التحدي في الوسط المتكافئ
هنا في وسط يمتلك الطرفين فيه نفس الادوات ونفس الاجواء ونفس التضاريس فاللغة هي نفسها لدى الطرفين بكل قوانينها واشتراطاتها وكل ما من شانه ان يوصل الخطاب او يلوّن مضامينه او يجمّل صوّره البلاغية.
وليس هذا فقط وانما تمتلك اللغة ايضا سبل رقيها وديناميكيتها للتطور والنمو المطرد.
ومع كل ذلك فلا زال القرآن يتحدى الى ما لا نهاية في ان يأتى بمثله وان كان الكل للكل ظهيرا.
( وان كنتم في ريب مما انزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله ان كنتم صادقين).
فمن يوم ترطبت شفاه النبي الكريم بآيات القرآن وهي تنزل مع الاشعة الكونية لتخصب القلوب الحجرية بنور الايمان وتمد من خلال عراء الحجاز ظلال القيادة العالمية على كثير من بقاع الارض لكن التحدي ظل مستمرا فقد حاول الكثيرون ان يأتوا بمثله لكنهم اصطدموا بما لا قبل لهم به، وردّوا على اعقابهم خاسرين.
فالقرآن مزيج اعجازي مركب من مجموعة عناصر لا يمكن لأي مجموعة بشرية ان تجمعها اضافة الى عنصر البلاغة.
فيه التفوق التشريعي والنكات العلمية والروعة الفطرية والمعادلة المناسبة للكلام الصادر من الله تعالى الى عباده، وعناصر اخرى كثيرة حفل بها القرآن مع تقدم البشرية في كل حقبة من الزمان يزاح الستار عن عنصر جديد من عجائبه.
فالله سبحانه وتعالى الذي يعرف مدى مستويات جميع الاجيال، خلق كلاما فوق تلك المستويات ومن مصدر القوة والاطمئنان قال سبحانه:(…فاتوا بسورة من مثله …). وقال( هذا … خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه …).
ان في الناس من بسهولة عن العلم والبلاغة والشريعة والمعرفة إلا انهم يعجزون عن الاتيان بسطر مما يشبه القرآن وان كان قصيرا بمقدار سورة الكوثر.
وقد اعتذر الكاذبون لهذا الفشل بكثير من الاعذار وهي لا تزيد عن تبريرات الفاشلين لحفظ ماء الوجه الشيطاني.
قالوا، القرآن ليس فوق مستوى البشر ولكن الله يصرف الافكار عن الاتيان بمثله مع القدرة على الاتيان فيما لو تركت وشانها.
وقالوا ان ترديد القرآن باستمرار لمئات السنين اضفى عليه روعة وهمية تخيل للناس انهم عاجزون عن الاتيان بمثله وهم ليسوا عاجزين.
وقالوا ايضا ان المؤمن يتهيب محاولة تحدي القرآن فلا يتحداه وغير المؤمن لا يهمه تحديه فلا يتفرغ له. وهي ادعاءات باطلة ومجانبة للحقيقة:
1ـ فادعاء ان الله يصرف الافكار عن الاتيان بمثله يؤكد كونه من قبله لأن الله لا يتطوع لصرف الافكار عن رد تحديات المتحدّين.
2ـ ولو لم يكن من قبل الله لكان باطلا والله لا يدافع عن الباطل ولا يستر عن الذين ينسبون اليه ما لم يصدر منه بل هو يفضحهم بمقتضى قاعدة اللطف.
3ـ ان ما يصدر عن البشر من الروائع الادبية والبلاغية والشعرية مهما كان جمالها فلا تعد ادنى من اسلوب القرآن وذلك لأنها تختلف من الجانب النوعي تماما.
4ـ وليس الله سبحانه وتعالى محدود في فعله لكي يدافع عن اقصى ما يطرحه للناس وانما هو اللانهائي ومطلق المدى.
5ـ طرح القرآن منذ بداية نزوله دستورا ومعجزا.
6ـ المؤمن يحاول تحدي القرآن عندما يريد التاكد من صدق ايمانه، وغير المؤمن ممن ينضوون تحت طائلة العداء والالحاد، يهمه التحدي كجزء من الحرب المستمرة ضد الاسلام وكثير من المؤلفات تناولت الاعجاز القرآني فمنها ما تناول الجانب اللغوي والبلاغي ومنها ما تناول الاعداد مثل العدد 19، وكذلك مقدار بسم الله الرحمن الرحيم، وتكرارها المحدد في الآيات القرآنية بمجمل الكتاب الكريم.
والانسان المغرور قد يتحدى في حدود معينة فيدّعي انه يفوق الماضين لأنهم توقفوا عن العطاء ويتحدى المعصرين لأنه يعرف مداهم، ولكنه لا يتحدى المطلق وان حشد مواهب الارض لأنه لا يعرف مدى المستقبل والقرآن حيث تحدى، وبمجرد هذا التحدي عبر عن اطمئنانه الى انه فوق مستوى البشر على مدى الحياة.
وهذا الاطمئنان لا يحصل لأي فرد من البشر طالما المستقبل مفتوح للمفاجآت وطالما تتفتق المواهب في كل فترة عما لم يكن متوقعا قبلها.
والمسلمون رغم تطور ثقافتهم عبر تاريخ القرآن ورغم انهم طالما تورطوا باخطاء كبيرة وكثيرة إلا انهم لم يصطدموا بالقرآن في أي وقت من الاوقات حتى من خلال اخطائهم فما عانوا من اصطدام ثقافتهم بكتابهم شيئا مما عاناه اليهود والنصارى وبقية اهل الكتاب من اصطدام ثقافتهم بكتبهم، وخاصة في القرون الاخيرة حيث كشفت قفزة العلوم اخطاءا كثيرة في الكتب المقدسة فاضطر المثقفون الى التحيز للعلم والاتجاه نحو الالحاد واضطر المتدينون الى تعطيل العقل وتجميد العلم في مجال الايمان.
---------------------------------------------------
الهوامش
1. خواطري عن القرآن/الجزء الاول/ السيد حسن الشيرازي
الإعجاز في خلق السماء ذات طبقات متعددة
الفرق بين المعجزة القرانية والابتكار العلمي
وما تحت الثرى معجزة علمية