• عدد المراجعات :
  • 3426
  • 2/6/2008
  • تاريخ :

سبل الاستقامة وحسن العاقبة
الاستقامة

 

في البدء لابد من الاشارة الى ان هناك درجات متفاوتة وأوسمة إلهية يستحقها الانسان كنتيجة لعمله، ولعل اعظم ما يتشرف به على الاطلاق هو ذلك الوسام الذي بشر الله ـ سبحانه وتعالى ـ به عباده الذين استقاموا اذ يعطيهم درجة تخص الانبياء (عليهم السلام)، وميزتهم انهم يؤيدون بالوحي ويهتدون بعلم الله وينظرون بنوره ويمنحون درجة الامن في الحياة الدنيا، كما يمنحوها في الاخرة، كما تشير الاية في قوله تعالى (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

والاستقامة مرتبة من السمو تلي درجة الانبياء (عليهم السلام) كما في قوله سبحانه وتعالى (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون).

وهذه الدرجة الرفيعة لا يصلها الا القليلون من الناس وما يؤيد ذلك القول الحديث النبوي الشريف: "الناس هالكون الا العالمون والعالمون هالكون الا العاملون والعاملون هالكون الا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم".

فحتى الذين يخلصون لله في عملهم ويبلغوا ذلك المبلغ السامي في الاخلاص فهم ايضا على خطر عظيم لان ليس بوسعهم ان يعلموا عواقب امورهم.

ومن الناس من انحرف قبيل وفاته فمات بعيدا عن الله وعن الجنة ولذلك كانت وصية الانبياء (عليهم السلام) لابنائهم متمثلة في قوله سبحانه وتعالى (فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون).

فذاك هدف عظيم على الانسان ان يتبناه في حياته وان يحرص على ان لا يموت الا وهو على العهد من الاسلام للحصول على الجنة فهي اعظم الاهداف وكي تختم حياته بالحسنى وتحقيق هدف الاستقامة الذي يأتي من بعد الايمان كما في قوله سبحانه وتعالى (إنّ الذي قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، ومما يتضح من خلال ما تبينه لنا سورة هود حجم التحديات الكبيرة للأمم الماضية للرسل ومواجهتهم لتلك التحديات بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وهي تتضمن حكمة في خواتيمها تعبر عن محتواها ومغزاها متمثلة في قوله تعالى (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) فيهتز الرسول (ص) من وقع كلمات هذه الآية الكريمة على مسمعه وهو المؤيد بالوحي والذي كان نبيا وادم ما بين الطين والتراب، وقد اخذ الله سبحانه وتعالى ميثاق الايمان برسالته من كل النبيين، ومما يروى عن النبي (ص) أن أحد اصحابه تعجب عندما رأى كثرة الشيب في رأسه الكريم رغم أن سنه كان ما بين الاربعين والخمسين فقال: "شيبتني سورة هود".

ونفهم مما تقدم بان الطريق طويل والعقبات كثيرة والامتحانات والفتن عظيمة، وان لا يأخذنا الغرور بأنفسنا، بل علينا الثبات حتى النهاية لنفوز بحسن العاقبة، وكم سمعنا الخطباء يرددون من فوق المنابر قول النبي (ص): "يأتي زمان على امتي القابض فيه على دينه، كالقابض على جمرة من نار"، فنستغرب ذلك، حتى دار الزمان ووقعت الحوادث، فاستولى الكفار على البلاد ومنعوا الناس من اقامة الشعائر الدينية، فأتضح بان المستقيم على دينه والمحافظ عليه هو اصعب حالا من القابض على جمرة من نار، فكيف بالانسان يأخذه الغرور بنفسه ويمنّيها بالخير والنهاية السعيدة، دون التوكل على الله والثقة به والاعتماد عليه، ولتكن لنا في هذا المجال بأئمتنا (عليهم السلام) أسوة حسنة.

فعن ابن أبي يعفور قال: سمعت ابا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول وهو رافع يده الى السماء: "رب لا تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا، لا اقل من ذلك ولا اكثر"، قال: فما كان بأسرع من ان تنحدر الدموع من جوانب لحيته، ثم أقبل عليّ فقال: "يا ابن يعفور ان يونس بن متي وكله الله عزوجل الى نفسه طرفة عين، فأحدث ذلك الذنب"، قلت: فبلغ به كفرا اصلحكم الله، قال: "لا ولكن الموت على تلك الحال هلاك".

يتجلى الايمان حينما يخيّر الانسان بين هوى النفس والحق، فيختار الحق ويذعن له خصوصا اذا كان هذا الحق مخالفاً لهواه.

فعادة ما تبدأ الخيارات ما بين هوى النفس والحق بسيطة بادئ الامر، ثم تتطور بالايمان تدريجيا حتى تصل الى درجة الاستقامة، او يحدث العكس من ذلك فيصل الانسان هواه على الحق ويختاره وحينئذ ينحدر درجة اثر الاخرى ويبتلى بامتحان عسير بعد الاخر في طريق سقوطه حتى يصل الى درجة اسفل سافلين، كما في قوله سبحانه وتعالى (ثم كان عاقبة الذين اساءوا السوأى أن كذبوا بايات الله وكانوا يستهزئون).

ولكن يبقى بمقدور الانسان ان لا يسقط وينحدر الى الحضيض وان يهتدي بلحظة ما، لان سبيل العودة مفتوحا امامه كما حدث للحر بن يزيد الرياحي في واقعة الطف بكربلاء، فجعجع بأهل بيت الرسالة وهَمَّ بمقاتلة الامام الحسين (عليه السلام) ولكنه بلحظة تفكير ورويّة ارتقى بشكل مفاجئ، فانتقل من الدرك الاسفل الى اعلى عليين بفضل الله ـ سبحانه ـ وذلك، بانضمامه الى معسكر الحسين (عليه السلام) واستشهاده بين يديه.

فعلى الانسان توخي الحذر فاذا ما اذنب ذنبا، فإن عليه الاعتراف به، لا ان يسعى سعيه الى تبريره لانه في تلك الحالة سيزداد سوءا.

ولتوضيح الفكرة نسوق مثلا بالذي يترك الصلاة ويبرر تركه لها بأن الله لم يوفقه اليها، رغم علمه بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإنه افضل حالا من الذي يبرر تركه لها بانها ليست واجبة اساسا، فمثل هذا التبرير اسوأ من ترك الصلاة، فالاول سيكون من السهل عودته الى الصلاة والاستقامة، أما الثاني فاحتمال هدايته وعودته سيكون بعيدا.

وكما هو معروف، فكل انسان معرض للخطأ لكن الاعتراف به بمثابة ارتقاء الى اولى درجات التوبة، فالندم يأتي بعد الاعتراف بالذنب داخليا وتمهيدا للتوبة فيما بعد، فاذا ترك الصلاة فليقضها، واذا اساء بعمل فليصحح عمله، وبهذا الاسلوب يمحو الانسان آثار ذنوبه من نفسه ويضمن النجاح في الامتحانات الالهية، فعلينا الاستفادة من الانفاق ـ ايضا ـ بمفهومه العام سبيلا للاستقامة، لان علاقتنا بالمال هي بمثابة استخلاف وتفويض او علاقة الموكل بالوكيل، فكل ما يرزقنا الله به فنحن انما مفوضون فيه، لا مالكون له، فإن الله جلت قدرته هو المالك المقتدر كما في قوله سبحانه وتعالى (وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، مع العلم بان الانفاق ليس بالضرورة ان يكون من المال، فالذي لا يملك المال فهو يملك اللسان والجاه والعلم مثلا، فحينئذ يمكن استثمار اللسان انفاقا في سبيل الله، باستخدامه في طريق الخير والاصلاح بين الناس، كما جاء في الحديث الشريف: "اصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام".

وكذلك الجاه باستغلاله في جمع التبرعات للفقراء وبناء المساجد وغيرها، والعلم بإخراجه ليستضيء به الناس، وكما هو معلوم فزكاة العلم نشره بين الآخرين.

ومن كل ما تقدم نستطيع القول بأن كل ما يملكه الانسان فهو مستخلف فيه ويجب ان يتخذه سبيلا لمرضاة الله جل شأنه واذا ما ترسخت هذه المفاهيم في نفسه فإنها ستقوده نحو الاستقامة وبالنتيجة سوف تؤدي به الى الحسنى، كما في قوله سبحانه وتعالى (فلا تموتنّ الا وانتم مسلمون).

سيف الدين علي

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)