الشكل والمضمون.. والفرق بينهما
في نظرة متاملة الى التفاحة او البرتقالة او الرمانة وبقية الفواكه كل واحدة منفردة كنماذج عن باقي الفواكه نرى شكل كل منها ونتفكر في اشكالها الخارجية ومقدار الجمال وما تثيره من انطباع ذوقي كبير وعميق وما تعطيه من شعور بالجمال والحسن الباهر.
لكن اذا تم فتح غلاف أي من هذه الفواكه هل يمكن ملاحظة بان الطعم والرائحة والفائدة الغذائية هي اقل مما في الشكل الخارجي الذي كان موحيا ومعبرا الى حد ما عن تلك الخصائص المتميزة؟.
ونرى بعد تذوقها انها تفوق بدرجات كبيرة الشكل الخارجي لها وكان ذلك الشكل مجرد رسالة حسيّة ناعمة رقيقة هامسة اعطت المعلومة بهدوء واستثارت فينا الرغبة للتمتع بلذة اكلها بالصورة التي استوحينا منها تلك الرسالة الباهرة المغرية.
وهكذا يعطينا الله سبحانه وتعالى المثل في الانسجام بين الشكل والمضمون بين المحتوى والاطار بين الكلام والعمل بين الادعاء والفعل.
وتقف اليوم في زمننا الحاضر كثير من الاشكال غير الاصيلة في الوجه الاجتماعي وفي الوجه الوظيفي وفي الوجه السياسي.
فالمثقف وان كان قوله يعجب السامعين الا انه في الاغلب مثقف مؤدلج ينعق نيابة عن الغارقون في السوء.
والموظف وان وضع على المنضدة التي امامه آية قرآنية تدعو للعمل الصالح وعلى يمينه آية اخرى تقول ان حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل، فيما قد وضع سجادة الصلاة والصلاح والفلاح بشكل ظاهر يمكن للخامل المتعب ان يلاحظها بكل سهولة فانه لا يلتزم حتى بالرؤى العشائرية والاعراف الاجتماعية التي هي اقل مستوى من تعاليم الدين.
والسياسي وان كان يقود حزبا له عنوان ديني يوازي الشمس وضوحا في كونه قد ملأ جدران المدن البائسة ولطخها بالاحمر والاصفر والاسود والبنفسجي مخبرا حتى العصافير بانه سيبني لها اعشاشا من خيوط الحرير ويزودها بافضل الجريش ينثره لها بيده الكريمة وسط ازهار واعناب.
ولكن الحقيقة انه كان ينفع نفسه وبناء عشه الخاص وسط بيئة مبردة معطرة محمية في الآن وما بعد الآن واعطى لنفسه تقاعدا مريحا معضدا بالمال كتعويض لخدمته القصيرة فيما ترك
الجياع يتقاعدون على جوعهم وحرمانهم بالفلاسين القليلة والحسرات الكثيرة.
فهل كانت السياسة بافضل من الشعب المحروم وهل تميزت الى الدرجة التي يكون الشعب هو دافع الثمن الباهض لها ..اجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ؟. لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين.
في كل مجتمع متخلفون روحيا كما ان في كل مجتمع متخلفون صحيا وقد يكون المتخلف صحيا يسير مع امر تخلفه الصحي بواقعية ويشكر الآخرين على الرعاية التي يتقدموا بها اليه لكن المتخلف روحيا يتوقع من المجتمع ان يعامله على انه متفوق وهو لم يؤد الدور المتفوق في الحياة العملية وفي الميدان الواقعي وهو يحسب عمله على انه نوع من المنّة والفضل وهو على هذا الاساس بحاجة الى شعب خاص يقدر دوره ويثني عليه ويصفق له قائلا: بالروح بالدم نفديك...
فعندما قامت الادارة الاسلامية كادارة فليس يعني ان الادارة بحد ذاتها هي المقياس الاسلامي وانما هي تسهيل مهمة النهج العملي ليصل الى مداه المتكامل في نسقه الفكري والعقائدي.
فان منجزات الادارة لذاتها لاتعد الهدف الاساس وانما ما تعطيه الادارة من زخم في العملية التصاعدية بخطها البياني الى المرامات العليا لبلوغ سعادة المجتمع بصورة عامة وتحقيق الحلول للمشاكل الاقتصادية والتنمية والخدمات وتعمير القاعدة التحتية للانسان.
فهل خلقت الشعوب لخدمة السياسة؟.
لقد جاء الدين من اجل الانسان وجاء الرسل من اجل الانسان وبالنتيجة والمسرى ذاته فان القرآن نفسه جاء من اجل الانسان وليس الانسان من اجل القرآن قد خلق ولا من اجل المرسلين او الانبياء.
وبناء عليه فان من يتصدى لإدارة الشان العام هو في الحقيقة مجرد آلية متفاعلة ايجابية في الماكنة الكبير التي تسير باتجاه الهدف الاسمى لسعادة الانسان في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة.
وان يكون الشكل الفاعل شكل معبر عن حقيقة انسانية رائعة يحتويها المضمون بل ان المضمون افتراضا ينبغي له ان يكون اكبر مما يوحيه الشكل الخارجي متجسدا على واقع الحياة كمنجز مادي او روحي له نتائج محسوسة في تغيير واقع الناس.
ومن ضمن الاشكال ايضا الوعود بالبناء والاعمار والانشاء والمقترحات فيما يظل الناس والعصافير تمارس حياتها الرتيبة المظللة بالياس والقنوط الى درجة الاهمال. فالعصافير تخسر كل يوم عصفور او عصفورين نافقين من شدة الحر وعدم وجود ثغرات مكيفة في الجدران المطلية بالخزف الصيني والمرمر في قصور الحكام.
فيما تكون الاشجار قد بدأت فيها الشيخوخة المبكرة ولم تعد تصنع التفاح او البرتقال او
الرمان ولا بد من ان تبنى لها سفينة على نحو ما لاجل ان تبحر بها الى جزيرة اخرى زوجين زوجين من كل صنف، والمشكلة ان ليست هناك سفينة مثل سفينة نوح عليه السلام لتستوعب كل هذه الازواج!!.
يقول السيد حسن الشيرازي بكتابه خواطري عن القرآن:
ان الآية الكريمة التي ذكرناها اثناء حديثنا تقارن في استفهام استذكاري يرتسم امام المتعنت بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة والايمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله من جهة اخرى، فسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من الفرعيات الديكورية التي لها الدور الاخير ولا هدف منها غير المساعدة على الحج، فيما الايمان بالله واليوم الآخر هما الاساس الاول والهدف الوحيد من العبادات والجهاد في سبيل الله هو الوسيلة لتحقيق ذلك الهدف.
ولكن وكأنما يحاول القرآن اعذار هؤلاء المتخلفين الذين يقومون بهذه المقارنة التبريرية فيحذرهم بانهم متخلفون ويقف منهم موقف المعلم النصوح...لا يستوون عند الله.
قراءة القرآن تزيل التوتر والقلق
.................................................
المصدر:السيد حسن الشيرازي
خواطري عن القرآن- الجزء الثاني