إتمَام الحجج في تفسير مَدلول " و لا جدَال في الحَج "
الحمد لله الذي حرّضنا على الجدال والقتال ـ في جلّ الأحوال ـ ضد أولياء كل شيطان محتال ، ومنافق بطّال ، ومشرك مختال ، وقال : ( ... حرّض المؤمنين على القتال ... ) ، و ( ... جاهد الكفار والمنافقينَ واغلُظ عليهم ... ) ، و (... فقاتلوا أولياء الشيطان ... ) ، وقال : ( ... وجادلهم بالتي هي أحسن ... ) .
والصلاة والسلام على محمد وجميع انبياء الله ورسله ، الذين جادلوا بالحق ليدحضوا به الباطل ، والمشركين فأكثروا جدالهم ، وعلى آله الذين أفرغوا جهدهم في دعوة الناس إلى سبيل ربّهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، فبذلوا وسعهم في مجادلة الملاحدة والكفرة فأحسنوا جدالهم .
وبعد ، فقد قال عزّ من قائل : ( الحجُّ أشهر معلومات فمَن فرض فيهن الحجَّ ، فلا رفث ولا فسوق ولا جِدال في الحجّ وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى واتّقون يا أولي الألباب ) . قبل أن نتناول تفسير الآية نلقي الضوء على كلمة «جدال» لغة واصطلاحاً الواردة فيها :
ألف ـ المدلول اللغوي للجدال :
1- كلمة الجدال ، بكسر الجيم من « الجَدْل » ، وللجدل ذكرت المعاني التالية : شدّة الفتل التي هي أصل معنى « الجدل » ، فالإحكام والفتل هما روح هذه اللغة ، ويشكّلان أساسها أيضاً . وسائر المعاني الأخرى التي ذكرت لهذه اللغة في المعاجم وكتب اللغة ترجع إلى هذين المفهومين الذين هما أساسا هذهِ اللغة وتلائمهما . ولهذه المناسبة والملاءمة تطلق كلمة الجديل على « زمام الناقة » الذي يفتل من الأدم أو الشَّعْر ، ويعلّق على عنق البعير أو الناقة ، كما قال ابن منظور : « الجديل حبل مفتول من أدم أو شعر يكون في عنق البعير أو الناقة » . والذي يصحّح اطلاق الجديل على زمام النّاقة أو البعير هو أن هذا الزّمام مفتول وأُحكم فَتْله . وبهذه المناسبة تستعمل كلمة المجادلة في المخاصمة والمنازعة والمشاجرة ، ـ وهي نظائر ـ لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه الحق أو الباطل .
ونشير هنا إلى أن الجديل في بعض المعاجم ـ أيضاً ـ بمعنى الزّمام ، وبمعنى عقدي اللؤلؤ والمجوهرات الملوّنة اللذَيْن تشدّهما المرأة على صدرها : « الوشاح » .
2 ـ اشتداد صغار الغزال والحيوانات الأخرى لتكون قادرة على أن تتبع أمّها . أو اشتداد الحبّة في السّنبلة ، وبهذه المناسبة تطلق كلمة الجدل والجديل على العظام الكبيرة والمستحكمة ، والعظام المجوّفة في اليد والرّجل ، وعلى معان أخرى تفيد جميعها مفهوم القوّة والاستغلاظ . والجدل ، باعتبار القدرة على المخاصمة والجدال ، قد استعمل انطلاقاً من هذا المفهوم ، ولذلك أطلقت على كل فرد لَدُود في المخاصمة .
وبمراجعة معاجم اللغة ودراسة النصوص الأصيلة التي وردت فيها مادّة هذه الكلمة ، نستنتج أن في مفهوم هذه الكلمة ـ في الغالب ـ معنى الفتل أو الاستحكام والقوة ، أو المعنيين معاً . من هنا يجب أن نتلمّس في مفهوم الجدال روح هذه اللفظة : التي هي عبارة عن القدرة والقوة والفتل والشدّ . أي أن الفرد الذي يعمد إلى الجدال يكون قوياً آ« ومتصلباً آ» في الخصومة ، ويستهدف صرف الجانب الآخر عن نظرياته ، ويدفعه إلى الاستسلام . ويُرى في المعاجم توسعٌ أكثر في المدلول اللغوي للجدال ، لو أردنا استعراضه لطال بنا الحديث ; لذلك نختم الكلام مكتفين بهذا المقدار ، لنبدأ الحديث في
المدلول الاصطلاحي لكلمة الجدل والجدال :
ب ـ المفهوم الاصطلاحي للجدال والجدل : جدل = DIA LECTIQUE(F) Dialectic(E) الجدل طريقة في المناقشة والاستدلال ، وأخذ معاني متعددة في المدارس الفلسفية المختلفة :
* عند سقراط : مناقشة تقوم على حوار وسؤال وجواب ، يعني (التهكم والتوليد) .
* عند أفلاطون : منهج في التحليل المنطقي يقوم على قسمة الأشياء إلى أجناس وأنواع ، بحيث يصبح علم المبادئ الأولى والحقائق الأزلية .
* عند أرسطو ومناطقة المسلمين : قياس مؤلف من مشهورات ومسلّمات .
* عند هيغل : انتقال الذهن من قضية ونقيضها إلى قضية ناتجة عنهما ، ثم متابعة ذلك حتى نصل إلى المطلق .
* عند كانط : منطق ظاهري ينحصر في سفسطة المصادرة على المطلوب وخداع الحواس . قال الجرجاني في « التعريفات » : الجدل هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلّمات ، والغرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدّمات البرهان .
الجدل والمجادلة في القرآن الكريم والأحاديث :
وردت كلمة « الجدل » في كتاب الله العزيز في موضعين ، ووردت مشتقّات من المجادلة في ثلاثة وعشرين موضعاً ، ووردت كلمة الجدال في موضعين . ينبغي قبل دراسة هذه المواضع التذكير بأن مصطلح « الجدل » ـ إضافة إلى أنه يعني في المنطق القياس المتأتي من المشهورات والمسلّمات ـ في علوم القرآن والتفسير يعني أيضاً ، الاستدلال والقياس البرهاني . وعلى سبيل المثال :
1. بدر الدين الزركشي في النوع الثالث والثلاثين عقد باباً في كتابه آ« البرهان آ» تحت عنوان « في معرفة جدله » ، أي جدل القرآن .
2. وهذا هو جلال الدين السيوطي في النوع الثامن والستين فتح باباً في كتابه « الإتقان » تحت عنوان « في جدل القرآن ». وهما قصدا من الجدل آ« مفهوماً واسعاً آ» يشمل القياس الجدلي والقياس البرهاني عند المنطقيين . وقال بدر الدين الزركشي : « وقد أفرده بالتصنيف نجم الدين الطوفيّ (ت 716 هـ.ق) ، قال العلماء : « قد اشتمل القرآن الكريم على جميع أنواع البراهين والأدلة ، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير يبنى من كليات المعلومات العقلية أو السمعية إلا وكتاب الله قد نطق به .. » .
و اضح أن المقصود من هذا المصطلح ليس هو مفاهيم الجدل الأخرى كالمغالطة والسفسطة ، بل هو استخدام القياس الذي يهدي الخصم إلى الحق والحقيقة وصلاح الحال والمآل ، من هنا لا يمكن القول : إن الجدل أو المجادلة تقوم على المخاصمة واللّجاج المذموم ، وحتّى في القرآن الكريم ـ حيث وردت مشتقّات هذه الكلمة في مواضع مختلفة ، وفي استعمالات متباينة ـ لم ترد جميعاً بمعنى الخصومة والجدال المذموم . الجدل والمجادلة في القرآن أساساً بمفهوم الاستدلال ، فوردت في مواضع بمعنى الاستدلال الخاطئ والواهي الممزوج بالمخاصمة ، وفي مواضع أخرى بمعنى الاستدلال الصحيح والمنطقي ذي الأساس العقلاني المقرون بالأنس والمحبة والمودّة . وبشكل عام أن المنهيّ عنه في القرآن من الجدل والمجادلة هو اللّجاج والعناد ، والاستدلال المقرون بالسفسطة لإثبات أمر باطل بعيد عن الواقع . نقول في تفسير الآية 197 من سورة البقرة : إن الجدال والاستدلال المتجه إلى إثبات الحق ليس بمنهيّ عنه في القرآن الكريم بل هو أكثر من ذلك ، فقد كُلّف المسلمون جميعاً بمثل هذا الجدال والمجادلة ، كما سنرى في تفسير هذه الآية : (الحجُّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ... ) . المدة لأداء مناسك الحج هي الأشهر التي عينتها الشريعة المقدسة الإسلامية ، ولا يمكن أداء هذه المناسك أكثر من مرة واحدة في السنة ، بينما يمكن شرعاً أداء العمرة عدّة مرات خلال أشهر السنة . والأشهر التي يمكن فيها أداء مناسك الحج على رأي الشيعة : شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة أو كل ذي الحجة ، وأهل السّنة أيضاً ذهبوا إلى أن الفترة هي شوال وذو القعدة وبعض أيام من ذي الحجة وقيل : إنها العشرة الأولى من هذا الشهر .
من هنا لا يجوز تقديم المناسك ولا تأخيرها عن هذه الأشهر ، كما كان يفعل النسأة الذين كانوا يجيزون تقديم الحج وتأخيره ، وقد قال الله تعالى : (إنّما النسيء زيادة في الكفر يُضلّ به الّذين كفروا يُحلّونه عاماً ويُحرّمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم الله فيُحلّوا ما حرّم الله ، زيّن لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ) .
النسأة هم الذين أحلّوا التقديم والتأخير في الحج
و من أوجب على نفسه الحجَّ في هذه الأشهر ـ أي الأشهر المحدّدة لإحرام الحج ـ وأحرم فيها لعمرة التمتع على رأي الشيعة ، فلا يجوز له أن يمارس الأعمال الجنسيّة من جماع وتلذّذ : ( فلا رفث ) . ولا يجوز له الكذب ، كما يجب أن يصون لسانه من سبّ المؤمن وشتمه ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر » .
وقيل : إن المراد بالفسوق كل ألوان المعاصي . وقال بعضهم : « إنه التنابز بالألقاب » أو « الكذب » ، ولا جدال في الحجِّ .
وكل ما يقدّمه الإنسان من عمل صالح ، فالله به عليم ، ولعدله يثيب الصّالحين على ما قدّموا من خير . وتأمر الآية بالتزوّد في الحجّ بما يحتاجه المسافر في الطريق ، أو بالأعمال الصالحة التي هي زاد الآخرة ، ( فإنّ خير الزاد التقوى ) .
وتؤكد الآية الكريمة على التقوى لأجل مطالبة أهل العقول أن يتّقوا الله ( واتقون يا أولي الألباب ) ، هذا هو موجز تفسير الآية المذكورة في سورة البقرة .
* والذي نريد أن ندرسه ونمعن النظر فيه بدقة هنا ، هو الجدال المنهي عنه في هذه الآية ، ذلك لأن فئة من السطحيين أو المتزمتين الجاهلين ، أو الفقهاء المأجورين للمستكبرين ، المنفذين لأوامر السلاطين ، اتخذوا من هذه الآية ذريعة لتوجيه سياط نقدهم إلى المسلمين ، الذين يرفعون صوتهم في موسم الحجِّ بلعن شياطين الإنس والجن ، والذين يستهدفون توعية المسلمين واستنهاضهم .
( ولا جدال في الحجِّ ) ، ما هو الجدال المَنهي عنه في الحجِّ ؟
ألف ـ ما هو المقصود من هذا الجدال ؟
1 ـ آراء المفسرين وعلماء الشيعة في هذا المجال :
ذكر المفسرون وفقهاء الشيعة أن الجدال في الحج هو قول : آ« لا والله آ» و آ« بلى والله آ» جدير بالذكر أن هذا القول هو الحدّ الأدنى من الجدال ، حيث يروم الفرد بذلك القسم أن يصرّ على قوله ورأيه ، أو ينقض رأي مخاطبه ليرجّح عليه رأيه .
من هذا يتبيّن أن آ« الجدال في الحجّ آ» ـ بهذا المفهوم ـ مقرون بالقسم ، أي مقرون بالتشديد والتأكيد ، وهذا المعنى يرتبط بما ذكرناه بشأن الأصل اللغوي لكلمة الجدال .
حسب هذه النّظرية ، لو أراد شخص أن يؤكّد أقواله أو ينقض أقوال الآخرين ، ولم يمزج ذلك بقسم ، ولم يشدّد على قوله بيمين ، فليس ذلك من الجدال في الحجّ ولم يصدر بشأنه نهي . ولكي نعطي صورة أكمل عن نظرية الشّيعة في هذا الصدد ، نذكر خلاصة لما ذكره المرحوم الشيخ محمّد النجفي الإصفهاني حول الجدال في الحج :
« والجدال كتاباً وسنّة وإجماعاً بقسميه هو على ما في أكثر كتب الأصحاب أو جميعها وأكثر النصوص ، قول « لا والله » و « بلى والله » . و نحن نذكر بعض النصوص على سبيل المثال :
- صحيح معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله ( جعفر بن محمّد الصّادق )، (عليه السلام) عن رجل يقول : « لا لعمري » وهو محرم ؟ ، فقال : ليس بالجدال ، وإنما الجدال قول الرّجل « لا والله وبلى والله » ، وأما قوله « لا ها» فإنما طلب الاسم ، وقوله « يا هناه » فلا بأس به ، وأما قوله « لا بل شانيك » فإنه من قول الجاهلية .
- وفي خبر أبان بن عثمان عن أبي بصير ـ على ما في التهذيب ـ قال أبو عبد الله (عليه السلام) : « إذا حلف الرّجل ثلاث أيمان ـ وهو صادق ، وهو محرم ـ فعليه دم يهرقه ، وإذا حلف يميناً واحدة كاذباً فقد جادل ، فعليه دم يهرقه » .
- لكن روي عن أبي بصير في خبر آخر أنه قال : سألته عن المحرم يريد أن يعمل العمل فيقول صاحبه : « والله لا تعمله » ، فيقول : « والله لأعملنّه » فيخالفه مراراً ، أيلزمه ما يلزم صاحب الجدال ؟ قال : إنما أراد بهذا إكرام أخيه ، إنما ذلك ما كان فيه معصية ».
- الجدال عند الإمامية قول « لا والله وبلى والله » بدليل إجماع الطائفة وطريقة الاحتياط ، وأما قول المخالف : « ليس في لغة العرب أنّ الجدال هو اليمين » ليس بشيء ; لأنه ليس بممتنع أن يقتضي العرف الشّرعي ما ليس في الوضع اللغوي ... ، بل ظاهر الروايات اعتبار الكذب أو كونه معصية مع ذلك ، فلو جادل صادقاً لم يكن عليه شيء ، مؤيد ذلك بأصل البراءة ، وبنَفْي الضرر والحرج في الدين ، وبأنه ربما وجب عقلا وشرعاً ، إلا أن عموم النص والفتوى ، وخصوص نص الكفارة على الصّادق بخلافه ، ولعل هذا ما دعا الجبعي ] العاملي [إلى القول في الدّروس :
« الجدال فاحشة إذا كان كاذباً أو في معصية ، فاذا قاله مرّتين فعليـه شاة » . ويقول صاحب الجواهر : « ثمّ إن الظاهر عدم اعتبار وقوع الأمرين (يعني « لا والله » و « بلى والله ») في تحقق الجدال ، فيكفي أحدهما ...، فتلخص مما ذكرنا كون الجدال الحلف بالله بالصيغة المخصوصة يعني « لا والله » أو « بلى والله » ، لا مطلق الحلف بالله وإن لم يكن بالصيغة المزبورة » .
2 ـ الجدال في الحجّ في رأي المفسرين وفقهاء أهل السّنة :
ولكبار المفسرين والفقهاء من أهل السنة آراؤهم المتعددة في تفسير « الجدال في الحجّ » ونحن نلقي عليها الضوء باختصار :
* يعقد الطبري وغيره في تفاسيرهم بحثاً مفصلا بشأن الجدال في الحجّ ، ملخصه ما يلي :
* قال بعضهم : معنى ذلك النهي هو المنع عن أن يجادل الُمحْرم أحداً ، وهو أن تماري صاحبك حتى تغضبه ، وأورد الطبري أحاديث كثيرة بهذا التعبير في كتابه .
* الجدال في الحجّ : السباب والمراء والخصومات .
* عن محمد بن كعب القرظي قال : الجدال ، كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجّنا أتمّ من حجّكم .
* عن القاسم بن محمّد أنه قال : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحجّ اليوم ، ويقول بعضهم : الحجّ غداً .
* قال ابن زيد في قوله : آ« ولا جدال في الحجّ آ» قال : كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون ، كلّهم يدّعي أن موقفه موقف إبراهيم ، فقطعه الله حين أعلم نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمناسكهم .
* ولا جدال في الحج ، خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحج على ميقات واحد لا يتقدّمه ولا يتأخره ، وبطلان فعل النسيىء (ونحن أسهبنا القول في تفسير معنى النسيىء كما سبق في هذا المقال) .
واختار الطبري هذا القول من بين سائر الأقوال لبيان مدلول آ«الجدال في الحجآ» . ثم يقول : وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك ورأيناه بالصواب مما خالفه ، لما قدّمناه من البيان آنفاً في تأويل قوله : ( ولا فسوق ) : انه غير جائز أن يكون الله خصّ بالنهي عنه في تلك الحال مطلق مباح في الحال التي يخالفها ، وهي حال الإحلال ، وذلك أن حكم ما خصّ به من ذلك حال الإحرام ، وان كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال فلا وجه لخصوصه به حالا دون حال ، وقد عمّ به جميع الأحوال . وإذ كان ذلك كذلك وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله : ( ولا جدال في الحج ) ، ان تأويله : ( لا تمار صاحبك حتى تغضبه ) إلا أحد المعنيين :
ـ إمّا أن يكون أراد : لا تماره بباطل حتى تغضبه ، فذلك ما لا وجه له ، لأن الله ـ عزّ وجلّ ـ قد نهى عن المراء بالباطل في كل حال ، محرماً كان المماري أو محلاًّ ، فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه ، لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهي الله عنه .
ـ أو يكون أراد : لا تماره بالحق ، وذلك ـ أيضاً ـ لا وجه له ; لأن الُمحرم لو رأى رجلا يروم فاحشة كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها ، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحق له قد غصَبَهَ عليه ، كان عليه مراءه فيه وجداله حتى
يتخلّصه منه .
* ويقول محمّد رشيد رضا : « وقيل : هو المراء بالقول ، وهو يكثر عادة بين الرّفقة والخدم في السّفر ، لأنّ مشقّته تضيّق الأخلاق ، هذا هو المشهور » . كما قال البروسوي : « ولا جدال » أي لا مراء مع الخدم والمُكارين ; لأنه يُفْضي إلى التّضاغن وزوال التأليف . فأما الجدال على وجه النظر في أمر من أمور الدين فلا بأس به .
يقول محمّد رشيد رضا : « قال الأستاذ الإمام (محمد عبده) : إن تفسير الكلمات الثلاث (أي الرفث والفسوق والجدال) ينبغي أن يكون متناسباً وبحسب حال القوم في زمن التشريع .
ـ فأما الرفث : فهو كما قيل : الجماع .
ـ وأما الفسوق : فهو الخروج عمّا يجب على الُمحْرم إلى الأشياء التي كانت مباحة في الحل ، كالصيد والطيب والزينة باللباس الَمخيط .
ـ والجدال : هو ما كان يجري بين القبائل من التنازع والتفاخر في الموسم . فبهذا يكون التناسب بين الكلمات ، وإلاّ حمّلت كلها على مدلولها اللغوي ، فجعل الرّفث : قول الفحش ، والفسوق : التنابز بالألقاب على حدّ ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق ) والجدال : المراء والخصام . فتكون هذه المناهي كلّها آداباً لسانية .
بعد هذه الجولة في آراء الفريقين بشأن ( ولا جدال في الحجّ ) نطرح هذا السؤال : هل الجدال ضد شياطين الجنّ والإنس ممنوع في حال الإحرام ؟
يقول الإمام فخر الدين الرّازي في ثنايا تفسير الآية الّتي نحن بصددها :
« وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ، واحتجّوا عليه بقوله تعالى : ( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ... ) ، وبقوله ـ تعالى ـ حكاية عن الكفار ، إنّهم قالوا لنوح (عليه السلام) : ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ... ) . ومعلوم أنّ ذلك الجدال ما كان إلاّ لتقرير أصول الدّين .
إذا ثبت هذا فنقول : « لا بد من التوفيق بين هذه النصوص (يعني النصوص التي ذكرها الرّازي) ، فنحمل الجدال المذموم على الجدل في تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، والجدال الممدوح على الجدل في تقرير الحق ، ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذبّ عن دين الله » .
إن مناسك الحجِّ بأسرها طافحة بمظاهر الجدال ، الجدال في تقرير الحق ، ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذبّ عن دين الله ، الجدال مع الشيطان ومخاصمته وتحدّيه . هذه المناسك العظيمة تبتدئ بهذا الموقف المتصلّب إزاء الشيطان وتنتهي به : رمي الجمار الذي يتم في المراحل الأخيرة من المناسك هو تجسيد معنى الاستعداد الدّاخلي ، وللتأهّب نحو مواجهة العدو الأصلي المتمثّل بالشيطان ، ومن ثمّ رميه .
الرّمْي يُبْدأ بدعاء : « اللهمّ ادْحَر عنّي الشّيطان » ، وهو تعبير عن إدانة العامل الأساسى في ارتكاب المعاصي ، والوقوع في أنواع الشقاوة والتهلكة ، والحاج بهذا يعلن عن عزمه على مواجهة ومجابهة ومجادلة خطط الشيطان الماكرة بكل ألوانها .
الحاج في مثل هذه الحالة يُعرب عن ذروة رفضه لكل فساد ولكل عامل فساد ، ويستثمر فرصة وجوده مع سائر أبناء أمته الإسلامية ليوطّد عرى تلاحمه ، وليوحّد خطاه معهم ، ثمّ يرمي أعداءه (من شياطين الإنس) كما رمى رموز الشياطين المتمثّلة بالجمرات .
وهذه الظاهرة توعية للمسلمين وشحذ لهممهم ودفعهم إلى أن لا يُرْهبوا من قوى الشرق والغرب المعادية للإسلام ، ولا يخافوا شياطين الجنّ والإنس ; لأنهم قادرون بتلاحمهم أن يهزموا أعداءهم مهما تزايدت قدرة الأعداء .
رمي الجمار يصعّد روح المقاومة والجهاد في نفوس المسلمين ليواجهوا الأعداء ويجادلوهم ويمنعوهم من كل تطاول على مقدسات المسلمين ، ويكفوا أيديهم عن نهب ثروات المسلمين الماديّة والمعنويّة .
هل الحجّ الذي ينطوي على هذه المفاهيم الثائرة الملحميّة يجب أن يمرّ بهدوء دون أن يحرّك ساكناً ؟
ألا ينبغي أن يكون الحج أبرز مظاهر إلقاء الرّعب في قلوب أعداء الله ؟ ألا يجب أن ترتفع فيه أصوات المسلمين مندّدة بالشياطين الكبرى والوسطى والصغرى ؟ وهل مثل هذا العمل من الجدال منهيٌّ عنه في الحج ؟
لو كانت كل ألوان المقاومة والصمود والمجادلة محظورة في موسم الحجّ لانتفى رمي الجمار ; لأنه لون من ألوان المقاومة ومقارعة الشيطان ، ولانتفى بعد ذلك كل موقف يتّخذه المسلمون في هذا الموسم بوجه من يذلّونهم وينتهكون حرماتهم ويسرقون ما عندهم .
هؤلاء الذين يريدون أن يُبْعدوا الحج عن كل ما يزعج طواغيت الأرض ، عليهم أن يمنعوا التكبير والتهليل أيضاً ، لأنّ في كلمة « الله أكبر » تصغيراً لشأنهم ولشأن كل ما سوى الله ، وكلمة آ« لا إله إلاّ الله آ» تُنزّل هؤلاء الطّغاة من عرش ألوهيّتهم ، وتبعد الناس عن عبادتهم ; لأنها دعوة إلى إخلاص العبوديّة لله دون سواه .
أيّ مفسّر وأيّ فقيه من مفسّري وفقهاء المذاهب الإسلاميّة قال : إن مجادلة شياطين الأرض ، وإعلان الوقوف بوجه الظالمين والطّغاة هي الجدال المنهيّ عنه في الحجّ ؟ كل مظاهر ومناسك الحجّ تنبئ بأنّ هذه المناسك ينبغي أن تتحول إلى صرخة تصمّ آذان الطغاة ، وإلى وهج يعمي عيون الظّالمين ، وإلى حشد قوي متماسك يلقي الرّعب في قلوب أعداء الله . ولعلّ ذلك هو السبب في ضرورة التلبية الجماعية وضرورة رفع الصوت بالتلبية في موسم الحجّ .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « أتاني جبريل فقال لي : إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحجِّ » . وقال أيضاً : « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية » . وليس ذلك منحصراً في التلبية فقط ، بل في كل شعارات الحجِّ ، قال (عليه أفضل الصلاة والسلام) : « أمرني جبريل برفع الصوت في الإهلال ، فإنه من شعائر الحجِّ » .لا أدري كيف تبلغ الجرأة بالمدافعين عن مصالح القوى الكبرى لأن يعلنوا أن رفع الصّوت بكل شعار إسلامي مناف لأهداف الحج ؟ ولعلّ الجرأة تبلغ بهم إلى منع الهرولة في السعي بين الصّفا والمروة لأنها نوع من التّحرّك الشديد .
كيف يريد هؤلاء سلب الحجّ من مظاهر الحركة ، وكلّه حركة تتبلور في طواف وسعي وإفاضة آناءَ الليل وأطراف النّهار ؟
إنّ الحجَّ انقطاع عن الانشداد بالأرض والاتجاه نحو بيت الله الحرام « رجالا » وعلى كل « ضامر » لإعلان الالتفاف حول محور دين الله ، ولمقارعة كل أعداء الله من شياطين الإنس والجن .
ألم يصرّح المفسرون عند تفسير قوله تعالى : ( ولا جدال في الحجّ ) أن الجدال في الدّين طاعة عظيمة ؟ ألم يقل سبحانه وتعالى : ( ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن ) ؟، وهل استثنى موسم الحجّ من مجادلة الكفر المتحكّم في رقاب المسلمين ، والفساد المستشري في بلادهم ، وشياطين الإنس والجنّ بمقدّراتهم ؟، هل الأمر بالدعوة إلى سبيل الله لا يشمل موسم الحجِّ الذي تطفح مناسكه بالحركة والمقاومة والمنافع ؟ لم يقل بذلك مفسر وفقيه . لم يجرؤ عالم حتى اليوم أن يقول : إنّ على المسلمين أن يتّخذوا في موسم الحجِّ موقف السّكوت والسّكينة واللامبالاة تجاه ما يجري على المسلمين من مصائب ، وما يحلّ بهم من تقتيل وتشريد ونهب وانتهاك .
الحجُّ أصلا والاحتجاج من أصل لغوي واحد ، « وتَحاجّوا » تعني تجادَلوا ، والِمحجاج : الذي يكثر الجدل ، فكيف ـ والحالة هذه ـ يمرّ الحجّاج ـ وهم قادمون (من كلّ فجّ عميق) ليتجمّعوا على أرض الطواف حول بيت الله ، وأرض رمي الشّيطان عدو الله ـ مرّ الكرام تجاه ما ينزل بالمسلمين من قبل قوى الشّرق والغرب ، ومن دون أن ينبسوا ببنت شفة ، ومن دون أن يدينوا ـ على الأقلّ ـ الغرب والشرق على جرائمهما في فلسطين المحتلّة ولبنان والبوسنة والهرسك .
كيف بمقدور أمّة ـ فيها ولو ذرّة من وعي وغيرة ـ أن تتجمّع في موسم الحجِّ ، ثمّ تغمض عيونها عمّا يفعله اليهود والصهاينة في أرض فلسطين المحتلّة ، وعمّا ينوون أن يفعلوه ؟
كيف يمكنهم أن يسكتوا أمام مخططاتهم الرّامية إلى السيطرة على عالمنا الإسلامي من النّيل إلى الفرات ؟
إنّ ما يشهده موسم الحجِّ خلال الأعوام الأخيرة إنّما هو تعبير طبيعي عن الصّحوة الّتي تصاعدت في إيران ، وعمّ نورها بقاعاً مختلفة من عالمنا الإسلامي ،
ولا يمكن أبداً إخماد هذه الصّحوة باسم ( ... ولا جدال في الحج ... ) لأن الحجّ من مناهج الدّين ، والدّين قال لنا :
« مَن أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم » . نعم لا يمكن للمسلم أن ينسى كل أصول دينه وفروعه لإرضاء فئة تريد أن تحوّل الحجَّ إلى مقبرة والحجيجَ إلى أموات . لا يمكنهم ; لأنّ مناسك الحجِّ حركة وكفاح ، ولأنّ الدّين كلّه حركة توحيديّة ترفض الآلهة المزيّفة ، وتقارع شياطين الجنّ والإنس .
الحجُّ نفسه جهاد ، والجدال مع الكفر في موسم الحجِّ جهاد مضاعف وطاعة أخرى .
يقول الإمام فخر الدّين الرّازي في تفسير ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجِّ ) : آ« ولو كان الجدال في الدّين طاعة وسبيلا إلى معرفة الله تعالى لما نُهي عنه في الحجِّ ، بل على ذلك التّقدير كان الاشتغال بالجدال في الحجّ ضمّ طاعة الى طاعة ، فكان أولى بالترغيب فيه ...
فَتُحْمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، والجدال الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله والذبّ عن دين الله تعالى » .
شرّع الله سبحانه وتعالى الحجَّ لتحقيق منافع سامية للأمة الإسلامية منها :
إن المسلمين المتّجهين إلى بيت الله ينقطعون عن بيئتهم ، ويهجرون الأهل والأحباب ، ويتركون ما كانوا يألفونه كل يوم من سكن وعمل رتيب ، ويهاجرون أوطانهم نحو بيت الله الحرام ، وقبل أن يدخلوه ، عليهم أن يتجرّدوا من ثيابهم وينزعوا من نفوسهم وأبدانهم كل مفاخرهم ورواسبهم وامتيازاتهم ، ويتّجهوا بشكل واحد وبخطىً متّحدة نحو مكّة المكرّمة ليكونوا على صعيد بيت
الله الحرام أشبه بالمبعوثين في عالم المحشر
و في هذا الجو المتحرّر من الذّات والذّاتية ، ومن الأنا والأنانية يعيش الإنسان ـ بطبيعة الحال ـ هموم أمّته أكثر من ذي قبل ، ويفكّر بشؤون المسلمين وما يحيط بهم من مشاكل ، ويزداد اهتمامه بالأمور العامّة بعد أن كانت الهموم الخاصّة تشغله وهو بين أهله ومتاعه .
ثمّ إن أرض مكّة طافحة بالذكريات التي تستحث المسلم أن يراجع أحداثها ، ويدرس وضعه ووضع المسلمين على ضوئها ، فهي أرض التوحيد وإخلاص العبوديّة لله ، وأرض تحطيم الأصنام ومقارعة الوثنيّة والشّرك . وكل هذه الظواهر القائمة على أرض مكّة المقدّسة تدفع بالحاج لأن يفكّر في الأصنام البشرية وغير البشريّة المنتصبة على ظهر الأرض ، وفي الآلهة المزيّفة التي تحثّ الناس على أن يعبدوها من دون الله . ذكريات هذه الأرض تعيد إلى الأذهان ذلّ الكفر حين ظهر الإسلام وعلّم أبناءه قائلا : ( ... ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )، (1) . وحين علّمهم أنّ العبادة ـ وخاصة عبادة الحجِّ ـ لا تنفصل عن الجهاد : قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «الحجّ جهاد ، والعمرة تطوّع »، (2) . وقال أيضاً : « نعم الجهاد الحجّ » ، (3) . أين هذه التعاليم السّامية الحركية من وضعنا الرّاهن اليوم ، حيث الجمود والخمود والذّل والاستكانة ، وحيث الأعداء يفترسون أشلاء جسد أمتنا الإسلامية من كل حدب وصوب ، وحيث أفرغت العبادات من كل محتوى وتحوّلت إلى طقوس خالية من كل روح ؟
أين هذه التعاليم من هذه الفتاوى التي يصدرها بعض الفقهاء داعية المسلمين إلى الكفّ عن إدانة أعداء الله في موسم الحجِّ ومعلنة حرمة هذا العمل ؟، وعلى هذا لا نجد مبرراً أن تصدر فتاوى لا تنسجم إطلاقاً مع روح الحجّ ، ولا يستفيد منها إلا منتهكو أعراض المسلمين ومقدساتهم . وعلى المسلمين اليوم أن ينصاعوا لقوله تعالى : ( ولا تَتبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل )، (4) .
وعليهم أن يصيغوا السّمع لنداء الله سبحانه ويحوّلوا الحج كما كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)منطلق البراءة من المشركين : ( وأذان من الله ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه ... )، (5) .عليهم أن يفهموا أن منطلق البراءة من المشركين لا يجوز تحويله إلى خمود وخنوع ، ولا يجوز إفراغه من محتواه الحركي النّاهض ، بل يجب أن يكون في عصرنا هذا منطلق الصّرخة الّتي ترهب أعداء الله ، ومنطلق العزّة التي تعيد الرّفعة لدين الله ، ومنطلق الحركة نحو استعادة العزّة التي شاءها الله ـ تعالى ـ لنا .
نسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يمنّ على أمّتنا الإسلاميّة باليقظة والصحوة ، وبالعودة إلى إسلامنا الحقيقي لنعود أمّة واحدة آ« شاهدة آ» على ساحة التأريخ و آ« وسطاً آ» بين شعوب العالم .
الهوامش :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء : 141 .
(2) سنن ابن ماجة (المناسك) ، 44 . (راجع : المعجم المفهرس لألفاظ الحديث) .
(4) الجامع الصحيح ، البخاري ، 62 .
(5) المائدة : 77 .
(2) التوبة : 3 .
الحجّ في القرآن