فيلم (فتنة) وتسطيح الثقافة
سيظل سؤال الأخلاق ماثلاً وملحاً أمام أي عمل يدّعي صاحبه بأنه إبداعي، بينما هو يسيء للآخر ويشوّه صورته في عيون الناس، فإذا تذرّع مخرج فيلم (الفتنة) جيريت فيلدرز الهولندي، ومن وافقه وأيدّه بممارسة الحرية في أعمالهم الفنية، فإننا نضع نصب أعينهم حقيقة فطرية يؤمن بها جميع بني البشر من دون استثناء، وهذه الحقيقة هي ما هو المخرج الأخلاقي للاعتداء على الآخرين وعلى معتقداتهم بالتشويه والاستهزاء؟..
لم يخلُ المجتمع الغربي من تناول سؤال الأخلاق في مجمل أعماله الاستكشافية أو الاختراعية، فمازال هذا السؤال ملحاً على المستحدثات من الأعمال والأفعال، باعتبار أن هنالك طرفاً آخر في أي معادلة وإن لم يكن الطرف الآخر موجوداً فالذات والنفس تستحق أن تحترم..
فيما يحدث في الغرب من تموّجات ضد الإسلام بصوره المختلفة نجد أن جميع القيم التي يؤمن بها أصحاب الإدعاء تلاشى وتتبدد، مادام أن الطرف الآخر هو الإسلام أو المسلمين، أما إذا وضعت في الطرف الآخر اليهود مثلاً، فإنه لن يحق لك حتى النقاش العلمي التاريخي في محرقة اليهود (الهولوكوست)، لأنك بكل بساطة ستتعرض للمحاكمة في البلدان الغربية نفسها..
لا أعتقد أننا بحاجة إلى كثير جهد لنثبت الانحياز الغربي لدى الكثير من سياسييهم و مفكريهم وفنانيهم، فهذا أمر واضحة معالمه، وبيّنة نواياه، ومعلومة غاياته.
دعنا من كل ذلك.. وتعال معي لفيلم (الفتنة) الذي أخرجه فيلدرز الهولندي في محاولة لإظهار الإسلام والقرآن تحديداً بصورة وحشية المعالم، غليظة الطباع، عنفية الممارسة، مما أثار ردود أفعال ضد هذا العمل في كثير من بلدان العالم..
مثل هذا العمل، لا أعتقد أننا يمكن أن ننظر إليه بنقد جاد لمضامينه، فهو عمل سطحي بمعنى الكلمة، ولعله يأتي في سياق صياغة رأي عام في الغرب من خلال التأثيرات الشكلية، وهو أشبه ما يكون بإعطاء جرعة معلبة من الأفكار لصناعة موقف ليس ضد المسلمين باعتباراتهم المختلفة وصفاتهم المتنوعة في الأفهام بين التشدد والتسامح، بل ضد القرآن ككتاب مرجعي يعتمد عليه كل المسلمين في حياتهم، بهذا العمل يريد أن يقطع المخرج دابر كل صوت ينادي بالحوار مع القوى المعتدلة من المسلمين، فهو يتهم الأصل المتمثل في القرآن الكريم، وما يترشح عن ذلك هو عداء أبدي لكافة المسلمين.
عندما جئت إلى الفيلم، أخذت ورقي وقلمي لأسجل المضامين، وبالتالي أقوم بتحليلها بغية الوقوف أمام الأسباب التي دعت المخرج لتكون ذلك الفهم، ثم أقف عند مقاصده، وبالتالي يمكن الخروج برؤية حول العمل بشكل استيعابي، إلا أنني فوجئت بالسطحية التي كان عليها هذا الفيلم القصير، فكان عبارة عن تجميع لقطات من أحداث العالم التي تحفل بالتعقيدات السياسية والفكرية، تخللها مقاطع من آيات قرآنية مبتورة عن سياقاتها..
بمعنى آخر، فإن الأداة التي عمد إليها المخرج، لصياغة الرأي العام الأوربي، هي أداة التأثير السريع عبر الصورة المتحركة، وهذه الأداة لا يتأثر بها إلا من لا عهد له بالمعرفة، فالثقافة والمعرفة هي التي تصيغ الرؤى عبر الأدلة والبراهين، فتعامل المخرج بهذا العمل مع العقل الأوربي هو استخفاف بالعقل الأوربي ذاته، وكان ينبغي للأصوات العاقلة أن تدين هذا العمل من ناحية معرفية، لما يمثله من استخفاف واستهزاء ليس بالقرآن،وإنما بعقل المتلقي..
فكيف يريد أن يقنع الناس بالخطاب القرآني عبر تقطيع الآيات ووصلها بمجموعة من الأحداث المتقلبة هنا أو هناك.. حتى أنك تجد بعض المضحكات في حشد الصور التي يعتبرها ذات علاقة بالآيات التي يسوقها، فأحيانا يذكر آيات جاءت في سياق الحرب وتقصد المعتدين على المسلمين، فتمثلها الصور بعدها كأنها تقصد كل من لا يؤمن بالدين، ويعرض مشاهد عن حكم الإعدام قصاصاً وكأن الإسلام وحده من أقر بذلك، وخلاله يأتي بمشاهد لا تمت إلى هذا الواقع بصلة..
ورغم ذلك فالمخرج يعترف بأن الإسلام في نمو دائم في الغرب، ويعرض مشاهد المحجبات في الطرقات الغربية وهي تتمشى، ثم يأتي برسم بياني يبيّن تنامي نسبة المسلمين في الغرب من العام 1995م إلى عام 2007م.. وهو بهذا يرد على نفسه، إذ أن كل تلك الأعمال التسطيحية لم تكن تنفع في تحجيم المسلمين وتقليل نسبتهم في العالم، لأن التغيير الحقيقي إنما يبنى على أساس المعرفة، ولعل مخرج فيلم (فتنة) يدعو الغربيين بشكل غير مباشر إلى الإطلاع على القرآن الكريم لمعرفة الإدعاء، ونحن نعتقد أن كثيراً ممن سيطلعون على القرآن الكريم من دون تأثيرات أجوائية أو غيرها، فإنهم سيقدّرون القيم التي يدعو إليها القرآن الكريم، وسيقولون: (أنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد..).. وبالفعل فإن الأنباء وافتنا بعد فترة من خروج هذا الفيلم عن توافد الكثير من الغربيين لشراء نسخة من القرآن الكريم (المترجم)..
وخلال متابعتي لتقرير الكتب الصادر عن موقع العربية نت، لفت نظري أن كتاب (تاريخ ضائع) لمؤلفه مايكل مورغن، وقد صدر العام الماضي، أنه سوف يعاد طبعه من جديد، وهذا الكتاب، يقوم بعكس ما يقوم به فيلم (الفتنة) لأنه يعرض تاريخ المسلمين بصورة محايدة، وتعرف الغربيين أن هذا التقدّم الحضاري الذي يعيشه، إنما هو بمساهمة فاعلة وأساسية من علماء الإسلام، ونقلاً عن تقرير (العربية نت): (يقول المؤلف إن إنجازات المسلمين المبكرة في الثقافة والعلم كانت حجر الأساس لعصر النهضة في أوروبا ثم حقبة التنوير والمجتمع الغربي الحديث. ويتحدث عن "العصور الذهبية" للإسلام التي تبدأ مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا يزال صدى هذه العصور حتى اليوم". ويتحدث بالاسم عن ابن سينا، ابن الهيثم، الطوسي، الخوارزمي، عمر الخيام. ويقول إن هؤلاء أحدثوا ثورة في الفلك والطب والرياضيات وفتحوا الطريق أمام نيوتن وكوبرنيكوس وعلماء آخرين في الغرب.
ويضيف أن النبي محمد كان ملهما للعديد من القادة في الغرب الذين تحدثوا عن العدالة والتسامح الديني ودعم العلوم والفنون).
ويبدوا أن مخرج فيلم (فتنة) في هولندا و رسام الرسوم المسيئة في الدنمرك، عليهم أن يقرءوا هذه الفقرة الأخيرة، ليعرفوا أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) هو من علّم البشرية قيم العدالة والتسامح.
أما طريقتهم فينطبق عليها قول الله تعالى في سياسة المنافقين: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة : 48].
السيد محمود الموسوي
نحن وراء فيلم «الفتنة»
رابطة العالم الإسلامي تدين الفيلم الهولندي المسيء للإسلام