، ونفذ أمره ، وأحاط بالرقاب ملكه ، لم يعترضه الشك في أنّه من كلام من لا حظّ له في غير الزهادة ، ولا شغل له بغير العبادة ، قد قبع (32) في كسر بيت (33) ، أو انقطع إلى سفح جبل (34) ، لا يسمع إلاّ حسّه ، ولا يرى إلاّ نفسه ، ولا يكاد يوقن بأنّه كلامُ من ينغمس في الحرب مصْلِتاً سيفه (35) ، فيقُطّ الرقاب (36) ، ويُجَدِّل الأبطال (37) ، ويعود به ينْطُفُ (38) دَماً ، ويقطر مُهَجاً (39) ، وهو مع تلك الحال زاهد الزهّاد ، وبدَلُ الأبدال (40) .
وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللطيفة ، التي جمع بها بين الأضداد ، وألّف بين الأشتات (41) ، وكثيراً ما أُذاكر الإخوان بها ، وأستخرج عجبهم منها ، وهي موضع للعبرة بها ، والفكرة فيها .
وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظُ المردد ، والمعنى المكرّر ، والعذر في ذلك أنّ روايات كلامه ( عليه السلام ) تختلف اختلافاً شديداً : فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنُقِلَ على وجهه ، ثمّ وُجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير موضعه الأوّل : إمّا بزيادة مختارة ، أو لفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد ، استظهاراً للاختيار ، وغَيْرةً على عقائل الكلام (42) .
وربما بَعُدَ العهدُ أيضاً بما اختير أوّلاً فأُعيدَ بعضُه سهواً أو نسياناً ، لا قصداً واعتماداً .
ولا أدّعي ـ مع ذلك ـ أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه (43) ( عليه السلام ) حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ ، ولا يَنِدُّ نادّ (44) ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إليّ ، والحاصل في رِبْقتي (45) دون الخارج من يديّ ، وما عليّ إلاّ بذل الجهد ، وبلاغ الوسع ، وعلى الله سبحانه نهج السبيل (46) ، وإرشاد الدليل ، إن شاء الله تعالى .
ورأيتُ من بعد تسمية هذا الكتاب بـ ( نهج البلاغة ) إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرّب عليه طِلابها ، وفيه حاجة العالم والمتعلّم ، وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه الله سبحانه عن شَبَهِ الخلق ، ما هو بِلال كلّ غلّة (47) ، وشفاء كلّ علّة ، وجِلاء كلّ شبهة .
ومن الله سبحانه أستمدّ التوفيق والعصمة ، وأتنجّزُ التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجنان ، قبل خطأ اللسان ، ومن زلّة الكَلِم (48) ، قبل زلّة القدم ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
الهوامش:
1ـ المعاذ : الملجأ .
2ـ وسيلاً ـ جمع وسيلة ـ : وهي ما يتقرّب به .
3ـ طينة الكرم : أصله ; وسلالة المجد : فرعه .
4ـ الفخار المعرق : الطيب العرق والمنبت .
5ـ العصم ـ جمع عصمة ـ : وهو ما يعتصم به .
6ـ المنار : الإعلام ، واحدها منارة .
7ـ المثاقيل ـ جمع مثقال ـ : وهو مقدار وزن الشيء ، فمثاقيل الفضل زناته ، والمراد أنّ الفضل يعرف بهم مقداره .
8ـ إزاء لفضلهم : أي مقابلة له .
9ـ خوى النجم ـ بالتخفيف ـ : سقط ، ـ وبالتشديد ـ : إذا مال للمغيب ، وخوت النجوم : أمحلت فلم تمطر ، كأخوت وخوّت بالتشديد .
10ـ عنفوان الشباب : أوّله .
11ـ غضاضة الغصن : طراوته ولينه .
12ـ حداني عليه : بعثني وحملني ، وهو مأخوذ من حداء الإبل .
13ـ محاجزات الأيام : ممانعاتها ، ومماطلات الزمان : مدافعاته .
14ـ البدائع ـ جمع بديعة ـ : وهي الفعل على غير مثال ، ثمّ صار يستعمل في الفعل الحسن وإن سبق إليه مبالغة في حسنه ; والنواصع ـ جمع ناصعة ـ : الخالصة ، وناصع كل شيء خالصه .
15ـ الثواقب : المضيئة ، ومنه الشهاب الثاقب ، ومن الكلم ما يضيء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلّت عليه فيهتدي بها إليه .
16ـ المشرع : تذكير المشرعة ، وهو المورد .
17ـ حذا كل قائل : اقتفى واتبع .
18ـ عليه مسحة : أثر أو علامة ، وكأنّه يريد ( بهاء منه وضياء ) .
19ـ العبقة : الرائحة اللاصقة بالشيء والمنتشرة عنه .
20ـ اعتمدت : قصدت .
21ـ الدَثِرة ـ بفتح فكسر ـ : الكثيرة ، وكذلك الجمّة .
22ـ يؤثر : أي ينقل عنهم ويحكي .
23ـ الشاذ الشارد : المنفرد الذي ليس له أمثال .
24ـ لا يُساجَل : لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء .
25ـ لا يحُافَل : لا يغالب في الكثرة ، من قولهم : ضرع حافل : ممتلئ كثير اللبن ، والمراد أنّ كلامه لا يقابل بكلام غيره لكثرة فضائله .
26ـ أقطاب : أصول .
27ـ أجمع عليه : عزم .
28ـ الملامحة : الإبصار والنظر ، والمراد هنا المناسبة والمشابهة .
29ـ المتسق : المنتظم يتلو بعضه بعضاً .
30ـ النكت : الآثار التي يتميّز بها الشيء ، واللمع : الآثار المميّزة للأشياء بإضاءتها وبريقها .
31ـ النسق : التتابع والتتالي .
32ـ قبع القنفذ ـ كمنع ـ : أدخل رأسه في جلده ، والرجل أدخل رأسه في قميصه ، أراد منه : انزوى .
33ـ كسر البيت : جانب الخباء .
34ـ سفح الجبل : أسفله وجوانبه .
35ـ أصلت سيفه : جرّده من غمده .
36ـ يقطّ الرقاب : يقطعها عرضاً ، فإن كان القطّ طولاً قيل : يقد .
37ـ يجدل الأبطال : يلقيهم على الجدالة ـ كسحابة ـ وهي وجه الأرض .
38ـ ينطف ـ من نطف كنصر وضرب ـ نطفاً وتنطافاً : سال .
39ـ المهج ـ جمع مهجة ـ : وهي دم القلب ، والروح .
40ـ الأبدال : قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، إذا مات منهم واحد بدّل الله مكانه آخر ، والواحد بدل أو بديل .
41ـ الأشتات ـ جمع شتيت ـ : ما تفرّق من الأشياء .
42ـ عقائل الكلام : كرائمه ، وعقيلة الحي : كريمته .
43ـ أقطار الكلام : جوانبه .
44ـ الناد : المنفرد الشاذ .
45ـ الربقة : عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة .
46ـ نهج السبيل : إبانته وإيضاحه .
47ـ الغلة : العطش .
48ـ زلة الكلم : الخطأ في القول .