• عدد المراجعات :
  • 3147
  • 10/16/2007
  • تاريخ :

احترام العقل

 العقل

نعني باحترام العقل هنا استخدام العقل في تحصيل العلم وفهم الموجود، فهم الذات والعالم الخارجين والتعامل مع الأشياء تعاملاً عقلياً

فالعقل هو المنطلق الأول لحركة النهوض والانعتاق، وهو جوهر الإنسانية، والقوة المدركة لعالم الطبيعة والإنسان،والأداة الفعالة في صنع الحضارة والمدنية. وعندما ينطلق العقل حراً، يفكر ويتأمل، ويتعامل مع الرسالة الإلهية والطبيعة والحياة والأشياء، وفق نظام نظري وعملي متقن الأداء، تكون الأمة قد وضعت أقدامها على مسار التغيير والانطلاق.

وحين يُقمع العقل، ويتسلط الإرهاب الفكري، وتُشل حركة الإبداع وقوى الإنسان العقلية عن ممارسة دورها الموكول إليها في الحياة، فسوف لن تخرج الأمة من كارثة التخلف وظلمات الجهل والركود.

لذا انطلق القرآن بالعقل يقوه من نصر إلى نصر، ويفتح به آفاق الوجود من فتح إلى فتح. يدعوه إلى فهم عالم الطبيعة والوجود، كما يدعوه للانفتاح على ما فيه من قيم ومبادئ وعقيدة وأفكار وشريعة:

(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد/ 24.

( ... إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر/ 42.

وعلى إمتداد تأريخ البشرية كانت المعركة بين العقل والخرافة والتخلف سجالاً وملاحم متواصلة.

ويُصور إمام العقل، علي بن أبي طالب (ع) قيمة العقل من خلال عرض قصة الحوار بين آدم وجبرئيل (ع) فيقول:

((هبط جبرئيل على آدم ـ صلوات الله عليه ـ فقال: يا آدم! إني أمرت أن أخيرك في ثلاث، فاختر واحدة ودع إثنتين، فقال له آدم: يا جبرئيل! وما الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدين، فقال آدم: فإني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين إنصرفا، ودعاه فقالا: يا جبرئيل! إنا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج)).

وروي عنه (ع) قوله: ((صدر العاقل صندوق سره، ولا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب)).

لقد أسس القرآن الحياة والحضارة والمدنية على أساس العقل، حتى صح أن نقول أن الحضارة الإسلامية حضارة عقلية، وأول أسس هذا البناء هو العقيدة الإسلامية، فقد خاطب القرآن العقل، ودعا إلى التفكر والتأمل والفهم والاستنتاج، ورفض الخرافة والأساطير والتقليد الأعمى.

واعتمد القرآن في كل ذلك الدليل والبرهان الحسي والعقلي لإثبات وجود الخالق والتعريف به سبحانه.

وإنطلاقاً من هذا المنهج، منهج البرهنة والاستدلال، قال علماء الإسلام بأن الإيمان بالعقيدة الإسلامية لا تقليد فيه، بل يجب على الإنسان أن يؤمن إيمان دليل وبرهان عقلي، وبغض النظر عن مستوى هذا الدليل والبرهان.

وكما اشترط في الإيمان بالله سبحانه الدليل والبرهان العقليين، جعل الطريق إلى تصديق الأنبياء هو العقل. وبذا اُعطي العقل الدور الأول في بناء المعرفة والحياة. بل وجعل القرآن العقل دليلاً للمسير في دروب الحياة جميعها، يتعاضد هو والشريعة في رفقة المسار.

ولكي يتضح لنا تعامل القرآن مع العقل فلنقرأ بعضاً من مخاطبته للعقل:

(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) البقرة/ 164.

(يؤتي الحكمة مَن يشاء ومَن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب) البقرة/ 269.

(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) العنكبوت/ 20.

(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل/ 44.

وهكذا يعتمد القرآن العقل والعلم والتفكر، ويسقط الجهل والخرافة وتقليد الآباء، فيدعو إلى النهج العلمي، ويرفض الإنسياق مع الجهلة والغوغاء.

وعندما يتحكم العقل، وتنشأ الحياة على أسس عقلية، ويُوظف العقل، تنهض الأمة، وتحتل مكانتها القيادية الرائدة في تأريخ البشرية، وحين يغيب العقل، وتتحكم الخرافة والجمود والتحجر، ويُفرض الإرهاب الفكري على العقل، وتقديس الموروث الخاطئ الذي لا يسنده الدليل ولا يقره العقل، ويتوقف التفكير والإبداع الفكري ويحدد الجهال والمتخلفون للأمة مسارها، فسوف لن تنهض الأمة، ولن تكون إلا في أخريات الركب، ولن تكون إلا كماً مُهملاً تتصارع القوى المعادية على نهبه واقتسامه وتسخيره.

وإذاً فلا نهضة ولا تقدم، ولن ينعم الإنسان بالحياة، حتى يحتل العقل دوره الرائد في قيادة الحياة، كما أراد القرآن له ذلك.

يحتل العقل دوره في العلم والبحث العلمي في مجال الطبيعة والمجتمع، كما يحتل دوره في فهم الإسلام والشريعة، ووعي النص الشرعي، وكلاهما آيتان من آيات الله، آيات الوحي، وآيات الكون.

فكتاب الله التشريعي مساوق لكتاب الله التكويني في العلم والدقة والعظمة والإتقان كما يقول العلماء.

والسبيل إليهما هو العقل الواعي المتحرر من قيود التخلف والجمود والشكلية الساذجة، لذا ذمّ القرآن تعطيل العقل، والتحجر الفكري ودعا إلى التدبر والتأمل في كتاب الله، فقال:

(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد/ 24.

إن أخطر ما يواجهه العقل هو كبت نشاطه، وفرض الإرهاب الفكري، وأخطر وسائل الإرهاب الفكري، هو السلطة والسياسة المستبدة، والتستر خلف الدين وباسمه لمحاربة العقل، نصير الدين، ودليل الإنسان على الله سبحانه، ليعمل العقل وفق ما يخطط له، وليس وفق آليته العملية التي أودعها الله فيه. وبذا ينتهي الأمر إلى مصادرة العقل والتسليم لنمط مفروض من التفكير الذي يتجافى والعقلية العلمية، ومكتسباتها النيرة. نعني باحترام العقل هنا استخدام العقل في تحصيل العلم وفهم الموجود، فهم الذات والعالم الخارجين والتعامل مع الأشياء تعاملاً عقلياً.

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)