الصعود المعنوي
بالرغم من أن عظمة شخصية الإمام الخميني، وعمقها وغناها، هي من السمو بمكان لا يتيسر معه حتى لأقرب الناس إليه أو أنجب تلامذته إدراكها وفهم أبعادها، إلا أنه من المفيد أن يعمد أي شخص أتيحت له فرصة التعاطي معه، إلى التحدث عما رآه وأحس به في ذلك الإنسان العظيم، حسب مستوى فهمه واطلاعه، وحسب السعة الروحية التي يتمتع بها، حتى ترتوي الأجيال القادمة المتعطشة للمعرفة من بحر الفضيلة والنور الذي يزخر به الإمام. ولأنه كان يتمتع، رضوان الله عليه، بشخصية متكاملة الجوانب، فقد كانت حركاته وسكناته، كلماته وتصرفاته، العادية واليومية، عبارة عن دروس حية عن الحكمة الإلهية الخالدة والروح الملكوتية المتعالية. لذا فإن الأمانة العلمية والتاريخية تقتضي بأن يضع أي شخص ما سمع أو عرف من جوانب شخصية عن الإمام، تحت تصرف العامة، من أجل الفائدة وشمولها. وكاتب هذه السطور، الذي قضى أكثر من ثلثي عمره في ظل الإمام، وعشق التجربة التي خاضها، بحلاوتها ومرارتها، على مدى 27 عاماً، وضع نبذة عن مشاهداته في ملف خاص أفرده لهذه الغاية. ويهمني التأكيد على أن المعلومات الواردة في هذا الملف، هي حصيلة المشاهدة المباشرة للكاتب عن الإمام.
كأنه لم يكن بيننا
العمر: حساب التاريخ أم حساب الواقع
لقد قيل الكثير حتى الآن عن القناعة التي كان يتمتع بها الإمام الخميني في حياته، حيث كان يقتصد إلى أقصى الحدود في الاستفادة من الإمكانيات المتاحة له. حتى أن المرء كان يلاحظ وجود هذه الخصلة لديه عند أبسط ارتباط به أو معاشرة له. لم يكن الإمام بعيداً عن الإسراف والتبذير فحسب، بل يمكن اعتبار مراحل حياته مصداقاً جلياً لقول (المؤمن قليل المؤنة، كثير المعونة).
لقد حرص دوماً، رضوان الله عليه، على أقل حد ممكن من الاستزادة من متاع الدنيا ورفاهيتها، في الوقت الذي بلغ درجات عُلى في إسداء الخير للآخرين والتدرج في الآفاق المعنوية.
أود أن أتحدث في هذا المقام عن نظام التوفير الذي كان يعمل به في مجال الاستفادة من الوقت، بعد أن روي الكثير الكثير عن اقتصاده في استعمال الماء والكهرباء وسائر وسائل الحياة الضرورية.
إن عمر الإنسان الحقيقي ينبغي أن يقدر ويحسب ضمن إطار الاستغلال الصحيح والحركة الفعالة باتجاه الأهداف المثمرة وادراك فلسفة الخلق وحكمة الحياة. حسب هذا المقياس، من الممكن أن يعيش أحد الأشخاص مئة عام كما تفيد شهادة ميلاده. إلا أن عمره المفيد، إذا صح التعبير، يمكن أن يصل إلى حد الصفر أو ما دون الصفر، حيث أن هذه السحابة تكون قد مرت وهو يتحرك من خلالها كجثة متنقلة ليس لها هدف ولا اتجاه. أو أن شخصاً آخر يبلغ المدى الواقعي من عمره الذي يصل إلى مئة سنة، خمس سنوات، أو عشر سنوات، أو عشرين سنة على سبيل المثال. وبالنتيجة، عندما يقضي لحظات عمره كلها من دون أن يقرب المحرمات أو يدنو من البطالة والتفاهة، ينطبق عمره الأصلي الذي يحسب عليه مع عمره الواقعي الذي يحسب له. بالنسبة للإمام، فقد كانت حياته من جانب محتواها وكيفيتها وغناها،ـ مصداقاً للآية التي تقول {إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}. حتى أن نومه، استراحته، أوقات فراغه ورياضته، وتناوله الطعام، كانت تصب كلها في الاتجاه المؤدي إلى الله تعالى، وفي تكامل الصعود المعنوي. أما من الجانب الظاهري والكمي، فليس هناك من يستطيع الادعاء بأنه رأى الإمام بلا عمل أو انشغال في يوم من الأيام، إلى درجة يمكنني القول معها أنه في الأيام الأخيرة من عمره الشريف، وبالرغم من الضعف والمرض والكهولة التي أرخت ظلالها عليه، بقي الشخص الأكثر عملاً وفعالية وانهماكاً بين كل الذين عرفتهم.
العرفان في فكر الإمام الخميني (قده)
الإمام قدوة التنظيم الحياتي